< قائمة الدروس

بحث الأصول آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

33/03/14

بسم الله الرحمن الرحیم

{مُقَدَِّمَةُ الْوَاجِبِ\الواجب المشروط\تفاسير الواجب المشروط}

الواجب المشروط والإشكال الثُّبُوتِيّ

تقدم أن الواجب المشروط بلحاظ إمكان وعدم إمكانه يواجه إشكالين أحدهما ثبوتي والآخر إثباتي وقد تحدثنا عن الإشكال الثُّبُوتِيّ فيما مضى وتبين أن معنى الوجوب المشروط في مرحلة الملاك وكذلك في مرحلة الإرادة وكذلك مرحلة الجعل مشروط ومنوط بِالشَّرْطِ، ولا توجد مشكلة في أيّ منها، وقد درسنا مشروطية المجعول الاعتباري في الشَّرْط المتأخر أَيْضاً وتوصّلنا إلى أن المجعول أمر تصوري ولا يتشكل في الخارج أمرٌ تصوري آخر غير نفس الجعل والإنشاء، وأن قياسها بالقضايا الحقيقية (مثل >النار حارة<) قياس مع الفارق؛ لأَنَّ المجعول أمر تصوري يلحظ بالحمل الأولي وهو ما يتحقق بعد تكوّن الشَّرْط، ولكن الْقَضِيَّة الحقيقية التَّصْدِيقِيَّة لا تُوجَد لا فِي الخارج ولا فِي نفس المولى، وَإِنَّمَا هي الجعل نفسه المتحد مع المجعول بالذات. ومن هنا لا حاجة إلى بحث آخر عن إمكان المرحلة الثَّالثة (أي: المجعول الشَّرْعِيّ) لكونه مكرَّراً.

الإشكال الإِثْبَاتِيّ:

الإشكال الآخر هو إشكال إِثْبَاتِيّ وقد تناولته كلمات الشيخ &. ولا شَكّ فِي أن جملة >إِذَا جَاءَ زَيْدٌ فَأَكْرِمْهُ< الشَّرْطِيَّةِ ظاهرة فِي أن المجيء شرط للوجوب، والإشكال الإِثْبَاتِيّ الَّذِي يواجهه هو أن الحكم (وهو الوجوب) مفاد ومدلول لفعل الأمر الواقع فِي طرف الجزاء، وهيئة الأمر من المعاني الحرفية وليست اسميةً، والمعنى الْحَرْفِيّ جُزْئِيّ ونسبي فلا يمكن أن يُقيَّدَ أو يُخصَّص. وقد ذكرت تقريبات ثلاثة لبيان أَنَّ صيغة الأمر (الَّتِي معناها حَرْفِيّ) لَيْسَ قابلاً للتقييد بِالشَّرْطِ؟ وأنه يجب إرجاع الشَّرْط إلى مادة الأمر الَّتِي معناها اسمي (وهو الواجب) فيكون قيداً للواجب وليس شَرْطاً للوجوب.

أَمَّا التقريب الأَوَّل:

أَمَّا التقريب المنسوب إلى الشيخ & فهو أن معنى صيغة الأمر حَرْفِيّ والمعاني الحرفية معانٍ جُزْئِيَّة، والمعنى الْجُزْئِيّ لا يقبل التقييد ولا التخصيص؛ لأَنَّ معنى التقييد هو تضييق نطاق المعنى الجامع والعام وهذا ما يمكن تعقله وتصوره فِي المعنى الاسمي (وهو ما يمكن فيه تصوير معنى جامع وكلّيّ، مثل متعلقات الأوامر)، فيمكن تقييد >الإكرام< مثلاً بالإكرام القليل أو الكثير أو بالمال، بينما لا يمكن تقييد صيغة الأمر الدَّالَّة عَلَىٰ النِّسْبَة الطَّلَبِيَّة الْجُزْئِيَّة؛ لأَنَّ الْجُزْئِيّ لا يقبل التقييد.

الجواب:

ويجاب عن التقريب المذكور بإجابتين يبدو أن كلتيهما صحيحتان:

الإجابة الأولى: هي أَنَّهُ لَيْسَ المقصود من الْجُزْئِيَّةِ فِي المعنى الْحَرْفِيّ الْجُزْئِيَّةُ فِي الصِّدْق كي لا تكون قابلة للتحصيص أو التخصيص، بل المقصود منها الْجُزْئِيَّة بلحاظ الطَّرف، أَيْ: أَن المعنى الْحَرْفِيّ لا ينفك عن طرفيه، فإذا تغير طرفاه تتحول نسبته إلى نسبة أخرى، ولٰكِنَّهُ يصدق عَلَىٰ مصاديق متعددة بالحفاظ عَلَىٰ طرفيها. فإذا كانت قابلية التضييق والتخصيص من هذه الجهة فلا إشكال فيها. فعلى سبيل المثال إن للسير من البصرة مصاديق مختلفة ولكن يمكن الْحَدّ منه وتقييده بلحاظ مصاديقه وذلك بالحفاظ عَلَىٰ طرفيه (وهما السير والبصرة).

وعليه، فلا منافاة بين الْجُزْئِيَّة المقصودة فِي المعاني الحرفية مع إمكان تقييدها من الجهات الأخرى غير طرفيها، وكذلك الأمر فِي المقام، أَيْ: أننا نُقَيِّدُ النِّسْبَة الطَّلَبِيَّةَ بِالشَّرْطِ (مع الحفاظ عَلَىٰ طرفيها) من جهات أخرى ونقول: إن تلك النِّسْبَة إِنَّمَا هي فِي فرض تَحَقُّق الشَّرْط، وبعبارة أخرى: إن الْجُزْئِيَّة فِي المعاني الحرفية إِنَّمَا تعني الاختصاص بطرفيها، فيمكن أن يوجد المعنى الْحَرْفِيّ النسبي منسوباً إلى طرف ثالث هو الشَّرْط فتكون النِّسْبَة قائمة بثلاثة أطراف فِي أول الأمر.

الإجابة الثَّانية: أن باب الشَّرْط باب التعليق ولَيْسَ باب القيد وَالتَّقْيِيد، أي: أننا نريد أن نعلِّق الجزاء (وهو جملة >أكرمه<) عَلَىٰ الشَّرْط (وهو >مجيء زيد<).

وتوضيح ذلك: أَنَّهُ لم يوضح المقصود من هذه الإجابة الثَّانية، ولذلك أشكل البعض عليه بأن التعليق يستلزم التقييد، أي: إذا علّقتم النِّسْبَة الطَّلَبِيَّة عَلَىٰ المجيء، فَسَوْفَ لا تكون هذه النِّسْبَة موجودة فِي فرض >عدم المجيء<، فهذا هو التقييد الَّذِي لا ينسجم مع فرض كون المعنى الْحَرْفِيّ جزئياً إِلاَّ بالرجوع إلى الإجابة الأولى. ولكن روح هذه الإجابة الثَّانية أدق من ذلك؛ فَإِنَّ هذه الإجابة تريد أن تقول تضييق إن التقييد تَصَوُّرِيٌّ فِي عالم المفاهيم، أي: أننا نقيد المفهومَ التَّصَوُّرِيّ المطلقَ ونضيقها ونقول عَلَىٰ سبيل المثال: >إنسان عادل<، فهذا تقييد وتضييق فِي المعنى التَّصَوُّرِيِّ، ولا يمكن أَنْ يكون التضييق فِي الْمَفْهُومِ التَّصَوُّرِيّ الْجُزْئِيّ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ جامعاً ومطلقاً كي يكون قابلاً للتضييق.

وهنا يُدَّعَىٰ أن المعنى الْحَرْفِيّ جُزْئِيّ فلا يمكن تقييده، ولكننا لا نضيق الجزاء تَصَوُّراً فِي باب الجمل الشَّرْطِيَّة وَإِنَّمَا نعلق النِّسْبَة الطَّلَبِيَّة (الَّتِي هي نسبة تَامَّة) عَلَىٰ تَحَقُّق الشَّرْط، وَحَيْثُ أَنَّ النِّسْبَة التعليقية (وَالَّتِي هي مدلول الجملة الشَّرْطِيَّة أو أدوات الشَّرْط) نسبة تَامَّة لا تستدعي تقييد وتضييق طرفيها مَفْهُوماً وتصوراً، كالنسبة التامة الحملية مثل >زيد عادل< حيث يبقى كُلّ من تَصَوُّر الْمَوْضُوع (ومفهومه) والمحمول عَلَىٰ إطلاقه، أي: يبقى مفهوم >عادل< عَلَىٰ إطلاقه، وَإِنَّمَا يصدق ويحمل عَلَىٰ الْمَوْضُوع فحسب، هي نسبة تَامَّة تصادقية، لا تقييدية، أي: لا يتقيد شيء منهما بالآخر، بل يحمل عَلَىٰ الآخر فِي مقام الصِّدْق وهو لا يستلزم تقييداً وتحصيصاً تصورياً لمفهوم الطرفين ولهذا يمكن أَنْ يَكُونَ جزئيين.

والجملة الشَّرْطِيَّة التعليقية كقولنا: >إذا طلعت الشَّمْس فالنهار موجود< نسبة تَامَّة بين نسبتين تامتين هما نسبة جملة الشَّرْط ونسبة جملة الجزاء، فلا يُقَيَّدُ الطرفان ببعضهما مَفْهُوماً وتصوراً، وَإِنَّمَا يصدقان مع بعضهما البعض كصدق المحمول عَلَىٰ الْمَوْضُوع، فلا يلزم من التعليق التقييد التَّصَوُّرِيّ لنسبة الجزاء حتَّى يقال بأن النِّسْبَة معنى جُزْئِيّ وَالْجُزْئِيّ لا يتقيد.

فما أفاده الإِصْفِهَانِيّ من التعليق دون التقييد، إجابة صحيحة. أي: كان الإشكال يسجل علينا لو كنّا كنّا نجعل الشَّرْط مقيِّداً مفهومياً للنسبة الطَّلَبِيَّة، ولكن الشَّرْط فِي الجملة التعليقية الشَّرْطِيَّة لَيْسَ قَيْداً تصورياً للنسبة التامة فِي الجزاء، وَإِنَّمَا هو ظرف صدقها، فالجزاء يصدق فيما إذا كان الشَّرْط صادقاً، وهذا لا يستلزم التقييد التَّصَوُّرِيّ، أي: سَوَاء كان مدلول صيغة الأمر جزئياً أم كان كُلّيّاً يبقى عَلَىٰ معناه ولا يُقيَّد مَفْهُوماً وتصوراً بِالشَّرْطِ، وهذه الإجابة الثَّانية إجابة صحيحة أَيْضاً.

التقريب الثَّانِي:

ما أفاده الميرزا النَّائِينِيّ وذلك من منطلق أن معنى الْجُزْئِيَّة هو النسبية، ومن هنا يقول: لما كان المعنى الْحَرْفِيّ نسبياً وقائماً بالطرفين، فيكون آلِيّاً واندكاكياً ويلحظ مندكاً فِي طرفيه، ولا يمكن لحاظه مستقلاً عن طرفيه، ولتقييد معنى من المعاني علينا أن نلحظ ذاك المعنى مستقلاً حتَّى نستطيع أن نُقَيِّدَهُ بعد ذلك. فيرجع الميرزا الشَّرْطَ إلى مادة الأمر (طَبْعاً إلى المادة المنتسبة إلى معنى الهيئة بما هي منتسبة) حتَّى يصبح الوجوب مَشْرُوطاً أَيْضاً.

وتوضيح ذلك: أَنَّهُ يمكن إيضاح هذا التقريب من خلال أحد البيانين التاليين:

البيان الأَوَّل: وهو ما يفهم من ظاهر عبارته حيث أفاد أن المعاني الحرفية حيث أَنَّهَا اندكاكية فلا يمكن لحاظها اِسْتِقْلاَلاً إلا مندكاً فِي الطرفين.

ويرد عليه أن الاندكاك لا يعني عدم اللِّحَاظِ اِسْتِقْلاَلاً، وَإِنَّمَا يعني أَنَّهُ لا يمكن لحاظه مِنْ دُونِ الطرفين، ولكن مع لحاظ الطرفين يمكن لحاظه اسْتِقْلاَلِيّاً ويمكن إرجاع القيد إلى المعنى الْحَرْفِيّ، ومن هنا حينما يُسأل: >من أين سرتَ؟< يقول: >سرت من البصرة<؛ فَإِنَّ السؤال هنا عن النِّسْبَة الابتدائية نفسها. إذن، يمكن لحاظ المعنى الْحَرْفِيّ لحاظاً اسْتِقْلاَلِيّاً ولكن ضمن طرفيها، وليس المقصود من اللِّحَاظِ الاِسْتِقْلاَلِيّ الاستقلال عن الطرفين.

البيان الثَّانِي: أن المعاني الْحَرْفِيَّة إفرادية ونسبتها تحليلية، لا واقعية، فالذي يقبل التقييد هو ذاك المفهوم الإِفْرَادِيّ الاسمي المحصَّص، وليس المعنى الْحَرْفِيّ والنسبة.

ويرد عليه أن هذا الْكَلاَم إِنَّمَا يصح فِي النسب الناقصة، ولا يَتُِمّ فِي النسب التامة؛ لأَنَّ النِّسْبَة التامة نسبة وتركيب واقعي لا يرجع إلى التحصيص والمفهوم الإِفْرَادِيّ. ومدلول هيئة الأمر نسبة تَامَّة، وجميع النسب التامة (سَوَاء الخبرية منها أم الإنشائية) نسب واقعية وليست تحليلية، والنسبة الواقعيّة تقوم فِي الذِّهْن بين الْمَوْضُوع والمحمول، أو بين الشَّرْط والجزاء، وهي نسب تصادقية لها لحاظها المستقل، أي: لا يتبدل طرفاها إلى المفهوم الإِفْرَادِيّ، كما تَقَدَّمَ شرحه وتفصيل فِي البحث عن النِّسْبَةِ التامة. فهذا التقريب الثَّانِي أَيْضاً غير تَامّ.

التقريب الثَّالِث:

ما ذكره الخراساني صاحب الكفاية حيث أفاد أن شأن جملة الأمر شأن الأمر والإنشاء، والإنشاء هو إيجاد المعنى بِاللَّفْظِ. فيشكل برأيه إمكانية تقييد الإنشاء بِالشَّرْطِ؛ لأَنَّ الإنشاء إيجاد للمعنى، والإيجاد والوجود لاَ بُدَّ وأن يكونا مع بعضهما؛ لأَنَّ الإيجاد عين الوجود والفارق بينهما اعتباري، بينما إنشاء المعنى وإيجاده فِي الجملة الشَّرْطِيَّة (مثل قولنا: >إِنْ جَاءَ زَيْدٌ فَأَكْرِمْهُ<) إيجادي حالي فعلي، ولكن الوجوب المنشأ يتحقق بعد تَحَقُّق الشَّرْط، وهذا من التفكيك بين المنشأ والإنشاء أو الوجود والإيجاد، ومن هنا لا يمكن أَنْ يَكُونَ الشَّرْط رَاجِعاً للإنشاء ومدلول صيغة الأمر.

والجواب عن هذا التقريب واضح؛ لأَنَّهُ لو أريد بالإنشائية إيجاد معنى فِي الخارج فهو غير معقول، ولم يقبل به أحد فِي بحث >حَقِيقَة الإنشاء<، بل هو كالإخبار معنى إخطاري، أو كما تَقَدَّمَ مِنَّا أن الإنشائية تعني إيجاد الحالة الذهنية كالإحساس الذهني بالإرسال فِي الأمر، وهذه الحالة تحصل فوراً، لا بعد تَحَقُّق الشَّرْط، فلا يلزم التفكيك وإن كان المقصود أن الإنشاء أمر اعتباري، فكيف يعقل فِعْلِيَّة الاعتبار مع أن معتَبَرَهُ معلق عَلَىٰ تَحَقُّق الشَّرْط؛ فَإِنَّهُ تفكيك بين الاعتبار والمعتبر وهو كالتفكيك بين الإيجاد والوجود، فهذا جوابه أن المعتبر إِنَّمَا هو الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة التعليقية لا الفعلية، فلا يلزم التفكيك بين الاعتبار والمعتبر، وَأَمَّا الْقَضِيَّة الفعلية بعد تَحَقُّق الشَّرْط فهي انتزاعية وملحوظة بالحمل الأَوَّلِيّ كما تَقَدَّمَ شرحه فِي الواجب المشروط.

وهكذا يتبين عدم تَمَامِيَّة شيء من الأَدِلَّة الَّتِي ذكرت كإشكالات إِثْبَاتِيَّة، وأن شرط الواجب المشروط شرط للوجوب، وليس قَيْداً للواجب، ولا تسجل عليه ملاحظة لا ثُبُوتِيَّة ولا إِثْبَاتِيَّة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo