< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/08

بسم الله الرحمن الرحیم

المسألة 22
* قال الماتن!: يكفي في استمرار القصد بقاء قصد النوع وإن عدل عن الشخص، كما لو قصد السفر إلى مكان مخصوص فعدل عنه إلى آخر يبلغ ما مضى وما بقي إليه مسافة، فإنّه يقصّر حينئذٍ على الأصحّ. كما أنّه يقصّر لو كان من أوّل سفره قاصداً للنوع دون الشخص، فلو قصد أحد المكانين المشتركين في بعض الطريق ولم يعيّن من الأوّل أحدهما، بل أوكل التعيين إلى ما بعد الوصول إلى آخر الحدّ المشترك، كفى في وجوب القصر.[1]
هذه المسألة يجب أن تُطرح بهذا الشكل:
السؤال الأوّل: هل يُشترط لكي يقصّر الإنسان القصد إلى شخص مسافةٍ بعينها أم لا يُشترط ذلك؟
السؤال الثاني: ـ بصرف النظر عمّا لو كان الجواب عن السؤال الأوّل نفياً أو إثباتاً ـ إذا قصد الإنسان مكاناً معيَّناً، أو مسافةً معيّنة، وكان الكلّ حاوياً لقدر المسافة، فإذا عدل عمّا كان قد قصده، فهل يُحتسب له ما مضى، أم لا يُحتسب، أم فيه تفصيل؟
كلّ ما لدينا من أدلّة قد تقدّم. وليس هنا أدلّة جديدة في المقام.
ما لدينا هو روايات المسافة التي قالت: إنّ السفر في بريدين، أو ثمانية فراسخ، أو مسيرة يوم، أو..
فلو كنّا نحن وهذه الروايات، فكلّ سفرٍ صدق على الشخص الخارج إليها أنّه مسافر، فكلّما قطع المسافة، فهو يقصّر. إذاً بحثنا ليس في المسافات، بل المسافة محفوظة في محلّ بحثنا.
ثمّ إنّ دليلاً أو أكثر دلّ على لزوم قصد قطع المسافة، وأنّ قطع المسافة وحده لا يكفي. وهذا الدليل دلّ على أن الإنسان لا بدّ وأن يكون قاصداً للسفر الخاصّ، أي: قاصداً للثمانية فراسخ، امتداداً أو تلفيقاً.
أيضاً إذا كنّا نحن وشرط القصد، فمن الواضح: أنّ شرط القصد ـ ككبرى كلّيّة ـ لا يدلّ على أكثر من لزوم كون السفر سفر قاصد، وأمّا متعلّق القصد، فو مطلق القصد، لا يدلّ على أكثر من كون متعلّقه هو الثمانية فراسخ، وأمّا الأشخاص، فهي لا تغيّر ولا تبدّل حينئذٍ.
نأتي الآن إلى السؤال الأوّل، وهو أنّه هل يلزم قصد مسافةٍ بعينها، أم لا يُشترط ذلك، بل يكفي أن يقصد مسافةً؟
من الواضح بعد سبر الأدلّة أنّه لا يوجد في الأدلّة ما يدلّ على لزوم قصد مسافة شخصيّة (من بداية الأمر؛ إذ الكلام ليس في العدول)، ولا يدلّ شرط القصد على هذا، هو لم يقصد شيئاً وألغاه، بل هو من أوّل الأمر قصد عنواناً كلّيّاً أو انتزاعيّاً قابلاً للانطباق على مسافتين شخصيّتين. فهذا لا شكّ في كونه مشمولاً لأدلّة المسافة، ومشمولاً أيضاً لأدلّة قصد المسافة. وعليه: فإنّ القائل بلزوم قصد مسافة شخصيّة من البداية، لا بدّ وأن يأتي بدليل، ولم نجد دليلاً على ذلك، لا ما استدلّوا به من موثّقة عمّار، ولا غيرها ممّا ذكرناه فيما مضى. بل هذه الأدلّة إنّما ذُكرت في قبال من استرسل، كمن خرج بحثاً عن دابّته. نعم، دلّت على لزوم كونه قاصداً للمسافة منذ البداية. وأمّا القول بلزوم أن يقصد مسافة شخصيّة بعينها، هذا يحتاج إلى دليل.
هذا بالنسبة إلى السؤال الأوّل.
وأمّا بالنسبة إلى السؤال الثاني: في شخصٍ قصد مسافةً بعينها، لكنّه عدل عنها في الأثناء، فهو لم يتردّد، ولم يعدل عن المسافة الكلّيّة، بل عدل عن المسافة الشخصيّة، وهذا له حالات أربع أصليّة، هي:
1) كان قاصداً مسافةً امتداديّة معيّنة، وعدل عنها إلى مسافة امتداديّة أُخرى.
2) كان ناوياً مسافة تلفيقيّة وعدل عنها إلى مسافة تلفيقيّة أُخرى.
3) كان قد نوى مسافة امتداديّة، فعدل عنها إلى تلفيقيّة.
4) كان قد نوى مسافة تلفيقيّة، فعدل عنها إلى امتداديّة.
وإنّما قسّمنا إلى هذه الحالات لكلامٍ يأتي.
فهنا، ما الذي تقتضيه القواعد؟
مقتضى الصناعة أن نسأل: هل يُستفاد من أدلّة القصد لزوم القصد عند إنشاء السفر؟
وقلنا إنّها إنّما تدلّ على لزوم العزم والقصد على مطلق قطع المسافة، لا على شخص المسافة.
فهل يُستفاد من هذه الأدلّة لزوم التقيّد بشخص المسافة التي قصدها فيما لو قصدها أم يكفي أن يكون باقياً على المسافة الكلّيّة؟
مقتضى العمومات أنّ يكفي قطع المسافة الكلّيّة، ومقتضى أدلّة أصل القصد هو كفاية قصد المسافة الكلّيّة. وأمّا قصد مسافة شخصيّة، فليس شرطاً، ولا يضرّ، وإذا كان كذلك، فتكون المسألة لا بشرط من ناحيته. فالقول بالبشرط شيئيّة أو بشرط لائيّة، والعدول عن اللّابشرط، يحتاج إلى دليل خاصّ، وليس موجوداً.
وحينئذٍ: فمن الواضح أنّ هذا الشخص كان قاصداً للمسافة، نعم، هو على مستوى الصغرى، قصد هذه المسافة بعينها، ولكن نقول: قصده لها بعينها لا يقدّم ولا يؤخّر في كون وظيفته هي التقصير؛ إذ ليس في أدلّة القصد ما يدلّ على اشتراط قصد مسافةٍ بعينها بخصوصها، سوى كونها ثمانية فراسخ مع صدق عنوان السفر عليه.
والقول بأنّ ما عدل عنه قد لغى، ويحتاج إلى استئناف مسافة جديدة. هذا بحاجة إلى دليلٍ؛ لأنّ الأدلّة لم تدلّ على أكثر من قطع ثمانية فراسخ بقصد، في مقابل اللّاقصد. وأمّا القصد الخاصّ، فلا دليل عليه.
ولو قيل أيضاً: إنّ هذا بالدقّة الفلسفيّة لديه قصدان.
فنقول: ما دام عرفاً يصدق عليه أنّه لا يزال مسافراً سفراً قصد فيه ثمانية فراسخ وإن بدّل المفردات، فهو مصداق للدليل عرفاً. وأمّا الدقّة الفلسفيّة فلا تقدّم ولا تؤخّر في المقام. بل العبرة بمصداقيّة حالته للأدلّة. وهذا جزماً تصدق عليه الأدلّة؛ فإنّه خرج من بلده ثمانية فراسخ، ولا يزال قاصداً لثمانية فراسخ. وأمّا المقصد الخاصّ فليس دخيلاً في السفر. بل لو لم يكن له مقصد أصلاً، كمن خرج بحثاً عن دابّته، فعرف أنّها ماتت، لكنّه مع ذلك استمرّ على السير حتّى قطع مسافة، فهذا يقصّر أيضاً. وكذا من سافر ناوياً ثمانية فراسخ من دون أن يكون لديه مقصد أصلاً.
وعلى هذا الأساس، يتّضح ـ على مستوى القاعدة ـ حال الصور الأربع التي قسّمنا إليها.
لكن، لو أنّ شخصاً شكّك في هذا، وقال: أنا أستظهر من أدلّة القصد لزوم تحديد مسار محدّد؛ فإنّ صحيحة أبي ولّاد، وبتبعها روايتا إسحاق والمروزيّ المتقدّمتان، تدلّ بوضوح على أنّ من كان مقصده مسافة امتداديّة وعدل إلى التلفيقيّة، فإنّه يبقى على القصر.
فهذه صحيحة أبي ولّاد، وهي:
محمّد بن الحسن، بإسناده عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولّاد، قال: قلْتُ لأبي عبد الله%: إنّي كنت خرجت من الكوفة في سفينةٍ إلى قصر ابن هبيرة، وهو من الكوفة على نحوٍ من عشرين فرسخا في الماء، فسرْتُ يومي ذلك أقصّر الصلاة، ثمّ بدا لي في اللّيل الرجوع إلى الكوفة، فلم أدْرِ أصلّي في رجوعي بتقصير أم بتمام، وكيف كان ينبغي أن أصنع؟ فقال: إن كنْتَ سرْتَ في يومك الذي خرجْتَ فيه بريداً فكان عليك حين رجعْتَ أن تصلّي بالتقصير؛ لأنّك كنت مسافراً إلى أن تصير إلى منزلك، قال: وإن كنتَ لم تسِرْ في يومك الذي خرجت فيه بريداً فإنّ عليك أن تقضي كلّ صلاة صلّيتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام (من قبل أن تؤمّ) من مكانك ذلك؛ لأنّك لم تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير حتى رجعت، فوجب عليك قضاء ما قصّرت، وعليك إذا رجعْتَ أن تُتمّ الصلاة حتى تصير إلى منزلك.
وهي صريحة في أنّ من عدل من مسافة امتداديّة إلى تلفيقيّة فإنّه يبقى على التقصير.
ومن هنا، نُسب إلى الشيخ الطوسيّ ره في نهايته أنّه يقول بالبقاء على القصر في خصوص العدول من الامتداديّة إلى التلفيقيّة، اقتصاراً على مورد النصّ.
وهذا الكلام يصحّ لو لم يكن البقاء على التقصير هو مقتضى القاعدة التي شرحناها؛ إذ معنى كلامه هذا أنّ القاعدة على خلاف ذلك، وأنّ مورد النصّ خروج عن مقتضى القاعدة. ويلزم ليكون ذلك أن يكون هناك دليل على لزوم شخص القصد، والاستمرار على شخص القصد، مع أنّه ليس في الأدلّة ما يدلّ على ذلك، كما عرفت.
لكن لو افترضنا أنّ القاعدة لم تتنقّح لدينا، ولم يكن لنا أن نجزم بشيءٍ على مستوى القاعدة، ودلّ هذا الدليل الخاصّ على البقاء على القصر في خصوص العدول من الامتداديّة إلى التلفيقيّة، فماذا نصنع حينئذٍ؟
يقول السيّد الخوئي ره: من المجزوم به في مثل هذه الحالة أنّه لا ينبغي التقيّد بمورد النصّ؛ وذلك للأولويّة القطعيّة؛ فإنّ الأصل ـ كما دلّت عليه العمومات ـ أنّ المسافة الامتداديّة هي الأصل، فجاءت الرواية لتُلحق الأربعة في الأربعة بالثمانية الامتداديّة، فالحكم في الصور الأُخرى يَثبت بالأولويّة القطعيّة. (هو لم يقسّم إلى الصور الأربع المتقدّمة). فلو كان قاصداً للتلفيقيّة ثمّ عدل منها إلى الامتداديّة، فيَثبت له الحكم بطريقٍ أَوْلى. وإذا كان الذي عدل من امتداديّة إلى تلفيقيّة يقصّر، فالذي عدل من تلفيقيّة إلى تلفيقيّة يقصّر أيضاً. نعم، يقول السيّد الخوئي ره: تبقى لدينا مشكلة في من عدل من امتداديّة إلى امتداديّة، فهنا لا توجد الأولويّة، فيقول حينئذٍ: وهنا يمكن أن نلتزم بأنّه يقصّر؛ لأنّه لا يوجد قائل بالفصل.
لكنّ هذا الكلام الذي أفاده ره كما ترى، فنحن لا ندري من أين أتى ره بهذه الأولويّة القطعيّة؟! فإنّ الموضوع الواقعيّ هو شغل اليوم، وقد حُدّد في المسافات بثمانية ذاهباً أو أربعة ذاهباً وأربعة آيباً، فأين الأولويّة المزعومة؟!
ثمّ لنفترض أنّنا سلّمنا هذه الأولويّة من الامتداديّة إلى التلفيقيّة، ولكن من التلفيقيّة إلى التلفيقيّة كيف نُثبت الأولويّة؟! بل هي مثل العدول من الامتداديّة إلى الامتداديّة، لا توجد فيها أولويّة.
ثمّ إذا عدل من تلفيقيّة إلى امتداديّة، كيف تكون الأولويّة بالتقصير؟! فإنّ ذاك، وهو من عدل من امتداديّة إلى تلفيقيّة، كان هو الأوضح مصداقاً، فإلحاق التلفيقيّ به بحاجةٍ إلى عناية، ألحقته الرواية. بينما من كان قاصداً للتلفيق هو الأضعف مصداقاً، فتجرية حكمه على الأقوى مصداقاً يحتاج إلى دليل.
فهذه الكلمات كلّها لا تناسب الفقه؛ لأنّ القضيّة ليست قضيّة عرفيّة واضحة. وإلّا، فمن الأساس نقول: الموضوع الواقعيّ هو من شغل يومه، سواء ذهب ثمانية فراسخ، أم أربعة في أربعة، والرواية لا خصوصيّة فيها للعدول من امتداد إلى تلفيق، سوى أنّه إشارة إلى الموضوع الواقعيّ، وهو شغل اليوم بالمسافة المحدّدة. هذا الكلام لا بأس به على ضوء الأدلّة. فحينئذٍ: تشمل جميع الصور.
ولو تنزّلنا عن جميع ذلك، وقلنا بمقالة السيّد الخوئي ره، فهو يعترف بأنّ الرواية لا تشمل من عدل من مسافة امتداديّة إلى مسافة امتداديّة أُخرى، لكن لا قائل بالفصل.
لكن نقول: ما معنى: لا قائل بالفصل؟ هل هي دعوى إجماع؟ وأيّ إجماعٍ هذا، وأكثر المتقدّمين، بل وكثير من المتأخّرين، لم يتعرّضوا لهذه المسائل التفريعيّة؟! بل وأيّ إجماعٍ هذا وهو نفسه ره ينقل عن الشيخ الطوسيّ ره الاقتصار على مورد النصّ؟!
كما قد نقل السيّد الحكيم ره في المستمسك عن المقدّس الكاظميّ البغداديّ صاحب عدّة الرجال أنّه يستشكل في أصل القصر في العدول من مسافةٍ إلى مسافة، مطلقاً، حتّى في مورد الرواية. فهذه مسألة اجتهاديّة نشأت بين المتأخّرين، وليست مسألة تعبّديّة أصلاً، فلا قيمة للقول بالفصل أو القول بعدم الفصل، أو عدم القول بالفصل.
ومن هنا، فلو لم تتنقّح لدينا القاعدة العامّة هناك، فنقول: مقتضى مورد هذه الرواية مع عطفه على الأدلّة من أنّ الميزان هو بمن شغل يومه هو إلغاء الخصوصيّة عرفاً، بضميمة تلك الأدلّة. فإذا جزمنا بإلغاء الخصوصيّة، فحينئذٍ: لا قيمة لمورد النصّ. وإن لم نجزم، فلا طريق لنا للتعدّي عن مورد النصّ بقضيّة تعبّديّة، كما هو واضح.
ولعلّ هذا هو الذي جعل الشيخ الطوسيّ ره يذهب إلى ما ذهب إليه.
لكن قد اتّضح من كلامنا السابق، وهو ما وافقْنا عليه جملة من المحقّقين، أنّ مقتضى القواعد هو الاكتفاء بقصد المسافة النوعيّة، وأنّه لا إشكال في العدول من مسافةٍ إلى مسافة في الشخصين ما دام كلّ منهما حاوياً للشرائط العامّة، وأنّه لا ملزم لنا بقصد شخص سفرٍ بعينه.
ومن هنا، جزم معظم المحقّقين والمحشّين على العروة هنا بعدم وجود إشكالٍ أصلاً.
وبهذا يتمّ الكلام في المسألة 22.
***

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo