< قائمة الدروس

بحث الأصول آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

33/02/13

بسم الله الرحمن الرحیم

كان البحث فِي الشَّرْط المتأخر فِي ثلاثة أقسام:

القسم الأَوَّل: فِي الشَّرْط المتأخر للحكم، وكان هو العمدة فِي البحث حيث كان الميرزا يورد عليه إشكال الشَّرْط المتأخر، وقد تَقَدَّمَ هذا البحث وتبين أَنَّهُ لا محذور فيه، وأن الشَّرْط المتأخر معقول بِالنِّسْبَةِ للأحكام، وإذا ورد فِي دليل مّا لا نحتاج إلى تأويلات الميرزا كتأويله إلى شرطية التعقب بذاك الشَّرْط وغيره. والَّذِي وقع البحث فِي إمكانه وامتناعه أَيْضاً ولا أقل من كونه مخالفاً لظاهر دليل الشَّرْط المتأخر.

القسم الثَّانِي: فِي الشَّرْط المتأخر لمتعلق الحكم، أي: الحكم مطلق وليس مَشْرُوطاً بشرط متأخر، ولكن الشَّرْط المتأخر شرط للواجب، كمثال >المستحاضة الكثيرة< المعروف الَّتِي يجب عليها أن تغتسل لِكُلّ صلاة، فقد تَقَدَّمَ هناك أن عليها أن تغتسل لصلاتي المغرب والعشاء ضمن غسلها لجميع الفرائض، وهذا شرط لصحة صومها في النهار السابق عَلَىٰ صلاتي المغرب والعشاء أَيْضاً، أَيْ: أَن الغسل الليلي شرط لصحة الصوم النهاري السابق، وهذا هو الشَّرْط المتأخر فِي الواجب، عَلَىٰ أَنَّهَا إن لم تغتسل بهذا الغسل يبطل صيامها ويجب عليها القضاء.

وفي المقام يوجد بحثان أَيْضاً:

أحدهما: البحث عن معقولية وإمكانية الشَّرْط المتأخر للواجب، وأن الواجب كيف يكون له شرط متأخر، وكيف يُؤَثِّر الشيء المتأخر فِي صِحَّة الواجب المتقدم؟

والآخر: هو البحث عن ملاك هذا الواجب حيث أن لقيود الواجب التأثير فِي تَحَقُّق ملاكه، كالطهور والاستقبال اللذان لهما تأثير فِي تَحَقُّق ملاك الصَّلاَة (وَإلاَّ لم يكن الشَّارِع ليجعلهما شرطين للواجب) ولذلك (بلحاظ عالم الملاك) يأتي الإشكال العقلي السابق من أَنَّهُ كيف يمكن للأمر المتأخر أن يؤثّر فِي تَحَقُّق ملاك الواجب المتقدم؟!

إذن، يجب علينا أن نجيب عن الإشكال بلحاظ عالم الملاك كما يجب علينا أن نجيب عنه بلحاظ صِحَّة الواجب من أن الشَّرْط المتأخر كيف يؤثّر ويتدخل فِي صِحَّة الواجب المتقدم؟!

أَمَّا حل الإشكال بلحاظ عالم الواجب والصحة فهو أن شروط الواجب وقيوده راجعة فِي واقعها إلى تقييد الواجب وتحصيصه؛ فَإِنَّ الشَّارِع قد يجعل الوجوب عَلَىٰ الطَّبِيعَة المطلقة وقد يجعله عَلَىٰ طبيعة مُقَيَّدَة، أَيْ: رجوع شروط الواجبات وقيودها إلى تقييد مُتَعَلَّق الحكم وتضييقه.

ولا إشكال فِي أَنَّهُ يمكن للإنسان أن يقيِّدَ متعلَّقَ الحكمِ بقيد متقدمٍ أو بقيد متأخر (كإكرام من سافر بالأمس أو إكرام من سيسافر غداً)، وكما يمكن أن يقع مطلقُ فعل مّا متعلقاً للأمر كذلك يمكن أن يقع فعل مُقَيَّدٌ بقيدٍ متعلقاً للأمر، وقد ذكر فِي >المعاني الحرفية< أن التقييد هو تحصيص وتضييق للمفاهيم والطبائع يتحقق بعد التقييد فِي الخارج بشرط الإتيان بذاك القيد، مِنْ دُونِ أي فارق فِي زمان القيد بين الماضي والمضارع. فعلى سبيل المثال إن قلتم: >جئني بإنسان يكون مسافراً يوم غد< يجب عليك أن تأتي بإنسان سيسافر غَداً، وإن قلت: >جئني بإنسان سافر أمس< عليك أن تأتي بإنسان سافر بالأمس، وإن قلت: >جئني بإنسان يكون مسافراً اليوم< عليك أن تأتي بمن يسافر اليوم. وكما تلاحظون يمكن أخذ كُلّ واحد من هذه التقييدات الثَّلاَثة فِي مُتَعَلَّق الأمر، ومهما كان المأخوذ لا يتحقق مصداق تلك الحصة والمقيَّد فِي الخارج ما لم يتحقق ذاك التقييد.

إذن، إن شروط الواجب وقيوده ليست دخيلة فِي الوجوب بلحاظ عالم الحكم، وأخذها فِي مُتَعَلَّق الوجوب إِنَّمَا يعني تقييد ذاك المتعلق وتحصيصه وتضييقه بذلك القيد الَّذِي يرفع الإِطْلاَقَ. وبالإمكان أن يتحقق تضييق المفاهيم بشيء سابق أو مقارن أو متأخر، وأيّاً كان القيد المأخوذ لا يتحقق المضيَّق فِي الخارج إلا بتحقق القيد، وظرف التَّقْيِيد والتحصيص إِنَّمَا هو عالم المفاهيم فِي الذِّهْن، وهو يسبب أن لا تَتَحَقَّقَ تلك الحصةُ الْمُقَيَّدة فِي الخارج إلا مع تَحَقُّق قيدها، ولا محذور فِي شيء من ذلك.

ويجري هذا المطلب نفسه فِي الأجزاء أَيْضاً، ويتعلق الحكم بالفعل الْمُقَيِّد والمشروط بفعل آخر، أي: مجموع الفعلين، لا أن يقع كُلّ واحد منهما متعلقاً للأمر والوجوب لا بشرط عن الآخر، فيقول مثلاً: >تجب ركعتان من الصَّلاَة ولا يَتُِمّ الامتثال قبل الإتيان بالركعة الثَّانية<؛ لأَنَّ الركعة اللابشرط لَيْسَت مأموراً بها، إذن إن قيود صِحَّة الواجب راجعة إلى تضييق الواجب، ولا يرد عليه إشكال تأثير المتأخر فِي المتقدم، وليس المقصود من الصِّحَّة إلا أَنَّهُ ما لم يتحقق القيد لا يتحقق الْمُقَيَّد والمُتَعَلَّق للأمر، فلا يتحقق الواجبُ.

أَمَّا الحديث عن تأثير قيود الواجب فِي الملاك فهو بحث تكويني؛ لأَنَّ الملاك أمر تكويني ويتحقق بواسطة الْفِعْل الواجب فِي الخارج، ومن هنا يقال: إن معنى اشتراط شرط متأخر للواجب المتقدم هو تأثير الأمر المتأخر فِي تَحَقُّق الملاك المتقدم، وهذا مستحيل. إذن لا يمكن للشرط المتأخر للواجب أن يؤثر فِي ملاك ذاك الواجب؛ لأَنَّهُ حينما يأتي بالفعل الواجب لَيْسَ مشترطاً عليه، وحينما يتوفر الشَّرْطُ لا يكون الْفِعْل الواجب الْمُقْتَضِي للملاك موجوداً، ومعنى ذلك أن الشَّرْط المتأخر لا يمكن أن يُؤَثِّرَ فِي الملاك، وَبِالتَّالِي لا يمكن أَنْ يَكُونَ شرطاً للواجب؛ لأَنَّ القيود فِي متعلقات الأحكام تابعة ودخيلة فِي ملاكات الأحكام.

 

الجواب:

وقد أجاب الخراساني عن هذا الإشكال بأن ملاكات الأحكام ليست بالضرورة مصالح ومفاسد تكوينية، بل يمكن أَنْ تَكُونَ من قبيل الحسن والقبح، والعناوين المحسنة والقبيحة أمور اعتبارية ليست هي كالأمور التكوينية والوجودية ويمكن أَنْ تَكُونَ منتزَعة من الأمر المتأخر أو أَنْ تَكُونَ ناشئةً من أمر اعتباري آخر كتعقب الصوم بالغسل فِي الليلة المقبلة المقارنة.

طَبْعاً، ليس البحث الآن عن أنواع الاعتبارات الْعَقْلِيَّة وأن مدركات العقل الْعَمَلِيّ من أي نوع منها؟

وَأَمَّا الخراساني فمقصوده أن الحسن والقبح كافيان لملاكات الأحكام الشَّرْعِيَّة، وقد يكون تأثير الشَّرْط المتأخر للواجب فِي الملاك من هذا القبيل بحيث يوجب حسن الْفِعْل السابق أو يوجب أَنْ يَكُونَ تعقب الواجب بذاك الشَّرْط حسناً، والحسن لَيْسَ أَمْراً تكوينياً خارجياً لكي يلزم منه تأثير السَّبَب المتأخر فِي المُسَّبَب المتقدم.

إذن، لا يجب أَنْ يَكُونَ ملاك الواجب أَمْراً تكوينياً، بل يمكن أَنْ يَكُونَ الملاك حسناً عَقْلِيّاً، والحسن متوقف عَلَىٰ مثل عنوان تعقب الواجب بأمر متأخر وهو فعلي، وهذا الأمر الاعتباري يمكن أن يوجب أَمْراً اعتبارياً آخر وهو الحسن.

 

دراسة الجواب:

إن هذا الجواب وإن كان صحيحاً ومعقولاً فِي نفسه حيث يمكن أَنْ يَكُونَ الأمر المتأخر أو تعقب الْفِعْل به سَبَباً لاعتبار الحسن لذاك الْفِعْل المتقدم عَقْلاً، ولكن هذا الجواب غير كاف قَطْعاً؛ لأَنَّ لدينا شروطاً متأخرة فِي الواجبات الْعُرْفِيَّة أَيْضاً، أي: فِي الأمور والأغراض التكوينية الْعُرْفِيَّة وله أمثلة كثيرة، كما إذا قال الطبيب: >تناول الدواء وإياك أن تأكل الحامض بعده، أو لا تشرب الماء الكثير بعده<، فمن المقطوع به أن هذا لَيْسَ من باب ملاك الحسن، وَإِنَّمَا هو من باب تأثير الشَّرْط المتأخر فِي فائدة الدواء التكوينية، فكيف يتصور الخراساني هذه الأمور؟

والجواب الأَسَاسِيّ عن الإشكال هو أن فِي هذه الموارد يبقى مفعول الْفِعْل وتأثيره مَوْجُوداً إلى زمان الشَّرْط المتأخر وَالشَّرْط فِي زمان تحققه يكون مُؤَثِّراً فيه بأن يؤدي إلى سلامة الجسم وصحة المزاج. إذن، توجد واسطة بين الْفِعْل الواجب وتحقق الملاك والمصلحة التكوينية، وتلك الواسطة هي الأثر الَّذِي يحصله الْفِعْل الواجب فِي الإنسان مثلاً، أو فِي موضوع آخر ويبقى موجوداً ببقاء موضوعه إلى زمان تَحَقُّق الشَّرْط المتأخر، وذاك الشَّرْط أو الجزء المتأخر له تأثيره فيه وبه يحصل الملاك النهائي والكامل. ففي مثال الاستحاضة لا يكتمل أثر الصوم العارض عَلَىٰ الصائم ولا يَتُِمّ ما لم يَتُِمّ الإتيان بالغسل ليلاً. والواقع أن الإتيان بهذا الغسل سبب لتمامية الصوم وهو شرط مؤثر ومقارن فِي تَحَقُّق الملاك التام. ومتعلق الأمر لا يؤثر دَائِماً فِي الملاك الأقصى والنهائي بشكل مباشر، فعلى سبيل المثال لَيْسَ معنى {الصَّلاَةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} أَنَّ الْمُكَلَّف ما إن يأتي بالصلاة حتَّى ينتهي عن المنكر، بل يمكن أن تُحدث الصلاةُ أثراً عَلَىٰ الْمُكَلَّف لو تَتَحَقَّقَتِ الشروطُ الأخرى أَيْضاً يصل الْمُكَلَّف إلى تلك المرحلة، والملاك الْوَاقِعِيِّ والفعل الواجب بحسب الحقيقة مقتضٍ للمقتضيِّ. إذن، حتَّى لو كانت المصالح والأغراض التكوينية ملاكاتٍ للواجبات الشَّرْعِيَّة يصح الشَّرْط المتأخر فيها، وأساساً لا يواجه الشَّرْط المتأخر عَائِقاً فِي متعلقات الأحكام أَيْضاً لا بلحاظ الاتصاف بالصحة والوجوب ولا بلحاظ التأثير فِي الملاك.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo