< قائمة الدروس

بحث الأصول آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

32/11/20

بسم الله الرحمن الرحیم

كانَ الكلامُ فِي أصل البراءة عن وجوب الإعادة فِي الوقت لمن أتى بالفعل الاِضْطِرَارِيّ ثم ارتفع عذره. وقد تقدّم أنَّ هناك ملاحظات توجهت إليه، ذكرنا الملاحظة الأولى الأكثر فنيةً والَّتي أوردها الْعِرَاقِيّ &.

     الملاحظة الثَّانية: ما أوردها السيد البروجردي وهي الموجودة فِي تقريراته من أَنَّ المقام مجرى لقاعدة >الاشتغال اليقيني يَسْتَلْزِم الفراغ اليقيني< وليس المقام مجرى للبراءة. وقد تقدّم أن السيد البروجردي يتصوّر أصل الإجزاء بهذا النَّحْو: أن هناك أَمْرَيْنِ ثبوتيين متوجهين إلى المُكَلَّف أحدهما تعلّق بالفعل الاِضْطِرَارِيّ والآخر تعلّق بالفعل الاِخْتِيَارِيّ تعييناً.

ويقول القائلون بالإجزاء: إن امتثال الأمر الاِضْطِرَارِيّ يجزي عن امتثال الأمر الاِخْتِيَارِيّ، ومن هنا وجه & إِشْكَالاً إلى كلامهم بأَنَّهُ لا يوجد لدينا أَمْرَانِ، ولو سلمنا بوجود أَمْرَيْنِ لا نسلم بأن امتثال أمر يجزي عن الآخر لاستحالة ذلك؛ ومن هنا أشكل & فِي البحث عن الأصل الْعَمَلِيّ أيضاً قائلاً: إنَّ ما أفاده الخُراسانيّ من أَنَّهُ >إِنْ لَمْ يَكُنْ لدينا إطلاق نثبت به الإجزاء يصل الدّور إلى أصل البراءة العلمي< غير صحيح؛ لأَنَّنَا أساساً لم نؤمن بوجود أَمْرَيْنِ وإن سلمنا بثبوت أَمْرَيْنِ أحدهما تعلّق بالفعل الاِخْتِيَارِيّ والآخر بالفعل الاِضْطِرَارِيّ وشككنا فِي إجزاء الأمر الاِضْطِرَارِيّ عن الاِخْتِيَارِيّ فَسَوْفَ يكون الشَّكّ فِي سقوط ذاك الأمر الاِخْتِيَارِيّ الَّذي كان اشتغال الذِّمَّة به يقينياً، وفي مثله تجري قاعدة الاشتغال القائلة بأن الشغل اليقيني يَسْتَلْزِم الفراغ اليقيني، لا البراءة.

والجواب عنه واضح؛ لأَنَّهُ:

أوَّلاً: البحث عن الإجزاء لَيْسَ مبتنياً فِي مقام الثُّبوت عَلَىٰ أَمْرَيْنِ كما تقدّم سابقاً حيث قلنا إن المقصود هو مقام الإثبات والإطلاقات، وأمّا فِي مقام الثُّبوت فبناء عَلَىٰ الإجزاء يوجد أمر واحد مُتَعَلَّق بالجامع، وهذا ما صَرَّحَ به الأُصُولِيِّيُونَ ومن هنا قال الْعِرَاقِيّ أن الدَّوران إِنَّمَا هو بين التّعيين والتخيير.

وثانياً: إذا افترضنا وجود أَمْرَيْنِ تَعْيِينِيَّيْنِ ومستقلين تعلّق أحدهما بالفعل الاِخْتِيَارِيّ والآخر بالفعل الاِضْطِرَارِيّ وشككنا فِي الإجزاء، لا تجري قاعدة >الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني< أيضاً؛ لأَنَّ المفروض هو أن الفعل الاِضْطِرَارِيّ إذا كان مُجْزِياً فيرتفع الأمر الاِخْتِيَارِيّ إما حدوثاً ومن أول الأمر لكونه مقيّداً بعدم الفعل الاِضْطِرَارِيّ عَلَىٰ نحو الشَّرْط المتأخر أو عَلَىٰ أقل تقدير بقاءً، حيث كان الشَّكّ فِي الفرض الأوّل فِي أصل فِعْلِيَّة الأمر الاِخْتِيَارِيّ ولا يثبت اشتغال الذِّمَّة، وفي الفرض الثَّانِي وإن كان الأمر الاِخْتِيَارِيّ هو الموجود فِي البداية ولٰكِنَّهُ يسقط بقاءً، أي: أن الشَّارع لاَ بُدَّ وأن يقيّدَ بقاءَه بمن لم يأتِ بالفعل الاِضْطِرَارِيّ، وهذا وإن كان شكّاً فِي سقوط التَّكليف ولٰكِنَّهُ من الشَّكّ فِي الحِصَّة البقائية لِلتَّكْلِيفِ، وليس شكّاً فِي الامتثال الَّذي هو مَوْضُوع لقاعدة الاشتغال المتقدّمة.

وبعبارة أوضح: تجري قاعدة الاشتغال فيما إذا كان الشَّكّ فِي سقوط التَّكليف ناشئاً من الامتثال الَّذي هو فعل المُكَلَّف، لا أن يكون الشَّكّ فِي سقوط التَّكليف ناشئاً من بقاء أو عدم بقاء الْمَوْضُوع أو قيود التَّكليف الْمَوْلَوِيّ؛ لأَنَّ هذا من الشَّكّ فِي التَّكليف ولا فرق فِي جريان البراءة بين الشَّكّ فِي التَّكليف حدوثاً وبين الشَّكّ فيه بقاءً.

طبعاً، فِي المقام يمكن أن يكون لدينا استصحاب بقاء التَّكليف وَالَّذِي هو حاكم عَلَىٰ البراءة فِي حال جريان الأخيرة، ولٰكِنَّهُ خارج عن كلامه &. إذن، لا يمكن قبول الملاحظة الثَّانية.

الملاحظة الثَّالثة: وهي ليست تعليقاً عَلَىٰ جريان البراءة، بل تَمَّت الموافقة هنا عَلَىٰ أن هذا الشَّكّ فِي نفسه مجرى لأصالة البراءة، ولكن يقال هنا: إن هناك أصل عملي حاكم عَلَىٰ البراءة وهو استصحاب بقاءً التَّكليف بالفعل الاِخْتِيَارِيّ.

إن قلت: إن الصَّلاة الاِخْتِيَارِيّة لم تكن واجبة فِي الحالة السَّابِقَة الَّتي كان المُكَلَّف مضطراً فيها، فلا يوجد يقين سابق بوجوبها حتّى نستصحب وجوب الفعل الاِخْتِيَارِيّ.

قلت: نحن لا نستصحب الوجوب التنجيزي، وإنَّما نستصحب الوجوب التَّعْلِيقِيّ للفعل الاِخْتِيَارِيّ الَّذي يحظى بحالة سابقة؛ لأَنَّ عذر هذا المُكَلَّف إن كان يرتفع قبل الإتيان بالوظيفة الاِضْطِرَارِيّة كان يجب عليه الفعل الاِخْتِيَارِيّ؛ فالآن كذلك وقد ارتفع عذره، إذن يجب عليه الآنَ أيضاً الفعل الاِخْتِيَارِيّ. أي: توجد لدينا قَضِيَّة تعليقية متيقن بها وهي أَنَّ هذا المُكَلَّف كان مُكَلَّفاً بالوظيفة الاِخْتِيَارِيّة فيما لو ارتفع عذره فِي الساعة الأولى، كما أن تلك الْقَضِيَّة التَّعْلِيقِيَّة ثابتة وباقية بحكم الاستصحاب فِي الساعة الثَّانية، وحيث أن شرطه (وهو ارتفاع العذر) قد توفَّر، إذن يصبح وجوب الوظيفة الاِخْتِيَارِيّة فعليّاً. وهذا الاستصحاب حاكم عَلَىٰ أصالة البراءة، والمحقق الخُراسانيّ آمن بالاستصحاب التَّعْلِيقِيّ فِي محلّه كما فِي المثال المعروف بالعصير العنبي الَّذي يقال فيه بأننا نشك فِي الزبيب بأَنَّهُ هل يحرم إذا غلي أم لا؟ حيث لا نستصحب الْحُرْمَة التنجيزية؛ لأَنَّ الغليان لم يحدث فِي زمن العنبية، بل كانت الْحُرْمَة تَعْلِيقِيَّةً، فالقضية الشَّرْطِيَّة > العنب إذا غلي حَرُمَ< كانت ثابتةً أوَّلاً ونحن نثبتها بواسطة الاستصحاب فِي الزَّمَان الثَّانِي ونقول: >الزبيب إذا غلي حَرُمَ أَيْضاً<، وبالتَّالي غليان الزبيب يسبب حرمتَه، ومن هنا احتاط البعض فِي غليان الزبيب، ومن الطَّبِيعِيّ أن هناك خلافاً أصوليّاً فِي جريان الاستصحاب التَّعْلِيقِيّ. إلاَّ أنَّ المُحَقِّق الخُراسانيَّ يقول بجريانه ويمنع مدرسة المحقق النَّائِينِيّ عن جريانه.

وهناك قول ثالث يفصّل بين فرضين وأَنَّهُ إذا كان الجعل الشَّرْعِيّ عَلَىٰ نحو الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة مثل >إذا غلي حرم< جرى الاستصحاب التَّعْلِيقِيّ، وإذا كان عَلَىٰ نحو الْقَضِيَّة الحملية مثل >العصير المغلي حرام< لا يجري، وسيأتي تفصيل الحديث فيه فِي محلّه.

وهنا يقال: إن هذه الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة كانت موجودة لدى المُكَلَّف قبل الإتيان بالفعل الاِضْطِرَارِيّ (مثلاً فِي الساعة الأولى)، إذا كان يزول عذره ويتوفر الماءُ لديه كان يجب عليه الوضوء تعييناً، والآن بعد أن توفر لديه الماء فِي الساعة الثَّانية يجب عليه الوضوء أَيْضاً. أي: أن تلك الْقَضِيَّة التَّعْلِيقِيَّة ثابتة فِي شأنه سواء قد أتى بصلاة اضطرارية فِي وقت سَابِق وفِي الساعة الأولى أم لم يأت بها، وأساساً الإتيان بالفعل الاِضْطِرَارِيّ لا يكثّر الْمَوْضُوع ولا يجعله متعدّداً، وهو مثل جفاف العنب وتحوّله إلى الزبيب وَالَّذِي هو من الحيثيات التعليلية ولا يكون تقييدياً.

والإجابة عن هذه الملاحظة واضحة أيضاً؛ لأَنَّهُ يرد عليه:

أوَّلاً: إذا احتملنا الإجزاءَ فَسَوْفَ لا توجد لدينا حالة سابقة تعليقية متيقنة؛ لأَنَّنَا بناء عَلَىٰ الإجزاء نحتمل أن المأمور به هو الجامع من أول الأَوَّل، لا خصوص الفعل الاِخْتِيَارِيّ. أَيْ: أَنَّ أمرَ الشَّارعِ سوف يَتَعَلَّقُ بالفعل الاِضْطِرَارِيّ المقيَّد بحال الاضطرار أو الفعل الاِخْتِيَارِيّ المقيَّد بحال الاختيار عَلَىٰ نحو الأمر التَّخْيِيرِيّ الَّذي يكون الفرد للجامع فِي كُلّ زمان من الزمانين مُنْحَصِراً بفرد واحد من ذاك الجامع، لا أن يصبح الأمر التَّخْيِيرِيّ تَعْيِينِيّاً، وقد ذكر فِي محلّه أن حصر الجامع والأمر التَّخْيِيرِيّ فِي فرد واحد لا يوجب انقلاب الحكم إلى التعيين، وإن كان المُكَلَّف ملزَماً بالإتيان بخصوص ذاك الفرد حصراً، ولكن هذا الحصر حصر عقلي وفي مقام الامتثال، ولا يعني تعلّق الأمر الشَّرْعِيّ بالفرد وتعيينه. فالأمر التَّعْيِينِيّ بالوضوء لَيْسَ له حالة سابقة يقينية لكي تُستصحب، حتّى لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُكَلَّفُ مضطراً فِي البداية.

وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: إِن أردتم استصحاب وجوب الوضوء تعييناً عَلَىٰ تقدير رفع الاضطرار قبل الاِخْتِيَارِيّ، لا نتيقن به، وإن أردتم استصحابَ حصر الامتثال فيه، فهذا الحصر لَيْسَ حُكماً شَرْعِيّاً وإنَّما من منتزعات العقل، والاستصحاب إِنَّمَا يجري فِي الأحكام الشَّرعيَّة أو موضوعاتها، لا فِي المنتزَعاتِ الْعَقْلِيَّةِ.

وثانياً: إذا افترضنا أن الأمر التَّعْيِينِيّ بالوضوء توجّه إلى المُكَلَّف، فذلك إِنَّمَا يكون فيما إذا يحصل الماء قبل التَّيَمُّم؛ لأَنَّ مَوْضُوع هذا الأمر (بناءًا عَلَىٰ الإجزاء) هو من لا يأتي بذاك الفعل الاِضْطِرَارِيّ فِي حال الاضطرار إلى آخر الوقت، وإلا فإن الأمر الاِخْتِيَارِيّ يكون مرتفعاً من البداية، ومعنى ذلك أن الأمر التَّعْيِينِيّ بالوضوء معلَّقٌ عَلَىٰ عنوان >من لم يضطر أو إذا اضطر لم يأت بالوظيفة الاِضْطِرَارِيّة إلى آخر الوقت<، فلا يُحرز أن يكون عنوان >واجد الماء< وحده مَوْضُوعاً للأمر بالوضوء تعييناً لكي يجري استصحابه التعليقي.

وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: إِن من يقول بالاستصحاب التَّعْلِيقِيّ إِنَّمَا يقول به فيما إذا كان الْجَزَاء فِي الْقَضِيَّة التَّعْلِيقِيَّة حكماً، لا أن يكون مَوْضُوعاً محققاً لموضوع الحكم الشَّرْعِيّ كما فِي المقام؛ فإن هذا من الأصل المثبت.

وَالْحَاصِلُ عدم تَمَامِيَّة شيء من الملاحظات الثَّلاث على كلام الخُراسانيّ والمشهور الَّذين جعلوا الشَّكَّ مجرىً لأصالة البراءة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo