< قائمة الدروس

بحث الأصول آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

32/11/28

بسم الله الرحمن الرحیم

إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي

 

النُّقْطَة الثَّانية فِي الإجزاء البحث عن إجزاء الأمر الظَّاهِرِيّ عن الْوَاقِعِيِّ، وذلك فيما إذا امتثل المُكَلَّف تكليفه بأمارة أو بأصل، مثلاً شكّ فِي طهارة الماء فحكم بطهارته لأصالة الطَّهَارَة أو للبينة أو للأمارة، فتوضأ وصلى، ثم التفت إلى أن الماء لم يكن طاهراً، أو أن الثوب كان من حيوان محرم اللحم، ففي مثل هذه الموارد بعد كشف الخلاف هل يجب عليه القضاءُ خارج الوقت والإعادةُ داخل الوقت؟ أم يعتبر ذاك العمل مُجْزِياً؛ لأَنَّهُ لا يوجد اضطرار فِي المقام، بل هناك حجّة قائمة عَلَىٰ الوظيفة الاضطرارية وقد اِمْتَثَلَهَا المُكَلَّف قبل أن ينكشف الخلاف.

وقد قسموا هذا البحث إلى مقامين:

     المقام الأوّل: ما إذا انكشف بعد الإتيان بالوظيفة الظاهرية أن الحكم الظاهري كان مخالفاً للواقع، بأن كان اللباس نجساً مثلاً.

     المقام الثَّانِي: ما إذا لم ينكشف الخلاف، بل قام حكم ظاهري آخر مقدم عَلَىٰ الحكم الظاهري الأوّل، كما إذا أجرى أصالة الطَّهَارَة للثوب فصلى فيه، ثم قامت بينة عَلَىٰ نجاسة اللباس، والبينة حاكمة عَلَىٰ أصالة الطَّهَارَة ورافعة لحجيتها، ولكن مازال يحتمل خطأ البينة، فلم ينكشف له الواقع، ولكن لا يصل الدّور إلى الأصل الْعَمَلِيّ بعد قيام البينة. إذن، المقام الثَّانِي فِي تبدّل الحكم الظاهري الأوّل بحكم ظاهري آخر يهدم حجيةَ الأوّل بقاءً ويقتضي الإعادة.

ثُمَّ إن كِلا البحثين مخصوصان بالأجزاء الركنية، لا التي لا إشكال فِي أن فواتها بالجهل أو النسيان غير ضائر بحكم قاعدة >لا تعاد< أو نحوها؛ فإن ذلك خارج عن بحث الإجزاء وليس مرتبطاً به كما ذكرناه سابقاً.

ثم إن هذا البحث يَتُِمّ تطبيقه بكثرة فِي الفقه؛ لأَنَّهُ كَثِيراً ما يحدث أن المقلد يقوم بالعمل وَفقاً لفتوى مجتهده ثم بعد رحيله يرجع إلى مجتهد آخر يخالف رأيه رأيَ المجتهد الأوّل ويرى ذاك العملَ باطلاً، فإن قلنا بعدم الإجزاء يجب عليه أن يعيد العملَ أو يقضيه، إلاَّ إذا لم يكن رُكْناً فِي مثل الصَّلاة حيث يتمسّك فيها بقاعدة >لا تعاد< وأشباهها الَّتي تعتبر الجهلَ رَافِعاً للشرطية والجزئية الواقعيتين، كما تَقَدَّمَ.

أَمَّا المقام الأوّل: وهو ما إذا ارتفع الحكم الظاهري بكشف الخلاف، أي: أن يعلم أن ذاك الحكم كان خلافاً للواقع. فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الحكم الظاهري هنا لَيْسَ رَافِعاً للحكم الواقعي وليس مقيّداً له، وإلا يلزم منه التصويب. إذن، الحكم الواقعي كان فعليّاً عَلَىٰ المُكَلَّف ولم يُمتثل، فيجب أن يُعاد داخل الوقت أو يُقضى خارج الوقت.

ومن هنا قيل: إن القول بإجزاء الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي يَسْتَلْزِم نَوْعاً من التصويب المخالفِ للمبنى المسلم لدى الشيعة؛ لأَنَّ معنى الإجزاء هو أن الجامع كان مَأْمُوراً به. وإذا كان الفعل الظاهري وافياً بتمام الملاك أو إذا كان الحكم الظاهري مقيَّداً بمَنْ لم يمتثل الحكم الظاهري فَسَوْفَ يَسْتَلْزِم كلاهما التصويبَ وعدمَ اشتراك العالم والجاهل فِي الحكم الواقعي، وهو باطل.

ومن هذا المنطلق، نرى أن بحث الإجزاء هنا أكثر صعوبةً من إجزاء الأوامر الاضطرارية؛ لأَنَّ فِي موارد الاضطرار وذوي الأعذار كان بإمكاننا أن نستفيد من إطلاق الأوامر الاضطرارية أن المأمور به جامع وتخييري، ولكن الأمر الواقعي هنا تعييني ومطلق. فيجب عَلَىٰ من يقول بإجزاء الأمر الظاهري أن يتصوره تصويراً لا يؤدي إلى التصويب الباطل.

وهناك وجوه ذكرت لإِثْبَاتِ الإجزاء، والمهم منها وجهان رئيسيان ذكر المُحَقِّق الخراساني الوجهَ الأوّل منهما وأفاد الشَّيْخ & ثاني الوجهين نوردهما تباعاً:

     الوجه الأوّل: وهو ما أفاده المُحَقِّق الخُراسانيّ حيث استفاد الإجزاء من بعض الأحكام الظاهرية لا من جميعها، فقد قسّم الأحكام الظاهرية حسب ألسنة الدَّلِيل والمجعول الشَّرْعِيّ فيه إلى قِسْمَيْنِ:

     القسم الأوّل: الحكم الظاهري المجعول بلسان جعل الحكم المماثل للواقع المشكوك، ففي فرض الشَّكّ يجعل الشَّارع حكماً مماثلا لذاك الحكم الواقعي، كجعل الطَّهَارَة فِي قاعدة الطَّهَارَة الوارد فِي دليلها: >كل شيء طاهر [نظيف] حتّى تعلم أَنَّهُ قذر<([1] ) حيث جعل عنوان >الطَّاهِر< أو >النظيف< للماء أو الشَّيْء الَّذي نشك فِي طهارته، وكذلك لسان دليل >أصالة الحل< القائل بأن >كل شيء حلال حتّى تعرف أَنَّهُ الحرام<([2] ). وكذلك فِي الاستصحاب (فِي وجهٍ قويٍّ) وهو أَنْ يَكُونُ المجعول فيه التَّعَبُّد ببقاء الحكم المتيقن السَّابِقَ والجعل المماثل.

     القسم الثَّانِي: الحكم الظاهري الَّذي لم يجعل فيه الحكم المماثل، بل يحرز فيه الحكم الواقعي ويكون نَاظِراً إليه. أي: قد جعلت فيه الْمُنَجَّزِيَّة أو الْحُجِّيَّة أو العلمية أو الكاشفية، كأدلة حجية الأمارات وبعض الأصول العملية مثل قاعدة >التجاوز والفراغ< الَّتي تحرز الواقع تَعَبُّداً، أو قاعدة البراءة ورفع العقوبة وَالْمُنَجَّزِيَّة.

فيقول: كُلَّمَا كان لسان الحكم الظاهري من قبيل جعل الحكم المماثل، وكان ذاك الحكم شرطاً أو قيداً فِي مركبٍ كشرطية الطَّهَارَة أثناء الصَّلاة للباس المصلي وجسمه أو فِي طهارته من الحَدَثِ، فدليل ذاك الحكم الظاهري يثبتُ الإجزاءَ؛ لأَنَّهُ بجعل ذاك الحكم المماثل الْوَاقِعِيِّ ويحدث توسعةً فِي شرْطِيَّةِ ذاك القيد وقيديّته؛ لأَنَّهُ يثبت أن ذاك المجعول الشَّرْعِيّ (وهو الطَّهَارَة أو الحليّة) قد جعل للمشكوك، وبالتَّالي تَمَّ امتثال الصَّلاة فِي ثوب طاهر أو حلال شرعاً، وما كان شرطاً لم يكن أكثر من ذلك.

طبعاً، بعد كشف الخلاف لا تبقى لدينا طَهَارَة ظاهرية للصلوات والأعمال الأخرى، ولا يمكن الإتيان بالصَّلاة فِي ذاك الثوب، ولكن بِالنِّسْبَةِ إلى الصَّلاة الماضية فيتم تصحيحها باستفادة التوسعة من دليل جعل الحكم المماثل فلا تجب إعادتها أو قضاؤها، وهذا نتيجة الإجزاء نفسها، أي: يمكن أن يستفاد من دليل جعل الحكم المماثل أنَّ ما هو مشترطٌ ومأمور به فِي المركب هو حكم الشَّارع بالحلية أو بالطهارة فِي اللباس، سواء الطَّهَارَة والحلية الواقعيتين أم الظاهريتين. والواقعُ أن دليل الحكم الظاهري يوسِّعُ الشَّرْطِيَّةَ أو أَنَّهُ يخلق لها المصداق؛ لأَنَّهُ يقوم بجعل نفس تلك الطَّهَارَة أو الحلية المجعولة عَلَىٰ العناوين الأولية فِي المشكوك، أَمَّا أَنَّهُ ما هو ملاك هذا الجعل فهذا ما لا يبت بهذه التوسعة من صلة.

وعليه فَسَوْفَ تكون الطَّهَارَة والحلية المجعولتين فِي الشَّكّ ظاهريتين؛ لأخذ الشَّكّ فيها ولأنها لا ترفع النَّجَاسَة الواقعية، كما أن الْمُسْتَفَاد من الأمر بالمركب المقيِّد بالطهارة، وأنَّ المشترط فِي الصَّلاة هو اللباس المحكوم بالطهارة أو الحلية، سَوَاءٌ كَانت مجعولاً وَاقِعِيّاً كعنوان أَوَّلِيٍّ فِي مورد من الموارد أم كان مجعولاً لعنوان ثانويّ كمشكوك النَّجَاسَة والحرمة.

إذن، تَمَّ الحفاظ عَلَىٰ كون الطَّهَارَة والحلية ظاهريتين ولكن مُتَعَلَّق الأمر التَّكليفيّ بات أعمّ، فلا نبتلي بالتصويب فِي المقام؛ لأَنَّ التوسع تَمَّ بواسطة الحكم الظاهري (في حكم آخر تكليفي وهو الأمر بِالشَّرْطِ).

وأمّا إذا كان لسانُ جعل الحكم الظَّاهِرِيِّ إحرازَ الواقع والكشف عنه، ففي هذه الحالة حَيْث أَنَّه لم يجعل الحكم المماثل، بل جُعلت الْمُنَجَّزِيَّة أو الْحُجِّيَّة أو العِلْمِيّة وَالْكَاشِفِيَّة، فلا يُستفاد الإجزاء حينئذٍ؛ لأَنَّه لم يعتبر الشَّارِعُ ذاك المصداق فِي المقام لكي يُستفاد منه هذا التوسّع، ومن هنا لا وجه للإجزاء فِي القسم الثَّانِي من الأحكام الظاهرية.

وقد أثير بوجه هذا الوجهِ الكثيرُ من الإشكالات من مدرسة المُحَقِّق النائيني، يمكن ذكرها كأربعة إِشْكَالاَت رئيسية:

     الإشكال الأوّل: حول التَّعْبِير بـ>حكومة قاعدة الطَّهَارَة والحلية عَلَىٰ دليل الشَّرْطِيَّة< الوارد فِي كلام صاحب الكفاية حيث قال: إن مثل هذه الأحكام الظاهرية الَّتي يستفاد منها الحكم الظاهري إلى جانب استفادة التوسع بنحو الحكومة فِي دليل الشَّرْطِيَّة، خلطٌ بين نوعين من الحكومة حيث أنَّها عَلَىٰ نوعين:

النَّوْع الأوّل: الحكومة الواقعية.

النَّوْع الثَّانِي: الحكومة الظاهرية.

     أَمَّا (النَّوْع الأوّل) الحكومة الواقعية فهي أن يوسِّع موضوعَ حكم واقعاً بأن يقول: إن مَوْضُوع ذاك الحكم أوسع من ذاك الشَّيْء الوارد فِي لسان دليله واقعاً، كما إذا ورد فِي دليل: >أكرم الفقير< ويأتي دليل آخر ويوسع الْمَوْضُوع ويقول مثلاً: >إن ابن السبيل فقير< أو أن يقوم بالتضييق الواقعي مثل >لا رباً بين الوالد والولد<.

     أَمَّا (النَّوْع الثَّانِي) الحكومة الظاهرية فهي فيما إذا لم يَتَغَيَّرُ مَوْضُوع الحكم الواقعي، بل يأتي الحكم الظاهري ويثبت ذاك الْمَوْضُوع فِي المورد الَّذي يثبت فيه ذاك الحكم أيضاً ويوسّعُهُ ويقول مثلاً: إن وُجُوب الإِكْرَامِ ثابت بمثلِ >أَكْرِمِ الْعَالِمَ< بِالنِّسْبَةِ إلى >زيد< الَّذي قامت البينة العادلة عَلَىٰ أَنَّهُ عالم، لٰكِنَّ ذاك الحكم لم يوسَّع واقعاً بل الحكم ورد فِي خصوص >العالم< ولكننا نقول بأن >زَيْداً< عادل لقيام البينة عَلَىٰ كونه عَالِماً، فيشمله الحكم بوجوب الإكرام أيضاً، ولكن ما إن تبيّن أَنَّهُ لم يكن عَالِماً حتّى يُعلم أن تلك التوسعة كانت ظاهرية. وهذا ما نعبر عنه بالحكومة أو التوسعة الظَّاهريَّة، وإن التوسع فِي الأحكام الظَّاهريَّة - سَوَاءٌ كَانَ المجعولُ فيها الحكمُ المماثل أم لا - توسّع ظاهريّ وليس بواقعي؛ لأَنَّ هذا الحكم حكم ظاهري فِي طول الشَّكّ فِي الواقع ولا يمكنه أن يكون توسعا وَاقِعِيّاً؛ ؛ لأَنَّهُ يرفع الشَّكّ. إذن، كَمَا أَنَّ هَذَا الحكم ظاهري كذلك التوسع فيه ظاهري وليس بواقعي، وبكشف الخلاف يتبين أن ذاك التوسع أيضاً لم يكن موجوداً، فتجب الإعادةُ.

     الإشكال الثَّانِي: هو ما قيل من أن صاحب الكفاية أفاد فِي باب الحكومة أن الحكومة بحاجة إلى تفسير دليل الحاكم للمحكوم والنظر إليه. أي: يجب أن يكون دليل الحاكم نَاظِراً إلى دليل المحكوم ومفسِّراً له حتّى فِي باب التنزيل، بينما فِي المقام لا تُعتبر قاعدة الطَّهَارَة أو الحلية ناظرةً إلى أدلّة الشَّرْطِيَّة حتّى تصبح حاكمة عليها وتقوم بالحكومة والتوسعة فِي الشَّرْطِيَّة.

     الإشكال الثَّالث: وهو إِشْكَال مُهِمّ يورد النقض بموارد كثيرة يجب الالتزام بها فقهيّاً وَفقاً لهذا الوجه، بينما لا يمكن لأحد أن يلتزم بها، مثلاً يلزم من التوسع فِي الشَّرْطِيَّة أَنَّهُ إذا شكّ فِي طهارة الماء ثم أثبت طهارته بقاعدة الطَّهَارَة وتوضأ، يجب أن تلتزموا بأن وضوءه كان بالماء الطَّاهِر حتّى إذا كشف الخلاف؛ لأَنَّهُ تَوَضَّأْ بِالْمَاءِ المحكوم بالطهارة وبإمكانه أن يصلي صلواته المقبلة بذاك الوضوء، أو إذا لاقت اليدُ ذاك الماء تبقى طاهرةً حتّى بعد كشف الخلاف؛ لأَنَّ الماء كان طاهراً فِي زمن التلاقي، وإنَّما اليد لاقت الماءَ الَّذي جعل الشارعُ فيها الطَّهَارَةَ. وهناك عشرات النقوض المماثلة الَّتي لا يلتزم بها أحد.

     الإشكال الرَّابع: ما ذكره الميرزا من استلزام هذا الوجه التهافتَ؛ لأنكم أردتم الجمع بين هذين الجعلين، بأن تستفيدوا الطَّهَارَة الظَّاهريَّة من الدَّلِيل إلى جانب استفادة أثره التَّكليفيّ (وهو التوسع فِي الشَّرْطِيَّة)، بيد أَنَّهُ لا يمكن استفادتهما معاً من دليل واحد؛ إذ يستلزم منه التهافت فِي اللِّحَاظ؛ لأنكم حينما تريدون التوسع فِي الشَّرْطِيَّة يجب عليكم أن تلحظوا وتفترضوا >جعل الطَّهَارَة الظَّاهريَّة< أصلاً مفروغاً عنه، لكي تُنزَّل منزلة الطَّهَارَة الواقعية، أي: يلزم منه جعل الطَّهَارَة الظَّاهريَّة فِي مرتبة سابقة، والحال أنكم إذا أردتم جعل الطَّهَارَة الظَّاهريَّة يجب عليكم أن تلحظوها لحاظاً إِيجَادِيّاً وإنشائياً، وهذان اللحاظان متضادان.

وبعبارة أخرى: حَيْث أَنَّ التوسع فِي الشَّرْطِيَّة وتعميمها عَلَىٰ الطَّهَارَة الظَّاهريَّة وتنزيل الطَّهَارَة الظَّاهريَّة منزلة الطَّهَارَة الواقعيّة يكون فِي طول جعل الطَّهَارَة الظَّاهريَّة، فلا يمكن أن نستفيدهما معاً من الجعل الواحد والدَّلِيل الواحد.

هذه هي الإشكالات الأربعة الَّتي أوردها مدرسة الميرزا عَلَىٰ صاحب الكفاية، وَالَّتِي يجب أن يبحث عنها لمعرفة الصَّحِيح والسقيم منها.


[1] - .العاملي، وسائل الشيعة: ج3، ص462
[2] - .العاملي، وسائل الشيعة: ج17، ص88

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo