< قائمة الدروس

بحث الأصول آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

32/10/26

بسم الله الرحمن الرحیم

انتهينا فِي بحث الأصول إلى الإجزاء، حيث يقع البحث فيه بشكل رئيسي - لدى المتأَخِّرين - حول ما إذا كان الإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري مُجْزِياً بعد كشف الخلاف، أو لا؟! فإِنَّ هناك واجبات لا تسقط بالعذر فِي جزئه أو شرطه، وإنَّما يبقى الواجب وتنوب عنه الوظيفةُ الاضطرارية. فمثلاً يَتَعَلَّقُ الوجوب بالتيمم بدلاً عن الماء فِي الوضوء، أو يَتَعَلَّقُ الوجوبُ بالصَّلاة عن جلوس بدلاً عن الصَّلاة عن قيام، ومثل وجوب الصوم بدلاً عن الهَدي والذبيحة فِي مكة المكرمة وغيرها من الأمثلة الَّتي يُعبَّرُ عنها بالوظائف الاضطرارية للمعذور، ومثلها الوظائف الظاهرية حيث يحرز المُكَلَّفُ بالاستصحاب أو بالأمارة شرْطِيَّةَ شرطٍ مثلاً فيمتثلها ثم ينكشف له خلافها. مثلما إذا أتى بالصَّلاة مستصحباً الطهارةَ ثم انكشف له أَنَّهُ لم يكن عَلَىٰ وضوء.

وَأَهَمُّ البحوث فِي الإجزاء هو البحث عن نقطتين:

النُّقْطَة الأولى: فِي أَنَّه هل الوظيفة الاضطرارية بعد رفع العذر داخلَ الوقت توجب الإجزاء، فلا تجب الإعادة؟! أو أَنَّهُ لا يجب القضاء فِي خارج الوقت؟ أو أَنَّهُ لا يمكن استفادة الإجزاء من أدلةِ هذا النَّوْع من الأحكام العذرية والاضطرارية؟!

النُّقْطَة الثَّانية: فِي البحث عن إجزاء الأحكام الظاهرية؛ فعلى سبيل المثال فِي باب التقليد (وهو مورد للابتلاء كَثِيراً كما سوف نذكر ذلك) يقلد المُكَلَّف مجتهداً ثم يموت ذاك المقلَّد، وبموته يرجع المُكَلَّف إلى تقليد مجتهد يرى أن بعض الأعمال الَّتي قام بها المُكَلَّف عملاً برأي المجتهد السَّابِق، لم تكن صحيحة عَلَىٰ رأي المجتهد الجديد. مثلاً كان المجتهد الأوّل يقول بوجوب الترتيب بين الرأس والرقبة وبين كل الجسم، بلا حاجة إلى الترتيب بين القسم الأيمن من الجسم والأيسر منه، ولكن المجتهد الجديد يفتي بوجوب الترتيب بين الأيمن والأيسر من الجسم. ففي هذه الحالة يجب عليه أن يقضي جميع الصَّلَوَات السَّابِقَة، كما يجب عليه أن يعيد ما أتى بها داخلَ الوقت. هذا ما نعبر عنه بإجزاء الحكم الظاهري، وهو مورد ابتلاء فِي بحث التقليد.

إذن، فالهدف الأساس هو هَاتَانِ النقطتان، ولكن قبل الدخول إلى تلكما النقطتين تجب الإشارة إلى أمور مُقَدِّمِيَّة لا تحظى بِأَهَمِّيَّة بالغة ولكننا نذكرها تبعاً لذكرهم إيَّاها فِي كلماتهم:

الأمر الأوّل: فِي تعريف عنوان البحث؛ فإِنَّهم ذكروا تعريفين لهذا البحث:

التَّعْرِيف الأوّل: ما ذكره قدماء الأُصُولِيِّينَ وصاحب الفصول من >الأمر بالشيء هل يقتضي الإجزاء إذا أتى به عَلَىٰ وَجهه أم لا؟<. وهذا التَّعْرِيف يُنسب الإجزاء إلى الأمر ويجعله مدلولاً للأمر.

التَّعْرِيف الثَّانِي: ما ذكره الْمُتِأَخِّرُونَ حيث غيّروا العنوان وحذفوا كلمة >الأمر< من التَّعْرِيف وقالوا: >الإتيان بالمأمور به عَلَىٰ وجه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟<. أي: هل أن امتثال المأمور به والإتيان به يقتضي الإجزاء أو لا؟! وهذا التَّعْرِيف يُنسب الإجزاء إلى العمل وإلى امتثال المأمور به.

وبالإمكان أن ندرس التَّعْرِيف ضمن الخطوات التالية:

     الخطوة الأولى: هناك فارق بين هذين التعريفين، وهو أن التَّعْرِيف الأوّل ظاهرٌ فِي أن البحث عن الإجزاء بحثٌ عن دلالات الأمر، وهو مسألة من المسائل اللَّفظيَّة الأصولية، كالبحث عن دلالة الأمر وأنَّ >الأمر هل يقتضي الوجوبَ أو لا؟< أو كالبحث عن إثبات التَّوصُّليَّة بإطلاق الأمر ونفي التَّعبُّديَّة فِي بحث >التَّعَبُّدِيّ وَالتَّوَصُّلِيّ<، ومن هذا المنطلق ذكروا الإِطْلاَق فِي بحث الأوامر؛ لأَنَّهُ يبحث فِي الأصول عن الدلالات العامة للألفاظ وهو الضّابط فِي أصولية المسألة. أَيْ: أَن تكون تلك الدِّلاَلَةُ اللَّفْظِيَّةُ دلالةً عَامَّة ومشتركةً وسيالة فِي الفقه، بينما المتأخرونَ (أي: أصحاب التعبير الثَّانِي) جعلوا البحث ثبوتيّاً وَعَقْلِيّاً ولم ينسبوا الإجزاء إلى الأمر، بل بحثوا عن امتثال المأمور به بأَنَّهُ هل يستوجب الإجزاء وسقوط ذاك الأمر أم لا؟! سَوَاءٌ كَانَ هذا المأمور به ثابتاً بدليل لَفْظِيّ كالأمر، أو بدليل غير لفظي کالإجماع.

إذن فهؤلاء بحثوا عن أصل هذا الاقتضاء والسببية الموجودة بين الامتثال وسقوط التَّكليف، وهو بحثٌ ثُبُوتِيٌّ عَقْلِيٌّ كالبحث عن الملازمة بينَ وجوبِ الفعل ووجوب مقدّماته، أو كالبحث عن إمكان اجتماع الأمر وَالنَّهْي. وهذه كُلّهَا بحوث عَقْلِيَّة نَظَرِيَّةٌ يُبحث فيها عن الاستلزامات والامتناعات الْعَقْلِيَّة، وَالَّتِي بإثباتها قد تَتَكَوَّنُ لِلَّفْظِ دلالةٌ عَقْلِيَّة التزاميّة، إلاَّ أنَّها دلالة عَقْلِيَّة لاَ عَلاَقَةَ لَهَا باللَّفظ، بل هي من الملازمة بين المعنيين.

ومن هنا وقع البحث لدى الأُصُولِيِّينَ فِي أن الإجزاء هل هو مسألة أصولية لفظية أو أنَّها مسألة اِسْتِلْزَامِيَّة عَقْلِيَّة؟ فذُكرتْ نظريتان فِي الإجابة عنه:

1- الطائفة الأولى: ذهبوا إلى أنَّها مسألة عَقْلِيَّة كالبحث عن الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته.

2- الطائفة الثَّانية: كالمحقق الْعِرَاقِيّ ذهبوا إلى أنَّها مسألة أصولية لفظية ومن شؤون دلالات الأوامر الاضطرارية والظاهرية.

أما أصحاب الطائفة الأولى فقد قالوا بأَنَّهُ: لَيْسَ الكلام عن دلالة لفظ الأمر؛ إذ ليس الكلام عن أَنَّ كلمة >افعل< هل تَدُلّ عَلَىٰ الإجزاء أو لا؟ لأَنَّ الإجزاء لا يُستخرج من معنى >افعل<، لا بالمطابقة ولا بالالتزام، وإنَّما البحث ثُبُوتِيّ؛ فَإِنَّ البحث اللَّفظيّ إِنَّمَا هو عن مداليل الألفاظ الْوَضْعِيَّة، والإجزاء لَيْسَ مدلولاً للأمر، ومدلول الأمر هو الوجوب أو الاستحباب. وهذا البحث يأتي بعد ذاك؛ فَإِنَّ >امتثال مدلول الأمر والإتيان بالمأمور به هل يستوجب سقوطَ ذاك الأمر (سقوط فِعْلِيَّة ذاك الأمر أو سقوط فاعليته) أو لا؟< بحث عَقْلِيّ محض والحاكمُ به هو العقل النَّظَرِيّ. تماماً كالبحث عن >التلازم بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته<. فالعقل يحكم فِي عالم الامتثال: إن الامتثال أو تحقّق الغرض من الأمر يوجب سقوط الأمر؛ لأَنَّ الامتثال عِلَّةٌ لسقوط الأمر، أو أن يكون السَّبَب هو تحقّق الغاية وهدف الآمِر من الأمر، فتسقط محرِّكيّة الأمر ولا تبقى للأمر محرِّكيّةٌ وفاعليّةٌ، والضابط فِي كون المسألة عَقْلِيَّة أو لفظيةً هو تحديد الحاكم فِي تلك المسألة، وَالَّذِي هو العقل النظري فِي المقام، لا اللَّفظ، وليس الإجزاء مدلولاً وَضْعِيّاً للأوامر ولا يتوهم أحد دلالة الأمر عَلَىٰ مفهوم الإجزاء، بل سَوَاء وَضَعَ الواضع الأمرَ للإجزاء أو لم يضعه له، يكون الإجزاء ثابتاً بحكم العقل.

وعليه، فإن البحث عن الإجزاء، بحث ثُبُوتِيّ وعقلي ولا علاقة له بباب دلالة اللَّفظ، وليس الإجزاء مأخوذاً فِي صيغة >افعل<، بل الْمَدْلُول اللَّفظيّ إِنَّمَا هو الوجوب والاستحباب وأمثالهما وهي خارجة عن البحث.

هذا بِالنِّسْبَةِ إلى إجزاء المأمور به عن ذاك الأمر نفسه، وأمّا إجزاء المأمور به الاضطراري أو الظاهري عن المأمور بأمر آخر هو الأمر الواقعي أو الاختياري، فقالوا هناك أيضاً: إن البحث عقلي وإن البحث اللَّفظيّ فِي الأوامر الاضطرارية فِي واقعه بحث عن مصداق ذاك البحث العَقْلِيّ بأَنَّهُ هل يستفاد منها وفاء الوظيفة الاضطرارية أو الظاهرية لملاك الأمر الواقعي وغرضه أم لا؟ وحينئِذٍ فَسَوْفَ يكون البحث عن إجزاء الأمر الثانويّ الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الأولي الاختياري أو الواقعي بَحْثاً صُغْرَوِيّاً، أي عن المصداق للإجزاء العَقْلِيّ المتقدم.

وقد أفاد المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ & فِي مقابل هذا البيان بأَنَّهُ إذا كان البحث كما يقولون (من أن البحث فِي أنَّ الامتثال أو تحقّق الغرض من المأمور به يصبح علّةً لسقوط ذاك الأمر أو لا؟) كان البحث عَقْلِيّاً، ولكن الواقع لَيْسَ هكذا؛ إِذْ الحديث عن أنَّ >الإتيان بالمأمور به هل يستوجب سقوط أمره؟< وإن كان بحثاً عَقْلِيّاً ولكن لا أحد يناقش فيه؛ لأَنَّهُ من البديهي والمسلم ولم يدخل فيه الْمُتِأَخِّرُونَ أنفسهم، بل اتخذوه أصلاً مَوْضُوعِيّاً مفروغاً عنه؛ لأَنَّ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ المولى إذا أمر بشيء وامتثل المُكَلَّف مفاده المأمور به بجميع قيوده اللاّزمة والدخيلة فِي الغرض، فَسَوْفَ يسقط ذاك الأمر ولا تجب الإعادة.

فالنقطة الَّتي وقعت محط المناقشة والإشكال لدى الأُصُولِيِّينَ إِنَّمَا هي البحث عن إجزاء المأمور به لأمرٍ عن أمر آخر. أي: إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الأولي الاختياري والأمر الظاهري عن الأمر الواقعي. وَحَيْثُ أَنَّ النقاط المبحوثة عنها هنا نقاط استظهارية وإثباتية تَتَعَلَّقُ باستفادة أو عدم استفادة تحقق مصداق المأمور به الواقعي من دليل الأمر الاضطراري أو الأمر الظاهري أو استفادة وفائه بتمام الغرض منه. أي: يبحث بشكل رئيسي عن أن تعلّق الأمر الشَّرْعِيّ بالوظيفة الاضطرارية أو الظاهرية هل يَسْتَلْزِم تقييد إطلاق الأمر الأولي الواقعي أم لا؟ سواء بلحاظ الأمر بالأداء أم بلحاظ الأمر بالقضاء. إذن، فتلك بحوث استظهارية وإثباتية رغم التطرق فِي المقدّمة إلى بعض المبادئ التصديقية الَّتي تحظى بصفة ثبوتيّة وعقلية، وهي تعتبر فِي واقعها مبادئ وَمُقَدَِّمَات تَصْدِيقِيَّة، كالبحث عن إمكان التَّخْيِير بين الأَقَلّ والأكثر وهذا كالبحث عن إمكان أخذ قصد الأمر فِي الْمُتَعَلَّق وعدمه مُقَدَِّمَةٌ لنفي التَّعَبُّدِيَّةِ بالإِطْلاَق فِي دليل الأمر وإثبات التَّوصُّليَّةِ، فكذلك الشأن فِي المقام وحَيْث أَنَّ الغالب والعمدة هو البحوث الإثباتية بأَنَّهُ هل يمكن أن نستفيد من دليل الأمر الاضطراري أو من دليل الأمر الظاهري أَنَّهُ إذا امتثل المُكَلَّف الأمرَ الاضطراري أو الأمر الظاهري يسقط إطلاقُ ذاك الأمر الواقعي أم لا؟

إذن، فالمسألة لَفْظِيَّة وليست عَقْلِيَّةً. أي: يبحث عن أَنَّهُ هل إطلاق الأمر الاضطراري الَّذي شمل هذا المُكَلَّف فِي أوَّل الوقت، أو إطلاق الأمر الظاهري يكون مقيِّداً لدليل الأمر الأَوَّلِيّ الاختياريّ أو الواقعيّ، فلا تجب الإعادة أو القضاء أم لا؟

وهذا بحث ركائزه الأساسيّة إثباتيّة واستظهارية وهو بحث دلاليّ وإثباتيّ فِي طبيعته ونكاته من باب التَّقْيِيد أو الحكومة أو الْمُخَصِّص العَقْلِيّ وَالَّتِي يرتبط جميعها بمرحلة دلالة الأوامر ولا تَتَوَقَّفُ كون المسألة لَفْظِيَّةً أَنْ يَكُونُ مفهوم الإجزاء مَأْخُوذاً فِي معنى الأمر حتّى يقال: لم يؤخذ هذا الْمَفْهُوم فِي مدلول الأوامر، يكفي فِي ذلك أَنْ تَكُونَ الدِّلاَلَةُ اللَّفْظِيَّةُ تَصْدِيقِيَّةً كما فِي مباحث التخصيص وَالتَّقْيِيدِ والإطلاق؛ فإن الدلالات اللَّفْظِيَّة ليست كُلُّهَا وَضْعِيَّةً وَتَصَوُّرِيَّة، بل بعضها تَصْدِيقِيَّة وفي الوقت نفسه تكون المسألة أصوليةً لَفْظِيَّةً، كالبحث عن الإِطْلاَق وَمُقَدَِّمَات الحكمة أو البحث عن دلالة الأمر عَلَىٰ الوجوب بالإطلاق أو بحكم العقل، لا بالوضع؛ فإنَّ كون الدِّلاَلَة اللَّفْظِيَّة تَصْدِيقِيَّة لا تجعل المسألة عَقْلِيَّة كما هو واضح.

فالأنسب أن يكون البحث عن الإجزاء مسألةً أصولية لَفْظِيَّة لا عَقْلِيَّة.

     الخطوةُ الثَّانيةُ: فِي البحث عن أَنَّهُ ما هو المقصود من >الاقتضاء< فِي هذا التَّعْرِيف؟ هل المقصود هو الْعِلِّيَّة والسببية؟ أو الغاية من الأمر ونتيجته؟ أو الدِّلاَلَة وَالْكَاشِفِيَّة؟! هذا بحث يرتبط بالنتيجة المتخذة من الخطوة الأولى؛ فإن قلنا هناك بكون المسألة عَقْلِيَّة - كما ذهب إليه المتأخرون - (بأَنَّ امتثال المأمور به هل يستوجب سقوط الأمر أو لا؟) فمن الطَّبِيعِيّ أن يكون المقصود من >الاقتضاء< هو السَّبَبِيَّةُ أو الغائية، سواء كانت الغائية بِالنِّسْبَةِ إلى فِعْلِيَّة الأمر أم كانت بِالنِّسْبَةِ إلى محرِّكيّته وفاعليته.

أَمَّا إذا قبلنا مختارَ المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ & من كون البحث لفظيّاً واستفدنا الإجزاءَ من الأوامر الثَّانَوِيَّة الاِضْطِرَارِيَّة أو الظَّاهِرِيَّة بدلالات تَصْدِيقِيَّة اِسْتِظْهَارِيَّة أو عَقْلِيَّةٍ، فالاقتضاءُ يكون بمعنى الْكَاشِفِيَّة، أي: هل الأمر الاضطراري أو الظاهرية يكشف عن الإجزاء وتقييد إطلاق الأمر الأَوَّلِيّ أم لا؟

     الخطوةُ الثَّالثةُ: فِي أَنَّهُ ما هو المراد من >الإجزاء<؟ فقد عرّفوا >الإجزاء< بـ >الاكتفاء< وهو تعريف لُغَوِيّ للإجزاء والبحث عنه زائد ولغو؛ لأَنَّ كلمة >الإجزاء< لم تقع مَوْضُوعاً لحكم شَرْعِيّ ولا يترتَّب عليها أثر، حتّى يبحث عن معناها وتحديد مدلولها، وإن بُحث عنه فلا يكون مُرْتَبِطاً بالإجزاء، بل إن الأُصُولِيّ يرمي من الإجزاء - كما تقدّم - إلى سقوط الإعادة والقضاء. أي: بقاء الأمر الأولي بعد الإتيان بالوظيفة الاضطرارية أو الظاهرية وارتفاع الاضطرار أو كشف الخلاف داخلَ الوقت أو عدم بقائه، وكذلك الأمر بالقضاء فِي خارج الوقت.

     الخطوة الرَّابعة: فِي الفارق بين هذه المسألة وبين مسألة المرَّة والتَّكرار وبين مسألة تَبَعِيَّة القضاء عن الأداء؛ لأَنَّهُ يبحث فِي المرَّة والتَّكرار عن أَنَّهُ هل يقتضي الأمرُ الإتيانَ بمتعلّقه لمرة واحدة أو أَنَّهُ يقتضي الإتيان به مكرّراً؟ وهذا نظير ما نحن فيه من أن الإتيان بالمأمور به يُسقط الأمر ولا تجب الإعادة، أو أَنَّهُ لا يستوجب السُّقوط وتجب الإعادة من جديد؟! ومن الطَّبِيعِيّ أن جوابه واضح؛ إِذْ أَنَّ البحث فِي المرَّة والتَّكرار إِنَّمَا هو عن مقدار الواجب بأَنَّهُ هل هو فرد من الطَّبِيعَة أو المتعدد منها؟ وهنا بعد تحديد الواجب بأَنَّهُ فرد من الطَّبِيعَة مثلاً، يبحث عن أن امتثاله هل يوجب سقوط فِعْلِيَّة الأمر أو فاعليته عقلاً أم لا؟ وهذا بحث عَقْلِيّ وليس لفظيّاً، كما أَنَّهُ مرتبط بعالم الامتثال لا مُتَعَلَّق الأمر ومقداره. هذا فيما إذا كان البحث عن إجزاء الفعل عن نفس أمره.

وأمّا إجزاء المأمور به عن أمرٍ آخرَ فقد تقدّم أن الجواب عنه واضح جِدّاً؛ لأَنَّ هذا البحث لا يبت بصلة إلى المرَّة والتَّكرار؛ لأَنَّ البحث إِنَّمَا هو عن سقوط أمر آخر، بينما الكلام فِي المرَّة والتَّكرار مرتبط بنفس ذاك الأمر وأنه يقتضي الفعل مَرَّةً واحدة أو مكرراً.

إذن، فهذان البحثان يختلف كل منهما عن الآخر مَوْضُوعاً وحكماً وجهةً، وكذلك يتميز هذا البحث من >تَبَعِيَّة القضاء للأداء< تمايزاً مَوْضُوعِيّاً وحكمياً؛ لأَنَّ معنى البحث عن >تَبَعِيَّة القضاء للأداء< هو أن دليل الأمر بالقضاء هل هو أمر جديد أو هو ذاك الأمر الأدائي الْمُتَعَلَّق بذات الفعل بقطع النَّظَر عن وقته؟! أَيْ: هل أنَّ الأمر بالأداء عَلَىٰ نحو وحدة المطلوب أو تعدّد المطلوب؟ فإذا كان المطلوب واحداً وكان ذلك الفعل مقيّداً بالوقت، فيسقط بمضي الوقت وعدم الإتيان به لا محالةَ، ويحتاج القضاء إلى أمر جديد، وبالتالي لا توجد تَبَعِيَّة. وأمّا إذا كان مطلوبُ الأمر الأدائي داخل الوقت متعدّداً، بِأَنْ يَّكُونَ أصل الفعل مطلوباً إلى جانب مطلوبية الإتيان بالفعل فِي داخل الوقت، فحينئذٍ يسقط الأمر الثَّانِي بمضي الوقت ولكن الأمر بذات الفعل يبقى باقياً ومقدوراً لمن لم يمتثل داخل الوقت، وهذا هو تَبَعِيَّةُ القضاء للأداء.

إذن، فالبحث يدور حول وحدةِ المطلوب والواجب أو تعدّده، ولا علاقة للبحث عن الإجزاء بهذه الجهة، وإنَّما الكلام (بعد معرفة كون الواجب مقيّداً و واحداً) فِي أنَّ الوظيفة الاضطرارية أو الظاهرية هل تُسقط ذاك الواجبَ الوحداني الأوّلَ فِي الوقت؟ وهل هي توجب سقوط القضاء (ولو كان بأمرٍ جديدٍ) فِي خارج الوقت، أم لا؟!

وكذلك البحث عن سقوط فِعْلِيَّة الأمر أو فاعليّته بعد الامتثال بِالنِّسْبَةِ إلى الأمر نفسه، بحث عقلي لا يبتّ بصلة إلى وحدة المطلوب وتعدُّده، كما أَنَّهُ لَيْسَ بحثاً لفظيّاً أو إثباتيّاً، خلافاً لمسألة التَّبَعِيَّة. بالإضافة إلى أن مورد البحث عن التَّبَعِيَّة إِنَّمَا هو فِيما إذا لم يأتي المُكَلَّف بالفعل داخل الوقت، حيث يبحث عن عدم حاجة الأمر بقضائه إلى دليل أو إمكان استفادته من الأمر الأدائي نفسه، فَتَتُِمُّ تَبَعِيَّةُ القضاء للأداء، بينما البحثُ عن الإجزاء عَلَىٰ العكس يكون فيما إذا أتى الْمُكَلَّف بالفعل الاِضْطِرَارِيّ أو الظَّاهِرِيّ داخل الوقت، فيبحث عن إجزائه عن ذاك الأمر الأدائي الأوّل داخل الوقت.

إذن، فالفارق بين مسألة الإجزاء وبين ذينك البحثين الآخَرَيْنِ الأُصُولِيِّينِ واضحٌ جِدّاً.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo