< قائمة الدروس

الأستاذ السيد علي السبزواري

بحث الأصول

35/12/24

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : قاعدة لا ضرر.
والحق في المقام ان نقول:- بأنه لا إشكال في أن حفر البالوعة في دار الانسان وإن كان مسلّطاً على ماله ولكن إذا لزم من حفرها ضرر على الغير أما ضرر عيني بأن تنهدم داره أو يخرب جزء منها أو ضرر منفعي بحيث لا يمكنه الانتفاع منها فلا ريب ولا إشكال في شمول قاعدة لا ضرر في المقام فلا يجوز له أن يحفر البالوعة إذا استلزم منه هذا النوع من الضرر، وأما الضرر المالي فقد عرفتم أن له أسباباً متعدّدة - فالضرر المالي أي نقص القيمة السوقية ورغبة الناس في الشيء له اسباب متعددة - لاسيما في وقتنا الحاضر الذي تطورت فيه الأشياء، فحينئذٍ لابد من تمييز الضرر المالي، فالضرر المالي الحادث من العرض والطلب لا يضمنه أحد فلو جلب تاجرٌ بضاعةً معيّنة ليستفيد من بيعها فهذ البضاعة تابعة للعرض والطلب في السوق فكلّما ازداد العرض وازداد الطلب تكون قيمة هذا الشيء مرتفعةً وإذا ازداد العرض وقل الطلب فحينئذٍ تنقص القيمة وبالعكس، هذا هو قانون العرض والطلب، فحينئذٍ في المقام لابد من تقييم الضرر المالي هل هو عند العرف يكون موجباً لشمول قاعدة لا ضرر له أو لا يكون موجباً له، فالضرر الذي يحصل من نقص القيمة السوقيّة كما لو أتى تاجر آخر بنفس البضاعة فنقصت القيمة فهذا النوع من الضرر لا يضمنه أحد ولا يقول أحد بحرمة هذا التصرف، أما إذا كان الضرر المالي موجباً لعدم رغبة الناس في ماء البئر الذي عنده فإن هذا الجار عنده بئر يستخرج منه الماء العذب ويبيعه في السوق فإذا حفر الجار بالوعة بجنب هذا البئر فذهبت عذوبة الماء فإذا ذهبت عذوبته قلت ماليّته ففي هذه الصورة يعدّ هذا ضرراً فلا يجوز لمثل هذا الشخص أن يحفر البالوعة، فلا بدّ من تقييم الضرر المالي وهل أن الضرر المالي الذي يحدث من البالوعة يعتبر ضرراً عند العرف لابد من جبر خسارته فيحرم حينئذٍ التصرف وإلا فقاعدة السلطنة حاكمة.
ولعل الشيخ الانصاري(قده) في كلامه المتقّدم في قاعدة ناظر إلى هذه الصورة فقط، إما إذا استلزم ضرراً عينياً أو ضرراً في المنفعة أو ضرراً مالياً بحيث عدّه العرف من الضرر العيني أو الضرر في المنفعة فلا ريب ولا إشكال في شمول قاعدة الضرر له فيحرم حينئذٍ مثل هذا التصرف.
هذا ما يتعلّق بتعارض الضررين.
المقام الثالث:- في امتنانية لا ضرر.
ذكر العلماء في المقام أن قاعدة لا ضرر من القواعد الامتنانية كسائر القواعد الثانوية التي تكون حاكمة على الأحكام الأولية فانهم يعتبرون مثل هذه القواعد الثانوية من القواعد الامتنانية وأرسلوا هذا الأمر ارسال المسلّمات حيث قالوا إن قاعدة لا ضرر من القواعد الامتنانية ورتّبوا على ذلك نتائج متعددة أهمها أنّه إذا استلزم من قاعدة الضرر خلاف الامتنان لا تجري القاعدة.
ومن أمثلة هذا ما ذكرناه سابقاً فلو توضأ بماءٍ وكان الوضوء ضررياً جاهلاً بالحكم أو جاهلاً بالموضوع، قالوا بأن إبطال وضوء هذا الشخص واعادة الصلاة ووجوب التيمم عليه خلاف الامتنان - فهو توضأ ثم صلى ثم نأتي من بعد ذلك ونقول إن قاعدة لا ضرر تشمل هذا فنبطل وضوؤه ونبطل صلاته وتجب عليه الاعادة بالتيمم فهذا خلاف الامتنان قالوا بان قاعدة لا ضرر لا تشمل ذلك المورد الذي يستلزم من جريانها خلاف الامتنان -، وامثلة ذلك كثيرة ذكروها في كتبهم . فهذه المقولة ارسلوها ارسال المسلمات كما ذكرنا وقالوا في توجيه ذلك وأقصى ما استدلوا به هو أنهم قالوا بأن سياق حديث لا ضرر سياق الامتنان وأنه ورد مورد الامتنان.
ولكن تحليل ما ذكروه يحتمل فيه وجوه:-
الوجه الأول:- إن قاعدة لا ضرر حكم إلهي أيضاً يرفع الحكم من مورد ويضع حكماً آخر في موردٍ آخر فهذا امتنان من الله تعالى، ولاريب ولا إشكال في أن هذا حكم إلهي وهو جزء من مجموعة الشريعة الإلهية والأحكام الربّانية، فكلّ هذه الشريعة وجميع هذه الأحكام الربّانيّة هي امتنان من الله تعالى على العباد ولا تختصّ بقاعدة لا ضرر بل تشمل الأحكام الأولية وتشمل القواعد الثانوية، فهي أحكام إلهية شرعها الله تعالى للعباد إما في سبيل تكميل أنفسهم أو لأن وراءها مصالح أو مفاسد، فهي منّة على العباد حينئذٍ فلا تختصّ بخصوص قاعدة لا ضرر فنقول إن قاعدة لا ضرر هي امتنانية ، قال تعالى:- ﴿ لا تمنوا علي اسلامكم بل الله يمن عليكم ان هداكم للإيمان ﴾ فالمنّة من الله تعالى في تشريعه للأحكام وهذه الأحكام الإلهية إما أنها لا نبتغي وراءها مصالح ومفاسد سوى أن هذه الأحكام إنما جعلت في سبيل ترقية الانسان في سبيل أن يجعله في مسيره التكاملي في الوصول إلى الهدف والقرب لديه تعالى والأهم من المصالح هو هذا، وما تسمعونه من أن وراء كلّ حكم مصلحة وكلّ نهي مفسدة فهذا لتعليم الصغار وإلا فالنفوس الكبار لا يبتغون ذلك كما قال أمير المؤمنين عليه السلام:- ( وإنما وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك )، فهذا لتمشية الأمور وللبساطة حينئذٍ مثلما يقال ( الانسان حيوان ناطق)، وإلا فان وراء ذلك أكثر من هذا وهو أن الأحكام الإلهية جعلها الله تبارك وتعالى على العباد في سبيل ترقيتم وفي سبيل جعلهم في مسار التكامل والوصول إلى الهدف الأقصى وهو القرب إليه تبارك وتعالى والفوز بالمراتب العليا، هذا هو الغرض الاقصى من التشريع، فحينئذٍ كلّ هذه الأحكام هي منّة من الله تبارك وتعالى على العباد فلا تختصّ قاعدة لا ضرر بذلك.
الوجه الثاني:- قالوا بأن حديث لا ضرر سياقه سياق الامتنان، فان حديث لا ضرر بالخصوص سياقه سياق الامتنان ومصاديقه مصاديق الامتنان.
ويرد عليه:- بأن كونه مصادقاً من الامتنان لا يدلّ على أن هذا قد ورد مورد الامتنان بحيث يدور مدار الامتنان فان كان هناك منّة فتجري قاعدة لا ضرر وإن لم تكن منّة فلا تجري قاعدة لا ضرر، فمجرد كون المصاديق من موارد الامتنان لا يستفاد منه قاعدة كلّية، وهذا واضح.
الوجه الثالث:- إن سياقه بحسب الفهم العرفي هو سياق الامتنان كما ورد في غير قاعدة لا ضرر.
والجواب:- إن ما ذكروه صحيح حيث ذكرنا أن الفهم العرفي إنما يفهم الامتنان لأجل المصاديق الواردة فيه ولكن استفادة العموم والقاعدة من ذلك يحتاج إلى دليل وعناية زائدة - بأنّ نقول قد فَهِم العرف من رجوعه إلى مصاديق لا ضرر أن هذه القاعدة وردت مورد الامتنان - إلا أن هذا لا يدلّ على انشاء قاعدة كلّية بحيث نقول إن قاعدة لا ضرر وردت مورد الامتنان فما كان فيه امتنان تجري وما لم يكن فيها امتنان فلا تجري فهذا يحتاج إلى عناية زائدة وهذه العناية غير موجودة في فهم العرف.
الاحتمال الثالث:- ما ذكره بعضهم أنه قد ورد في حديث الرفع قيد المنّة، وبما أنّ حديث لا ضرر يشبه حديث الرفع من هذه الجهة فيتشابهان حينئذٍ فهناك ورد قيد المنّة فهنا حديث لا ضرر يشبه حديث لا ضرر فيكون قيد المنّة مأخوذ فيه.
ولكن يمكن الجواب عن هذا:-
أولاً:- إن قيد المّنّة في شيءٍ لا يدلّ على أنّ هناك علّة تامّة بل يمكن أن تكون حكمة التشريع ويكفي أن حديث الرفع منّة على نوع المكلف ولا يختصّ أن يكون في كلّ موردٍ منَّة حينئذٍ، إنه منّةٌ على نوع المكلف وأنه لا يستفاد منه قاعدة عامّة وعليّة تامّة بحيث تعمّم ولا تخصّص ولا نستفيد من ذلك هذا في حديث الرفع، وأما حديث لا ضرر فلم يرد فيه قيد المنّة إلا على نحو القياس، فهناك إذا ورد فيه قيد المنّة فنتكلم فيه أوّلاً أن قيد المنّة لا يدلّ على العليّة بل ربما يكون حكمة التشريع وحينئذٍ إذا كان حكمة التشريع بمعنى نوعٌ وعلى فرض أنه فيه منّة على نوع المكلفين وليست علّة تامّة حتى يدور الحكم مدارها فيخصّص أو يعمّم ولكن في حديث لا ضرر لم يرد فيه قيد المنّة، فتشبيه حديث لا ضرر بحديث الرفع قياسٌ لا نقول به.
الاحتمال الرابع:- أن يكون هناك مجرد استحسان، بأن حديث لا ضرر استحسن العرف أن يكون في مورد الامتنان وسياقه سياق الامتنان.
والجواب:- إنّ الاستحسان لا يكون موجباً لثبوت قاعدة كلّية ولا يكون دليلاً عند الإمامية، وحتى عند أبناء العامة إلا عند أصحاب الرأي، فالاستحسان بما هو استحسان لا يثبت شيئاً أبداً
هذه هي الوجوه التي ذكروها في المقام فإثبات كون حديث لا ضرر وقاعة لا ضرر امتنانية فيه من الغرابة ما لا يخفى، فليست المنّة في حديث لا ضرر علّة لتشريع لا ضرر بحيث يدور لا ضرر مدار هذا بحيث إذا كانت هناك منّة فتجري قاعدة لا ضرر وإذا لم تكن فيه منّة فلا تجري، فإثبات هذه الكلّية يحتاج إلى عناية فائقة وهي لا توجد ولا يستفاد تلك العناية من حديث لا ضرر وأخبار لا ضرر، فما ذكروه من هذه القاعدة وإن جرت على ألسنتهم وترون أنهم دائماً يقولون إن حديث لا ضرر منّة فتكون حاكمة حينئذٍ على جميع الأدلة الأوليّة والأحكام الأولية فهذا يحتاج إلى عناية زائدة ويحتاج إلى دليلٍ وهو مفقودٌ، فصحيح أن حكمة التشريع هكذا وهي أن الشارع الأقدس يريد أن يرفع حكماً عن العباد ولا يجعلهم في ضيقٍ وحرجٍ وشدّةٍ وضرر، ويريد أن يرفع مجرد رفع لحكم ليس فيه مصلحة أو لا يكون فيه مصلحة كجعل حكمٍ فيه مصلحة فهذا شيء وذاك شيء آخر فلا نستفيد من أحاديث لا ضرر أن المنّة علّة لتشريع قاعدة لا ضرر . هذا ما يتعلق بهذه المقولة.
المقام الرابع:- هل تشمل قاعدة لا ضرر الأحكام العدميّة ؟
لا ريب ولا إشكال في أن لا ضرر يشمل الأحكام الأولية التي شرّعها الله تبارك وتعالى فيشرع تلك الأحكام في مورد الضرر وهذا واضح، وقد ضربنا أمثلة متعدّدة منها الوضوء الضرري إذا استلزم منه ضرر على المكلف فالشارع الأقدس يرفع وجوب الوضوء بحديث لا ضرر ويجب عليه التيمم حينئذٍ وهذا صحيح . وكذلك في مورد المعاملة الغبنيّة فإن لزوم المعاملة الغبنيّة يكون ضرراً على المكلف حينئذٍ فيرفع اللزوم بقاعدة لا ضرر فيكون العقد بالنسبة إليه جائزاً فإن شاء اختار العقد وإن شاء فسخه، وهذا صحيح أيضاً . كذلك حرمة الترافع إلى حكّام الجور فإنه لا يجوز أن يرافع في القضايا إلى حكّام الجور ولكن إذا توقّف استنقاذ الحقّ على المرافعة لديهم فحينئذٍ نرفع هذه الحرمة بدليل لا ضرر فيجوز لنا المرافعة إلى حكّام الجور لاستنقاذ الحقّ . إن هذا صحيحٌ ففي هذه الموارد أحكام أوّليّة ثابتة من حرمة وجوب وضوء لزوم معاملة فنرفع تلك الأحكام الثابتة بدليل وحديث لا ضرر وهذا واضحٌ.
أمّا إذا كان هناك موردٌ لا يكون فيه حكماً بل لابد من إثبات حكم بدليل لا ضرر فلو لم يكن ذلك الحكم لاستلزم الضرر بالنسبة إلى العباد فهل حديث لا ضرر يشمل ذلك ؟ وأمثلة ذلك كثيرة ومتعدّدة:-
المثال الأول:- وهو المعروف وهو أنه لو كان لشخصٍ طائر في قفص فأتى شخص آخر وفتح باب القفص فطار الطائر فهنا الطير خرج من القفص فحينئذٍ لو لم نثبت حكماً في المقام بوجوب دفع قيمة هذا الطائر لاستلزم الضرر على مالكه، فحديث لا ضرر يثبت هنا حكماً بحيث لو لم يكن هذا الحكم لاستلزم الضرر في هذا المورد.
المثال الثاني:- لو حبس شخصٌ إنساناً آخر له مهنة أو حرفة كالفلاح والمهندس والطبيب ونحو ذلك فإنه لو حبس ذلك فهل نثبت حكماً على هذا الذي حبسه بحيث يضمن مدّة هذا الحبس إذ لو عمل المحبوس في هذه المدّة لاستفاد كذا مبلغاً من المال فيغرم الذي سجنه ذلك بحيث لو لم نغرمه لاستلزم الضرر على المسجون، هذا أيضا من الموارد لأن عمل الحرّ لا يضمن إلا إذا كان خارجياً وهذا مجرد حبسٍ فلم يضمن شيئاً ولكن لو لم نضمنه لكان هذا موجباً للضرر، هذا مورد أخر من الموارد.
المثال ثالث:- وسيأتي بيانه على التفصيل، وهو أنّ امرأة شابة تزوجها شخصٌ ثم فُقِد زوجها بحبسٍ ونحو ذلك فهذه المرأة لو جعلنا لها أربعة سنوات حتى تتفحص فإنها تقع في مشكلة كبيرة ولا يُعلم حال هذه المرأة لو لم نثبت لها حكماً بالطلاق لاستلزم الضرر عليها فهل تثبت قاعدة لا ضرر مثل هذا الحكم أو لا ؟ هذه موارد وهي كثيرة وفروع كثيرة وقع الكلام بين الأعلام في مثل ذلك، فذهب المحقق النائيني(قده) وبعض تلامذته إلى عدم إثبات الأحكام العدميّة من قاعدة لا ضرر وأحاديث لا ضرر واستدلّ على ذلك بوجهين:-
الوجه الأول:- عدم المقتضي، وهو أنه لا اطلاق لأدلة لا ضرر وأحاديث لا ضرر ليثبتوا هذا القسم أيضاً، فصحيحٌ أن أحاديث لا ضرر تشمل الأحكام الوجوديّة التي شرعها الله تعالى ففي موردها من امتثال تلك الأحكام الوجودية إذا استلزم الضرر على المكلف فحديث لا ضرر يشملها ويرفع ذلك الحكم، أما إذا لم يكن هناك حكم في البين بحيث أن قاعدة لا ضرر وحديث لا ضرر يثبت حكماً ولو لم يثبت حكماً لاستلزم الضرر على هذا فهل يشمل ذلك ؟ فحديث لا ضرر لا إطلاق له ليشمل مثل ذلك حينئذٍ وهذا خارج عن نطاق هذه الأحاديث، فأحاديث لا ضرر لا تشمل هذا القسم.
الدليل الثاني:- دعوى المانع، إذ لو قلنا بأن أحاديث لا ضرر تشمل الأحكام العدميّة لاستلزم منه تأسيس فقهٍ جديدٍ، إنه في كلّ موردٍ إذا لم يكن هناك حكمٌ نثبت نحن حكماً بحيث لو لم يكن هذا الحكم لاستلزم الضرر على الطرف الآخر يستلزم تأسيس فقهٍ جديدٍ.
فهل هذين الدليلين صحيحان ويمكن الاعتماد عليهما أو لا ؟
أما الدليل الاول فقد اشكل عليه بإشكالات عديدة:-
الإشكال الأول:- قالوا بأن اطلاق حديث لا ضرر يشمل الأحكام الوجودية والأحكام العدميّة، فهو كما يشمل الصلاة والوضوء وغير ذلك يشمل أيضاً لو لم يكن هناك حكمٌ في البين لاستلزم الضرر، فاطلاق حديث لا ضرر يشمل كِلا الفردين الأحكام الثابتة والأحكام العدميّة أيضاً، فلسان الأحاديث مطلقٌ يشمل كِلا الفردين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo