< قائمة الدروس

بحث الأصول آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

33/02/08

بسم الله الرحمن الرحیم

كان الكلام فِي الشَّرْط المتأخر وإمكانه فِي الأحكام الشَّرْعِيَّة (وَالَّتِي كثر نحوها فِي الفقه) وقد تَقَدَّمَ أن الكلام فِي البحث الأَوَّل حول الشَّرْط المتأخر يعم الحكم التَّكْلِيفِيّ والوضعي، كما إذا الوجوب أو الملكية مشروطاً بشرط متأخر، وقلنا أَيْضاً إن للحكم مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: مرحلة الجعل وهي القضية الحقيقية أو إرادة المولى الكلية.

المرحلة الثَّانية: مرحلة المجعول الفعلي بأن يتحقق مَوْضُوعَ الْحُكْمِ وشروطه خارجاً ويصبح الحكم فِعْلِيّاً عَلَىٰ الْمُكَلَّف.

المرحلة الثَّالثة: مرحلة ملاكات الأحكام؛ لأَنَّ الأحكام تتبع الملاكاتِ والمصالح والمفاسد، وشروط الأحكام دخيلة فِي الاتصاف (أي: دخيلة فِي اتصاف الْمُتَعَلَّق بالمصلحة والملاك)، فمن هنا يجب أن يقع البحث فِي مراحل ثلاث لنعرف أن الشَّرْط المتأخر بِالنِّسْبَةِ إلى كُلّ مرحلة من هذه المراحل هل يواجه مشكلة أم لا؟

أَمَّا مرحلة الجعل والإرادة الكلية للمولى فقد أثير بوجهه إشكالان:

الإشكال الأَوَّل: هو الشَّرْط المتأخر والَّذِي تَقَدَّمَ الكلام عنه من أن الشَّرْط يُعَدُّ من أجزاء العلة التامة ولا يمكنه أن يتأخر عن المعلول. وقد أجاب عنه الخراساني بأن عالم نفس المولى هو ظرف تَحَقُّق وجود الحكم والإرادة الْمَوْلَوِيَّة، والعالَم الخارجي والواقع لَيْسَ شرطاً فِي هذه الإرادة الْمَوْلَوِيَّة (أو قل: فِي جعل القضية الكلية) وَإِنَّمَا المشروط هو الوجود الذهني والعملي، وهذا العلم موجود عند المولى مقارناً مع جعل القضية الكلية أو الإرادة الكلية. إذن، إن ما هو مشروط فِي مرحلة جعل الأحكام أو الإرادة التشريعية هو الوجود العلمي وليس الوجود الخارجي، كما أَنَّهُ مقارن وليس متأخراً، وَبِالتَّالِي لا موضوع فِي هذه المرحلة لإشكال تأخر الشَّرْط عن المشروط والعلة عن المعلول.

الإشكال الثَّانِي: وقد حاول الميرزا النَّائِينِيّ أن يرد عليه ويبطله مدعياً أن الشَّرْط المتأخر يواجه فِي عالم الجعل إِشْكَالاً أَيْضاً حتَّى إذا قلنا بأن الشَّرْط فيه هو الوجود العلمي وهو لَيْسَ متأخراً، وذلك الإشكال هو لزوم الخلف والتهافت فِي لحاظ الجاعل، وهو محذور آخر.

وتقريبه أَنَّ القضية الحقيقية فِي حكم قَضِيَّة شرطية، بمعنى أن ترتب الحكم فيه يلحظ مَشْرُوطاً بأن يلحظ حصول الْمَوْضُوع وشروطه، وكأنه قال: >إذا وجدت الاستطاعةَ ترتب عليه وجوب الحج<.

إذن، إن لحاظ المولى للقضية الشَّرْطِيَّة لحاظ ترتّبي يفترض فِي عالم اللِّحَاظِ وجود الشروط وَالْمَوْضُوع ويفترض تحققها حتَّى يستطيع أن يرتِّب الحكمَ عليها، فيجب عليه أن يقدِّر وجود شرط الحكم ويفترض أَنَّهُ موجود لكي يمكنه أن يرتّب الحكم عليه؛ وَحِينَئِذٍ إذا كان ذاك الشَّرْط مُتَأَخِّراً يلزم منه التهافت فِي اللِّحَاظِ؛ لأَنَّهُ لو فَرَضَ الحكمَ حين جعلِهِ (الَّذِي يكون الزمانُ فيه متقدّماً) فهو خلف الفرض؛ لأَنَّنا افترضنا تأخر الشَّرْط فلا يكون الشَّرْط مَوْجُوداً فِي زمان الحكم. وَأَمَّا لو فَرَضَ الشَّرْطَ فِي زمان وجود الشَّرْط فيكون حِينَئِذٍ قد مضى زمانُ الحكم والمشروط.

وبعبارة أخرى: إن القضية الحقيقية تنعدم مع عدم الترتب، ومع الترتب يجب أَنْ يُفترض الشَّرْطُ مقدَّرَ الوجود فِي زمان جعل الحكم بنحو القضية الشَّرْطِيَّة بحيث لا يمكنه أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّراً؛ لأَنَّ المتأخر فِي زمان الحكم معدوم الوجود، وهذا تهافت فِي اللِّحَاظِ فلا يمكن أخذ شرط بنحو الشَّرْط المتأخر فِي القضايا الحقيقية الترتبيّة، إلا أن يُرجع إلى الشَّرْط المقارن.

ولكن هذا التقريب مِمَّا لا يمكن المساعدة عليه أَيْضاً؛ وذلك لأَنَّ ترتب الجزاء عَلَىٰ الشَّرْط لا يستدعي أكثر من أن تُفترض وتُقدَّر جملةُ الشَّرْط (أَيْ: أَن يُفترض صدقه وتحققه)، أَمَّا أَنَّهُ يجب أن تحكي جملةُ الشَّرْط عن الماضي أو الحال أو المستقبل فلا اختلاف بينها من هذه الناحية؛ إذ بإمكان كُلّ منها أن يقع موقع الشَّرْط والمترتب عليه ويفترض صدقُه، ومعنى افتراض صدق الجملة المستقبلية هو تحققها فِي المستقبل وليس بالفعل، خِلاَفاً للجملة الحالية أو الماضوية، وهذا المطلب لا يضر بترتب الجزاء عَلَىٰ الشَّرْط أبداً كما لا يوجب أي تهافتٍ فِي اللِّحَاظِ؛ لأَنَّ ما تَمَّ تقديره وافتراضه هو تَحَقُّق جملة الشَّرْط فِي زمانه والَّذِي قد يكون ماضياً أو حاضراً أو مستقبلاً، ومعناها: >إن تَحَقُّق ذاك الشَّرْط فِي المستقبل فَسَوْفَ يكون الجزاء ثابتاً فِي زمانه الخاص وهو الزمان الماضي<.

فتحصّل إلى الآن أَنَّهُ كما يمكن للذهن أن يأخذ الشَّرْطَ مقدر الوجود عَلَىٰ نحو الماضوية أو الحال، كذلك يمكنه أن يأخذه مقدر الوجود عَلَىٰ نحو يكون متحققاً فِي المستقبل، وَحِينَئِذٍ لا يلزم أي تهافت فِي اللِّحَاظِ، وهذا مطلب واضح ووجداني، والإشكال فيه غريب جِدّاً، فكأن البعض خيّل إليه أن الترتب لاَ بُدَّ وأن يكون بلحاظ الزمان مع أن الواقع لَيْسَ هكذا وَإِنَّمَا الترتب يعني الإناطة والاشتراط مِمَّا لا يتنافى مع استقبالية الشَّرْط.

ثُمَّ إن عمدة البحث تقع حول الحكم بمعنى المجعول الفعلي وكذلك الملاك. أَمَّا ما يرتبط بالمجعول فإن منشأ الإشكال فيه هو أن المجعول لَيْسَ فعلياً قبل تَحَقُّق الشَّرْط (مثلاً لا يوجد وجوب قبل الاستطاعة) والفعلية والوجوب يتبعان فِعْلِيَّةَ شروطِ الحكم وموضوعه (ومن الطبيعي أن الشرط هنا جزء من مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بالمعنى الأعمّ) حتَّى يصبح الحكم فِعْلِيّاً، وَإلاَّ فلا يكون الحكم فِعْلِيّاً.

إذن، الفعلية منوطة بتحقق الشَّرْط وَالْمَوْضُوع الخارج، وَالشَّرْط سبب له، فلا يمكنه أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّراً، ولا يمكن للأمر المتأخر أن يوجِدَ الفعليةَ للأمر المتقدم.

وقد نوقش هذا الإشكال بتقريبين:

التقريب الأَوَّل: وهو ما يظهر من تقريرات السَّيِّدِ الأُسْتَاذِ الْخُوئِيِّ & حيث قال بأن الحكم والمجعول لَيْسَ أمراً حَقِيقِيّاً وَإِنَّمَا هو أمر اعتباري، وبإمكان المعتبِر أن يلحظه بشكل مطلق أو بشكل مقيَّد، ومن الطبيعي أن بإمكانه أن يعتبره مقيَّداً بشرط متأخر أو بشرط متقدم، وَحِينَئِذٍ (أي: حينما يريد أن يعتبر هكذا اعتبار) يجب أَنْ يَكُونَ المجعول الفعلي مَوْجُوداً قبل ذلك حتَّى يكون مطابقاً للاعتبار.

ولكن هذه الإجابة وإن كانت صحيحة فِي نفسها ولٰكِنَّهَا لا ترفع أساس الإشكال؛ لأَنَّهُ يبقى هذا التساؤل القائل بأن ما يصبح فِعْلِيّاً فِي الخارج (مثل اتصاف الحج بالوجوب الَّذِي هو فعلي عَلَىٰ الْمُكَلَّف) كيف يكون مَعْلُولاً ومسبباً لشرط متأخر فِي الخارج؟ أليس هذا التأثير مُتَأَخِّراً وَمُتَقَدّماً؟ مُضَافاً إلى أن الجعل والاعتبار لَيْسَ روح الحكم الشَّرْعِيّ وقوامه، بل إن الإرادة الْمَوْلَوِيَّة هي قوامه، وهي أمر حَقِيقِيّ، ومن هنا إن أخبر المولى بأنني أريد الحج لِكُلّ من يصبح مستطيعاً يجب إطاعته أَيْضاً، والإرادة ليست أَمْراً اعْتِبَارِيّاً، ومن هنا ننقل الإشكال إلى أَنَّهُ كيف تصبح هذه الإرادة فعليةً بتحقق الشَّرْط المتأخر؟

والإجابة الدقيقة عن هذا الإشكال هي أن ظرف المجعول أو الإرادة هو عالم نفس المولى وليس الخارج، وما يحدث فِي الخارج تحت عنوان >فِعْلِيَّة الحكم< أو >اتصاف الْفِعْل بالوجوب أو بكونه مراداً للمولى< مطلب تَصَوُّرِيّ بالحمل الأَوَّلِيّ وليس تَصْدِيقِيّاً، أي: أَنَّهُ اتصاف مجازي وليس حَقِيقِيّاً؛ لأَنَّهُ حينما يعرض عارض فِي الذِّهْن يكون اتصافه فِي الذِّهْن أَيْضاً، ويستحيل أن ينفصل الاتصاف عن العروض (كما سوف نثبت ذلك مُفَصَّلاً فِي مسألة الواجب الْمُعَلَّق، وكذلك فِي بحث الإرادة والمراد بالذات) وسوف نقول بأن الجعل والمجعول شيء واحد ويستحيل أَنْ يَكُونَ الجعل فِي الذِّهْن والمجعول فِي الخارج، وإن اتصاف الخارج بالجعل مجازي وليس حَقِيقِيّاً، كما يستحيل أن يوجد شيء فِي نفس المولى مع وجود الْمَوْضُوع فِي الخارج، كما أَنَّهُ تحدث إرادة أخرى حيث يتحقق الشَّرْط خَارِجاً، بل المولى أساساً قد لا يعلم بتحقق الشَّرْط أصلاً.

إذن، المجعول الفعلي لَيْسَ إلا انطباق القضية الحقيقية أو الإرادة الكلية الْمَوْلَوِيَّة وليس تَحَقُّق شيء فِي الخارج، حيث أَنَّهُ حينما يتحقق محكي موضوع تلك القضية الكلية فِي الخارج (سَوَاء أخذ بنحو المتقدم أو المتأخر أو المقارن) لا يكون إلا بنظرة تَصَوُّرِيَّة وبالحمل الأَوَّلِيّ لا بالحمل الشائع لتلك القضية الكلية فيُتصور أَنَّ ذاك المجعول أو الإرادة أصبح فِعْلِيّاً فِي الخارج، لكن هذه ليست إلا نظرة مجازية بحتة وَتَصَوُّرِيَّة محضة وبالحمل الأَوَّلِيّ دون التَّصْدِيقِيّ والحقيقي، ومن هنا لا يلزم أي نوع من سببية أو تأثير شَرْط متأخر فِي أمر متقدمٍ فِي الخارج حتَّى يقال باستحالته الْعَقْلِيَّة. وهذا هو الإجابة الفنية عن إشكال الشَّرْط المتأخر وحل أساسي لمشكلته.

طَبْعاً يجب أن ننبّه هنا عَلَىٰ أن إحراز محكي مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ والإرادة فِي الخارج (والَّذِي نعبّر عنه بإحراز صغرى الحكم أو إحراز كبرى الجعل والإرادة الكلية فِي نفس المولى) موضوعٌ لحكم العقل بالتنجيز والَّذِي عبّر عنه العراقي & بالفاعلية وقال: إن تَحَقُّق الْمَوْضُوع فِي الخارج لا يستوجب فِعْلِيَّةَ الحكم، بل يستوجب عَقْلاً فاعليّتَه ومحركيته. وهكذا يتبين أن أصل الإشكال حول مرحلة المجعول قد نشأ من الخلط بين أمرٍ تصوريٍّ وآخَرَ تصديقيٍّ، فقد ورد التعبير بالمجعول الفعلي فِي كلمات الميرزا والأصوليين وخُيِّل أن الاتصاف الحقيقي يحدث فِي الخارج، ومن هنا قالوا: إن حدوث هذا الاتصاف والفعلية لا يمكن أَنْ يَكُونَ مشروطاً بشرط متأخر سيوجَد فيما بعدُ.

ولكن لَيْسَ الأمر هكذا، فلا يوجَد شيء فِي الخارج ولا يتشكل اتصاف فِي الخارج، بل إن ما يتشكل هو انطباق القضية الحقيقية المجعولة عَلَىٰ موضوعه فِي الخارج وهو موضوع حكم العقل بالتنجيز، وهذا الانطباق يتبع كَيْفِيَّة أخذ الْمَوْضُوع فِي تلك القضية الكلية بحيث أَنَّهُ إذا كان استقبالياً ومتأخراً فَحِينَئِذٍ إِنَّمَا يتطابق فيما إذا كان فِي الظَّرْف المتأخر لذاك الشَّرْط وَالْمَوْضُوع فِي اللوح الواقع، فإذا أحرز الْمُكَلَّف تحققه فِي المستقبل فَيَتَنَجَّز الحكم، كما إذا أحرز تَحَقُّق الشَّرْط وَالْمَوْضُوع المتقدم أو المقارن.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo