< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

39/02/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: لاضرر ولا ضرار(7)

 

قد يستشكل: في انطباق هذه القاعدة (لا ضرر) على ما ذُكر في قصَّة سمرة بن جندب.

ووجه الإشكال: هو أنَّ الضَّرر في تلك القضيَّة نشأ من دخول سمرة بن جندب إلى عَذَقِهِ بدون الإستئذان من الأنصاري.

وأما بقاء العَذَق في البستان فلا يترتب عليه ضرر. وعليه: فإذا لم يكن بقاء عَذَقِهِ مضراً بالأنصاري فلماذا أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بقلعه وعلّله بقوله (صلى الله عليه وآله): «لا ضرر». أي لا حكم ضرري بالشريعة. فالقاعدة حينئذ لا تنطبق على المورد.

أقول: لا يخفى عليك أن الأمر بالقلع حكم ولائي سلطاني لكون النبي (صلى الله عليه وآله) رئيساً وسلطاناً للدولة الإسلامية، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾.

ومن المعلوم أن أوامره (صلى الله عليه وآله) بما يتعلق في شؤون الدولة أوامر سلطانية وامتثالها إطاعة له (صلى الله عليه وآله) كما إذا جعل الإمارة لشخصٍ على العسكر فإنه تجب إطاعته لكونه زعيم الأمة، وهذا المنصب للرسول (صلى الله عليه وآله) هو أيضاً ثابت للأئمة (عليهم السلام) فلهم الولاية على الأمة، بل هو ثابت «بالجملة» للفقيه المأمون.

والخلاصة أن سمرة بن جندب لمّا أصرّ على ظلمه ولم يرتدع ولم يقبل ما عرض عليه الرسول (صلى الله عليه وآله) اقتضت المصلحةُ الأمرَ بقلع العَذَق حسماً لمادة الفساد حتى لا يبقى لسمرة عذر في الدخول الى البستان.

وربما يظهر من هذه القضية أن محل العَذَق ليس ملكاً لسمرة بن جندب، إذ لو كان ملكاً له لم يسقط حقّ مروره بقلع العذق.

وعليه: فبقاء العذق في مكان الغير إما كان بإذن مالكه، أو بجعل حق له في بقائه وإن كان الإنصاف أنّ حقّه يسقط وإن كان ملكاً له كما سنشير له قريباً.

ومهما يكن فإن الأمر بالقلع لا ربط له بقاعدة لا ضرر، وليس مورداً لها حتى يقال كيف لا تشمل القاعدة موردها. نعم لمّا كان دخول سمرة بن جندب يغير استئذان فيه ضرر على الأنصاري فيمكن نفيه حينئذ بقاعدة لا ضرر ونحكم بعدم جواز دخوله إلى البستان استناداً إلى تلك القاعدة. وأما الأمر بقلع العذق فليس مستنداً إليها -كما عرفت- بل هو حكم ولائي فلا مورد للإشكال أصلا.

ثمّ إنه لو فرضنا أنه مورد للقاعدة وجهلنا كيفية الإنطباق إلا أنه لا يضرّ بالإستدلا بها على مواردها المعلومة كما ذكره الشيخ الأنصاري.

بقي في المقام شيء وحاصله: أنه بعد القلع فإذا سقطت مالية الشجرة كما هو الغالب فهل يضمن له القيمة.

أقول: مقتضى القاعدة هنا عدم الضمان لأن النبي (صلى الله عليه وآله) له الولاية والسلطنة على النفوس والأموال والأعراض وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم فكيف يتحقق الضمان في المقام والله العالم.

هذا تمام الكلام في الجهة الثانية من الجهات الثلاثة في قاعدة لا ضرر ولا ضرار.

 

أما الجهة الثالثة: في بيان نسبتها مع الأدلة المتكفلة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأولية.

*قال صاحب الكفاية (رحمه الله): ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلّة نفيه وأدلّة الأحكام، وتقدم أدلّته على أدلّتها -مع إنّها عموم من وجه- حيث إنّه يوفّق بينهما عرفاً، بأن الثابت للعناوين الأوليّة إقتضائي، يمنع عنه فعلاً ما عرض عليها من عنوان الضرر بأدلّته...*

أقول: هذه هي الجهة الثالثة للبحث وهي نسبة القاعدة «لا ضرر ولا ضرار» مع الأدلة المتكفلة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأولية كأدلة وجوب الصلاة والصوم ونحوهما، أو الثانوية كأدلة نفي العسر والحرج ونحوهما.

وأما نسبتها مع أدلة الأحكام الثانوية فسيأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى.

وأما بالنسبة للأحكام الأولية فقد ذُكرت وجوه عديدة لتقديم قاعدة لا ضرر على أدلة الأحكام الثابتة للأفعال بعناونها الأولية نقتصر فيها على ذكر وجهين لأنهما العمدة والباقي لا فائدة فيه.

الوجه الأول: ما عن صاحب الكفاية (رحمه الله) وحاصله: أن العرف يوفق بينهما بحمل دليل نفي الضرر على الفعلية وحمل الأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأولية على الإقتضائية، مع أن النسبة بينهما هي العموم من وجه. فإن دليل وجوب الوضوء مثلاً يشمل الوضوء الضرري وغيره ودليل نفي الضرر يشمل الوضوء وغيره كالصوم والحج والصلاة ونحوها. ففي الوضوء الضرري يتعارض الدليلان والمفروض أن المرجع فيه إلى أحكام التعارض ولكنه مع ذلك لا يرجع فيه إلى أحكام التعارض بل يقدم دليل نفي الضرر ويحكم بعدم وجوب الوضوء الضرري حيث أن العرف يرى أن العنوان الثانوي وهو الضرر رافع لفعلية الحكم الأولي فيحمل حينئذٍ على الإقتضائي فلا تنافي بينهما حينئذٍ. ثم استثنى صاحب الكفاية (رحمه الله) من ذلك فيما لو أحرز بدليل معتبر أن الحكم المجعول للفعل بالعنوان الأولي يكون بنحو العلة التامة الفعلية لا مقتضياً لها حتى يمكن رفع فعليته وحمله على الإقتضائي. وذلك كوجوب إنقاذ نبيٍّ أو وصيَّ نبيٍّ، أو وجوب الدفاع عن النفس، أو عن بيضة الإسلام، فإن هذا الوجوب فعليٌّ مطلقاً وإن كان موجباً للضرر أو الحرج على الغير، وكذا حرمة نكاح المحارم فإن هذه الحرمة فعليةٌ مطلقاً وإن لزم الضرر أو الحرج على الغير. هذا حاصل ما ذكره صاحب الكفاية بتوضيحٍ منّا بذكر الأمثلة ونحوها.

ويرد عليه: أن ما أفاده (رحمه الله) لم يكتب له التوفيق. لأنّا نسأل عن الوجه في حمل «لا ضرر ولا ضرار» على الفعلية، وحمل الأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأولية على الإقتضاء: فهل هذا الحمل من جهة الحكومة، أو من جهة التخصيص أو الأظهرية. والخلاصة أن هذا الحمل وإن كان في نفسه صحيحاً إلا أننا نسأل عن الوجه فيه ولماذا العرف حمله على ذلك. ولذا كل من تأخر عنه أعرض عن هذا الوجه.

الوجه الثاني: وهو تقديم أدلة «لا ضرر ولا ضرار» على أدلة الأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأولية من باب الحكومة. وهذا الوجه ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري وجماعة كثيرة من الأعلام (رحمهم الله).

قال الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله): «ثمّ إنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع العمومات الدالّة بعمومها على تشريع الحكم الضرريّ، كأدلّة لزوم العقود، وسلطنة الناس على أموالهم، ووجوب الوضوء على واجد الماء، وحرمة الترافع إلى حكّام الجَوْرِ، وغير ذلك. (إلى أن قال): والمراد بالحكومة: أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظيّ متعرّضا لحال دليل آخر، من حيث إثبات حكم لشيء أو نفيه عنه. فالأوّل: مثل ما دلّ على الطهارة بالاستصحاب أو شهادة العدلين، فإنّه حاكم على ما دلّ على أنّه «لا صلاة إلاّ بطهور»؛ فإنّه يفيد بمدلوله اللفظيّ: أنّ ما ثبت من الأحكام للطهارة في مثل «لا صلاة إلاّ بطهور» وغيرها ثابت للمتطهّر بالاستصحاب أو بالبيّنة. والثاني مثل الأمثلة المذكورة. (انتهى كلامه)، ويقصد بالأمثلة المذكورة مثل حكومة أدلة نفي الضرر والحرج ونفي السهو عن كثير الشك وكذا غيرها مما ذكر.

أقول الحكومة على قسمين:

القسم الأول للحكومة: أن يكون أحد الدليلين «الدليل الحاكم» بمدلوله اللفظي شارحاً ومفسراً للدليل الآخر «الدليل المحكوم» ومتعرضاً لبيان حاله.

ثمّ إن شرح «الدليل الحاكم» للدليل الآخر «المحكوم»، إما أن يكون بمدلوله المطابقي كلفظ «أعني» أو «أردت» أو «قصدتُ» ونحو ذلك. وإما أن يكون بمدلوله الألتزامي.

أما الأول فوجوده نادر، إذ قلما يوجد في الأخبار ما يكون بلفظ «أعني» ونحوها. وهناك جملة من الأخبار الواردة في هذا التفسير:

منها: صحيحة عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سألته عن رجلٍ لم يدرِ ركعتين صلّى أم ثلاث قال: يعيد، قلت: أليس يقال لا يعيد الصلاة فقيه. فقال: إنما ذلك في الثلاث والأربع»[1]. فقوله (عليه السلام): «يعيد» إنما هو فيما لو كان قبل إكمال السجدتين.

ومنها: موثقة عمار الساباطي قال: «كنّا جلوساً عند أبي عبدالله (عليه السلام) بمنى ، فقال له رجل: ما تقول في النوافل؟ قال: فريضة، قال: ففزعنا وفزع الرجل، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): إنّما أعني صلاة اللّيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إنّ الله يقول: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ)»[2].

وأما الثاني وهو ما يكون شارحاً بمدلوله الإلتزامي فهو كثير. وهو -أي الحاكم- تارة يكون ناظراً إلى عقد الوضع، وأخرى إلى عقد الحمل.

أما إذا كان ناظراً إلى عقد الوضع فتارة يكون موسعاً للموضوع وأخرى مضيقاً له.

أما التوسعة لموضوع «الدليل المحكوم» فالأمثلة على ذلك:

منها: الحديث النبوي الضعيف السند: «الطواف بالبيت صلاة» حيث وسّع موضوع الصلاة بحيث يشمل الطواف فيعطى الطواف أحكام الصلاة إلا ما استثنيَ. ومنها: موثقة عمار قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفقّاع فقال: هو خمرٌ»[3]. حيث وسّع موضوع الخمر بحيث يشمل الفقّاع فيعطى حكمه حينئذٍ.

أما التضييق لموضوع «الدليل المحكوم» فالأمثلة على ذلك:

منها: «الدليل المحكوم»: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾. «الدليل الحاكم»: «ليس بين الرجل وولده وبينه وبين عبده ولا بينه وبين أهله ربا». فهنا الدليل الحاكم ضييق موضوع المحكوم.

ومنها: ما ذكرناه سابقاً في حسنة منصور بن حازم: «لا رضاع بعد فطام» حيث ضييق موضوع الرضاع وأخرج منه الرضاع بعد انفطام الولد. أي لا تنتشر الحرمة بسبب الرضاع إذا كان بعد الفطام.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الوسائل باب 9 من أبواب الخلل ح3.

[2] الوسائل باب 16 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ح6.

[3] الوسائل باب 27 من أبواب الأطعمة والأشربة ح2.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo