< قائمة الدروس

الأستاذ السيد علي السبزواري

بحث الأصول

35/12/23

بسم الله الرحمن الرحیم

قلنا بأن قاعدة السلطنة وإن كانت قاعدة عقلائية إلا أنها خصصت أيضاً بالسيرة العقلائية والسيرة العقلائية هي أنه فيما إذا لم يستلزم من إعمال السلطنة في ملكه ضرراً على الغير فإن العرف يرى أن هذه القاعدة لا تجري فإذا لم تستلزم من إجراء السلطنة في ملك إنسان ضرراً على الغير فلا إشكال فيه فالناس مسلطون على أموالهم وقاعدة السلطنة من القواعد العقلائية ، وأما اذا استلزم من إعمال السلطنة في داره وفي ملكه الضرر على الآخر فإن هذه القاعدة مخصّصة بسيرة عقلائية أخرى وهي ما اذا لم يستلزم من إعمال السلطنة ضرر على الآخرين ، أيضاً هذه السيرة ممضاة من قبل الشرع حيث لم يرد عنها ردعٌ فلا يمكن القول بتقديم قاعدة السلطنة مطلقاً حتى لو استلزم ضرراً على الآخرين ، ، هذا ما ذكروه وعمدة دليلهم هو هذا.
ولذلك تمسك بعض الفقهاء بقاعدة السلطنة في الطرف المقابل أيضاً فقال بأن قاعدة السلطنة كما تجري في حفر البالوعة من قبل شخصٍ أيضاً تجري قاعدة السلطنة بالنسبة إلى الغير في دفع الضرر عن ملكه ، فللجار أن يمنع من أن يتصرف صاحب الدار الآخر بإعمال سلطنته فقاعدة السلطنة تجري فتتعارضان وتتساقطان حينئذٍ ، فهي تجري في المقام أي في هذا الجار أو المالك الذي يريد أن يحفر بئراً وقاعدة السلطنة تجري في الجار الذي يريد أن يدفع الضرر عن ملكه أيضاً فهنا قاعدة السلطنة تجري في كلّ واحد منهما ، هذا ما ذكروه
لكن لا تجري إذن معارضةٌ فيما إذا كان إعمال السلطنة في الملك موجباً للضرر بالنسبة إلى الآخرين لأن هذه القاعدة مخصّصة بهذه السيرة العقلائية فلا تصل النوبة إلى التعارض بين قاعدة السلطنة هذا ما ذكروه وهذه هي الصورة وذكرنا المثال.
الجهة الثانية:- في حكم الضرر - تعارض الضرر - فيما إذا كان هناك ضرر قد حصل من هذا الشخص واستلزم من إعمال السلطنة ضرر بالنسبة إلى الآخر لو لم يعمل سلطنته في ملكه يستلزم ضرراً ولو عمل سلطنته في ملكه يستلزم الضرر بالنسبة إلى الآخر كما في المثال الذي ذكرنا بحفر بالوعة يحتاج إليها فيحفرها في داره يستلزم من حفرها الضرر بالنسبة إلى الجار ، والنزاع هنا.
والكلام في هذا يقع من حيث الصغرى وأخرى من حيث الكبرى والحكم الكلّي:-
استشكل بعض الأصوليين ومنهم بعض الفقهاء أيضاً على أنه هنا لا يستلزم ضرراً - فمجرد حفر بالوعة في ملك الانسان بحيث إنه يستلزم منه ضرر على الآخر لم يتحقق ضرر - إلا في مورد واحد وهو ما إذا أوجب حفر البالوعة هدم دار الغير أو جزء منها فهنا يكون ضررٌ ، وفي غير هذه الصورة لا يسمّى ضرراً ، فمجرد أن حفر هذا الطرف المقابل يتضعضع بنيان الآخر أو البئر الموجود عنده يتلوث أو يكون فيه نوع رائحة وأمثال ذلك فهذا لا يسمى ضرراً فقال بأن لا يصدق الضرر في المقام حتى نرجع إلى الحكم حينئذٍ والتحاكم إلى القواعد ، هذا ما ذكروه ، فحفر البئر في دار الانسان لا يستلزم الضرر بالنسبة إلى الآخر إلا في موردٍ واحدٍ وهو ما إذا إذا اوجب هدم دار الغير أو جزء منها.
وهذا النزاع صغروي والنزاع الصغروي ليس من شأن العلماء فالعلماء لا يحدّدون أنّ هذا ضررٌ أو ليس بضررٍ بل العرف هو الذي يحكم في أن حفر البالوعة موجبٌ للضرر على الجار أو لا يوجبه وأمّا أن العالم يقول هذا ضررٌ أو ليس بضرر فليس له إلّا إذا كان هو يتكلّم بلسان العرف والعلماء ليس من شأنهم النزاع الصغروي ، هذا أوّلاً.
ثانياً:- من قال بأنه هنا لا يستلزم الضرر - مجرد حفر البالوعة في دار الانسان لا يستلزم ضرراً على الآخر - ؟ فإن هذا راجع إلى سعة سلطنة المالك وضيقها فإن قلنا بسعة سلطنة المالك في ملكه لا يسمّى هذا ضرراً حتى لو كان هنا ضررٌ جزئيّ حينئذٍ فإن هذا الضرر منفيّ بقاعدة السلطنة ، وأما إذا قلنا بأنّ قاعدة السلطنة ليست بهذه السعة بحيث تشمل حتى ما إذا أحدث ضرراً بالنسبة إلى الآخرين بل إن هذه القاعدة خصصت بسيرة عقلائية وهذه السيرة العقلائية ممضاة وهي ما إذا لم يكن هناك ضرر مستلزم من إعمال السلطنة في ملكه ، فهذا الاشكال ناشئ من سعة سلطنة المالك وضيقها فإن قلنا بسعة دائرة السلطنة يشمل حتى ما إذا أحدث ضرراً بالسنة إلى الجار حتى لو كان فيه تهديم الدار حينئذٍ وأمّا إذا قلنا بان قاعدة السلطنة ليس لها هذه السعة وليست هي بهذه السعة بل هي مقيّدة فيما اذا لم يستلزم ضرر بالنسبة إلى الآخرين فحينئذٍ إذا استلزم الضرر فقاعدة السلطنة لا تجري ، وأمّا تعيين الضرر وأن هذا ضرر أو ليس بضرر فنرجع فيه إلى العرف ولا ريب ولا إشكال في أنه ضرر إذا استلزم هدم دار الغير أو تضعضع بنيانه ، أما إذا لم يكن كذلك كمجرد تغيير هواءٍ أو أنه ينفث منه رائحة كريهة فهذا لا يسمّى ضرراً إلا إذا كان فيه ما يوجب الأمراض فحينئذٍ يحكم العرف أيضاً بأنه ضرر.
اتسعت دائرة الضرر عند العرف المعاصر فالعرف المعاصر يختلف عن العرف القديم ، فالعرف القديم لم يصل إلى الكثير من الأمور فالآن يعتبرون حفر البالوعة في دار الانسان أو قريب من داره بحيث يستلزم منه خروج الرياح الكريهة أو نحو ذلك مما يوجب تفشّي الميكروب او تفشي بعض الأمراض ضرراً حينئذٍ مع أنّ هذا لم يكن مُنتَبهاً إليه في العصر القديم.
وأما بالنسبة إلى الكبرى:- قلنا بأن الأقوال في هذه المسألة ثلاثة:-
الأول:- ما ذهب اليه الشيخ الانصاري حيث قال إن الاوفق بالقواعد تقديم قاعدة السلطنة على قاعدة الضرر فيما إذا استلزم من حفر البالوعة ضرراً على الجار فقاعدة السلطنة هي الحاكمة على قاعدة الضرر فيحق لهذا المالك ان يحفر بالوعة في داره وإن استلزم ضررا بالنسبة إلى الجار قاعدة السلطنة هي الحاكمة ، ولكن اشكلنا على هذا بما تقدم من أن قاعدة السلطنة جارية لا اشكال فيها وهي من القواعد العقلائية فليس لأحد أن يمنع المالك من التصرف في ملكه ويحق للمالك أن يتصرف في ملكه بما يشاء وأراد ، فهذا صحيح ، إلا ان هذه القاعدة ليست بهذه السعة بحيث تشمل حتى ما إذا كانت هذه السلطنة مستلزمةً لضرر الآخر فهي لا تشمل هذه الصورة للعرف في المقام فتوجد سيرة عقلائية في المقام أيضاً ، فقاعدة السلطنة قاعدة عقلائية ولكنها متخصّصة بالسيرة العقلائية فيما إذا لم يستلزم ضرراً بالنسبة إلى الغير من إعمال السلطنة ، هذا ما تقدم سابقاً.
الثاني:- ما ذهب إليه المحقق النائيني(قده) من أن قاعدة لا ضرر تجري بالنسبة إلى تصرف هذا الشخص فحينئذٍ لا يجوز له أن يحفر بالوعة لاستلزامه الضرر بالنسبة إلى الغير ، فلا ضرر ولا ضرار يشمل هذا التصرف فيحرم عليه مثل هذا التصرف - حفر البالوعة - ولا تجري قاعدة لا ضرر بالنسبة إلى هذا الشخص لأنه يستلزم نفي الحكم الذي حدث من نفس قاعدة لا ضرر ، فمن قاعدة لا ضرر أثبتنا حرمة التصرف ، فنجري قاعدة لا ضرر بالنسبة إلى هذا الشخص المالك أيضاً وننفي حرمة التصرف فهذا تهافتٌ ، فمن قاعدة الضرر أثبتنا الحكم وبقاعدة لا ضرر ننفي الحكم وهذا هو من التهافت الواضح ، وقاعدة لا ضرر لا تشمل الحكم الذي يحدث من نفسها ، فقاعدة لا ضرر كما تقدم وسيأتي هي قاعدة امتنانية حاكمة على الأدلة الأولية والأحكام الاولية ، وهذا صحيح ، فالصلاة الصيام وأمثال ذلك من الأحكام الأولية إذا استلزم ضرر من أحد هذه الأحكام الأولية على الانسان فقاعدة لا ضرر تشمل ذلك ، وهذا تقديم حكومة على تلك الأدلة الأولية والأحكام الأولية ، أما إذا ثبت من قاعدة لا ضرر حكم شرعي كما في المقام - حرمة التصرف بما يوجب الضرر على الآخرين فيحرم عليه حفر البالوعة - فقاعدة الضرر بالنسبة إليه ينفي هذا الحكم فحينئذٍ لا يشمل ذلك وأنه تهافتٌ فلا يكون حاكماً على نفسه حينئذٍ ، فقاعدة لا ضرر تكون حاكمةً على نفس قاعدة لا ضرر وهذا عين التهافت ، إلّا أنه استثني موردٌ تقدّم الكلام فيه في بحث حبر الواحد حيث ذكر المحقق النائيني(قده) أنه يمكن أن يشمل دليل حجيّة الخبر نفسه ، فقاعدة لا ضرر تجري بالنسبة إلى تصرف هذا الشخص فيحرم عليه حفر البالوعة فيحرم عليه التصرف بما يستلزم الضرر على الآخر ولا تجري قاعدة الضرر بالنسبة إليه فإنه لو لم يحفر البالوعة يتضرّر بذلك فلا تجري هذه القاعدة لأنها لو جرت فهي تنفي الحكم حينئذٍ ، فبما أنّ الحكم قد ثبت بقاعدة لا ضرر فلا يمكن رفع هذا الحكم بقاعدة لا ضرر نفسه لاستلزام التهافت فالقاعدة لا تكون حاكمة على نفسها.
ولكن هذا المبنى من المحقق النائيني(قده) مبني على أنّ الحكومة تخصيصٌ فالحكومة بمعنى التخصيص ووجه الحكومة هو وجه التخصيص بالنسبة إلى آحاد الحكم ، أنه كلّ حكم أوليّ نرى أن قاعدة لا ضرر تخصّص ذلك الحكم في مورد الضرر ونقول إنها حاكمة ، فنظر قاعدة لا ضرر وإن كانت حاكمة لكن نظر الحكومة نظر تخصيصيّ ، وهذا مبنيّ على هذا الشيء ، فلابد من تصحيح قول المحققّ النائيني(قده) فيما إذا كان نظر الحكومة نظر التخصيص وكان لكل حكم حكمٍ وأفراد الحكم وآحاد الحكم فقوله ربما يكون صحيحاً في هذه الصورة ، فهذا الحكم الذي ثبت بقاعدة لا ضرر أنه حرمة التصرف فيحرم عليه حفر البالوعة لقاعدة الضرر فإنك تضر الجار فقاعدة الضرر تجري ( لا ضرر ولا ضرار ) فيحرم عليك هذا التصرف ، إن هذا صحيح ، فهذا الحكم الفردي الذي حدث من قاعدة لا ضرر لا يمكن أن يخصّص بنفس قاعدة لا ضرر لاستلزامه التهافت ، أي أن تكون قاعدة لا ضرر حاكمة على نفسها فهذا يلزم منه التهافت.
وأما إذا كان مبنى الحكومة هو أن نظر الحكومة نظر تفسيري بياني توضيحي لا تقييدي كما تقدم وسيأتي بيان الحكومة في اصطلاح الاصوليين من أنه الجمع بين دليلين أحدهما ينظر إلى الدليل الثاني نظر توضيح وتفسير وبيان وهذا لا يرجع إلى تخصيصٍ ولا نحتاج إلى أن يكون كلّ حكم بالنسبة إلى آحاد الأحكام بل ننظر إلى نفس الشريعة ككل ، فالشريعة ككل ننظر إلى احكامها ثم تأتي أحكام أخرى ثانوية يكون نظر هذه الأحكام الثانوية بالنسبة إلى الأحكام الأوليّة نظر توضيحٍ وشرحٍ وبيانٍ وتفسيرٍ فيكون هذا حكومة فلا تعارض في البين حينئذٍ ، فقاعدة لا ضرر أثبتنا بها حكما في المقام وإنما قاعدة لا ضرر هي قاعدة ثانوية امتنانية ، إن نظرها بالنسبة للأحكام ككل والشريعة كمجموع الشريعة نظر تفسير وبيان فحينئذ قاعدة لا ضرر تجري بالنسبة إلى نفس وقاعدة لا ضرر أثبتت حكماً في المقام وهو حرمة التصرف أي حرمة حفر البالوعة وقاعدة الضرر تجري في نفس حقّ هذا المالك لو لم يحفر فإنه يلزم منه ضررٌ وقاعدة لا ضرر قاعدة امتنانية حاكمة فيقع التعارض بين هذه القاعدة في هذا المورد والقاعدة في ذلك المورد فلا تعارض ، فالتعارض يتحقق ولا شيء يحدث في المقام فلا يلزم منه التهافت ، هذا ما ذكره السيد الصدر(قده) في ردّه على المحقق النائيني(قده).
إلا أن الصحيح أن نقول:- بأنا نرجع إلى العرف في المقام والعرف إذا حكم بأن تقديم قاعدة لا ضرر على نفسها يستلزم التهافت فحينئذٍ لا تتقدم قاعدة لا ضرر على نفسها إذ لا يمكن ولا يصح أن يكون الحكم الثابت بقاعدة لا ضرر ننفيه بقاعدة لا ضرر لاستلزامه التهافت عند العرف وهذا واضح ، وأما إذا لم ينظر العرف هذا التهافت ويرى بأنه لا تهافت في المقام كما في المقام فأن قاعدة لا ضرر تثبت حكماً في حقّ المالك في هذه الدار فيحرم عليه حفر بالبالوعة وهذا صحيح فإن قاعدة لا ضرر قد أثبتت حكماً ، وقاعدة لا ضرر تجري بالنسبة إلى المالك نفسه حيث أنه لو لم يحفر البالوعة لاستلزم الضرر بالنسبة إليه ولا تهافت في البين إذ أن هذه القاعدة اثبتت حكما بالنسبة إلى الجار وقاعدة لا ضرر أثبتت حكماً بالنسبة إلى المالك فحينئذ لا تهافت في البين فيقع التعارض بين الضررين ولابد من رفع هذا التعارض بما سيأتي أو بما تقدم مما ذكره الشيخ الانصاري ، فلا فرق بين أن يكون الحكومة نظرها نظر تخصيص أو نظر بيان وشرح وتفسير أو تكون الحكومة بين آحاد الاحكام أو تكون بين مجموع الشريعة ككل ، فمن هذه الجهة لا فرق في ذلك والعرف هو الذي يحكم في أن هناك تهافت أو أنه ليس هناك تهافت ، فإن حكم بكونه تهافتاً فحينئذٍ لا يمكن إجراء قاعدة لا ضرر لنفي حكمٍ ثبت من نفس قاعدة لا ضرر ، أمّا إذا لم يستلزم التهافت كما في مثّالنا فأنه تجري قاعدة لا ضرر ويحرم عليه حفر البالوعة ، فقاعدة الضرر أثبتت حكماً بالنسبة إلى الجار فقد حرم على هذا المالك حفر البالوعة ولكن قاعدة لا ضرر تجري بالنسبة إلى المالك أيضاً فإنه لو لم يحفر البالوعة لاستلزم الضرر بالنسبة إليه لا تهافت بين هذين الضررين فتجري القاعدة في كلّ واحد منهما ويقع التعارض بين الضررين ولابد من رفع هذا التعارض ، هذا ما ذكره المحقق النائيني ورد السيد الصدر والجواب عن هذا الرد.
الثالث:- ما ذهب اليه المحقق العراقي(قده) حيث أن هذا الرأي هو الصائب وهو الذي يدور الآن في عصرنا الحاضر وإن كان ما ذكره ضيّقاً جداً ولكن هذا الراي قد توسّع الآن ، فهو يقول بأن الضرر تارة يكون موجباً لنقص في للعين ونقص في المنفعة فهذا لا اشكال في أن قاعدة لا ضرر تشمل هذين الموردين كما لو حفر البالوعة فاستلزم هدم جزء من دار الغير فهذا نقص في العيب أو أنه حفرها فاستلزم نقص المنفعة في ذلك لوجود الرائحة الكريهة مثلاً أو لأمرٍ آخر كما لو كان لا يمكن أن يسكن في جانب من هذه الدار وهذا لا إشكال في أن قاعدة لا ضرر تشمل المورد وحينئذٍ لا يجوز للمالك حفر البالوعة لاستلزامه النقص في عين ملك الغير أو منفعتها فقاعدة لا ضرر تشمل هذا ، أمّا إذا كان حفر البالوعة مستلزماً لنقص المالية لا لنقص العين ولا لنقص المنفعة بل لنقص في المالية فإن قاعدة لا ضرر هنا لا تشمله ، وضرب مثالاً لذلك حيث قال بأنه لو كان هناك شخص تاجر يأتي ببضاعة معينة ويبيعها في السوق ولكن عارضه تاجر آخر وأتى ببضاعة مثيلة لها وباعها بكثرة وبثمن أقل أوجب ضرر الطرف الآخر – أي نقص مالية تلك الاعيان الموجود عند ذلك التاجر – لم يقل أحد بأن هذا حرام وأن هذا الشخص يضمن نقص القيمة الموجودة عند الطرف الآخر ، وهذا يسمى نقص المالية ، فأنتم تعلمون بأن المالية إنما تدور مدار قاعدة العرض والطلب فكلما زاد العرض قلّت المالية وكلما زاد الطلب زادت المالية وكلما قل الطلب تقل المالية فالماليات تتفاوت بقانون العرض والطلب ، وهنا هذا التاجر أتى بنفس البضاعة وجعلها في السوق فحينئذٍ نقص مالية وسعر الطرف الآخر لا يكون مضموناً ولا يحكم أحد بذلك ، ففي المقام أنه لو حفر البئر أو البالوعة في داره أوجب قلة قيمة ماء البئر الموجود عند الجار الذي يبيع منه الماء على الناس فلو سمع الناس بأنه توجد بالوعة قريبة من هذا البئر لم يرغبوا فيه فحينئذٍ أوجب نقص مالية وقيمة الماء الذي يستخرج من البئر عند الجار فهنا يقول بأنه لا ضمان ولا حرمة في البين لأن نقص المالية ونقص القيمة لا يضمنه هذا الشخص ولا يحرم عليه ، ففرّق المحقق العراقي(قده) بين النقص في العين والنقص في المنفعة فيما إذا استلزم حفر بالوعة في ملكه نقص في العين لدى الجار أو نقص في منفعة ملك الجار فلا إشكال في أنه حرام عليه أن يفعل فلو فعل يكون ضامناً إذا أوجب حفر البالوعة الضرر في ملك الغير ، وأما إذا اوجب حفرها نقص في مالية الطرف الآخر فحينئذٍ لا ضمان فيها كما ضربنا لكم مثال التاجر.
وتفصيله صحيح لا إشكال فيه:- وهو تفسيرٌ حسنٌ إلا أن نقص المالية التي ضرب مثالاً لها في البضاعة وقانون العرض والطلب فهذا تحديدٌ ناشئ من تفسيرهم للضرر ، تقدّم في أول بحث الضرر بأنا قلنا إن المشهور قد فسّروا الضرر بالنقص والنقص تارة يكون في العين وأخرى يكون في المنفعة ، ولكن قلنا هذا تفسير ناقصٌ وينطبق على ما كان عند القدماء ، وأما الانسان المعاصر يقول هو أعم من ذلك فإن نقص المالية أيضاً يكون عند العرف ضرراً ، وهذا جارٍ في عصرنا الحاضر وله تطبيقات وأمثلة متعدّدة ، فنقص المالية تارةً ينشأ من قانون العرض والطلب كما مثّلنا كما أن نقص المالية قد ينشأ من نقص بعض الصفات المعيّنة فيه من نعومةٍ في هذا الشيء أو سوادٍ فيه أو أن لونه داكن وأمثال ذلك ، إن هذا نقصٌ فإن هذا يوجب نقص المالية فكلما زاد صفاء هذا الشيء كلما زادت ماليته وكلما نقص صفاء هذا الشيء نقصت قيمته وماليته حينئذٍ ، فالنعومة واللون وقرب انتهاء المدة الصالحة لاستعمال ذلك الشيء أيضاً له دخل ، فمثلاً تنتهي مدة صلاحيته بعد يوم أو أنها خلصت مدة صلاحيته فهنا لا نقص في العين ولا نقص في المنفعة ولكنما هذه المالية قد تسقط حينئذٍ بعد مدّة وجيزة فهذا أيضا موجبٌ للضرر ، فنقص المالية لا تختص بقانون العرض والطلب كما مثّلوا لذلك وهو المثال القديم بل إنّ نقص المالية له أسباب مادية متعدّدة وذكرنا ذلك ، فالآن هذه البضاعة يوجد بها ماركة عالميّة وهي معروفة في العالم والناس يرغبون في شرائها لأنها من هذه الماركة العالمية ولكن يأتي شخص آخر ويصنع صنعاً أدون من هذا ويجعل عليه نفس الماركة العالمية في هذا المقابل فيقال بأن ذاك متضرّر فيضمن هذا له ، فما ذكروه رحمهم الله إنما نشأ من تفسيرهم للضرر وتخصيص هذا التفسير بخصوص النقص العيني والنقص المنفعي - أي النقص المادي - وأمّا لو عمّمنا ذلك وقلنا بأن الضرر لا يختص بالنقص المادي بل يشمل حتى ما إذا كان نقصاً في المالية ففي هذه الصورة أيضاً يكون ضرراً ويكون ضامناً ، ففي مثالنا أنه حفر البالوعة في داره واستلزم حفرها تلوث ماء البئر عند الجار بحيث لا يرغب أحد في شربه أو في شرائه فحينئذٍ نقصت ماليته فيضمن هذا القسم ، نعم في موردٍ واحد لم يقل الفقهاء بأن هناك ضمان وحرمة وهو ما إذا كان هناك تعارض بين التاجرين فهذا يأتي ببضاعةٍ وذاك يأتي بنفس البضاعة ويبيعها بسعر أقل فهنا لم يقل أحد بالضمان ولم يقل أحد بالحرمة ، فحينئذٍ لابد من التوسعة في الضرر بما يشمل نقص المالية ولكن نقص المالية التي يعدها العرف ضرراً لا مثل ما إذا كان تعارض بين تاجرين من ضخ البضاعة في السوق فإن قانون العرض والطلب يتأثر بهذا الأمر فحينئذٍ هذا خارج ، فما ذكره المحقق العراقي(قده) صحيحٌ في حدّ نفسه في تقسيم الضرر إلى العين والمنفعة - أي المادي - ولكنه أخرج ضرر المالية ولكن إخراجه غير صحيح على نحو الكلّية بل لابد من توضيح الأمر كما ذكرنا .
هذا موجز الكلام في تعارض الضررين وسيأتي تفصيل ذلك في بحث البيع انشاء الله تعالى.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo