< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/21

بسم الله الرحمن الرحیم

كان الكلام في أنّ إقامة عشرة أيّام أو تردّد ثلاثين يوماً في أثناء السفر في مكانٍ هل يستوجب أن يصلّي الإنسان تماماً فقط، أم يقطع السفر فيجعله سفرين، ما قبله سفر وما بعده سفر جديد؟
تقدّم أنّ المسألة شبه إجماعيّة، وادّعي الإجماع وعدم وجدان الخلاف، في أنّ إقامة العشرة أيّام تقطع ما قبله عمّا بعده وتحوّل السفر إلى سفرين، وقلنا: إنّ هذا ليس هو السفر العرفيّ؛ إذ السفر العرفيّ لا يفرّق بين تسعة أيّام ونصف وبين عشرة أيّام، كما قال المحقّق النراقيّ ره في المستند، أو لا يفرّق العرف بين سفر عشرة أيّام وبين سفر تسعة وعشرين يوماً، بل يبقى يصلّي قصراً؛ لأنّ المتردّد في مكان لم يقصد الإقامة. والسبب هو أنّ العرف ينظر إلى الظاهرة، فالعبرة إنّما هي بالأدلّة.
وعموم الأدلّة لم تدلّ على أزيد من أنّ من قصد الإقامة في مكانٍ عشرة أيّام أو تردّد في مكانٍ ثلاثين يوماً يصلّي تماماً، ولم تدلّ على أكثر من ذلك، ولم تدلّ على أنّه يصبح بمنزلة المتوطّن. نعم، لو كانت قد دلّت على ذلك لتمسّكنا بعموم المنزلة، وذهبنا إلى ما ذهب إليه المحقّق النائيني والسيّد الحكيم رحمهم الله من أنّ هناك وطناً شرعيّاً تنزيليّاً بهذا المعنى، فيكون السفر شرعاً قد انتهى، ويكون هناك اصطلاح شرعيّ للسفر.
ولا ينبغي أن يُتوهّم أنّ هناك ملازمة بين أن يصلّي الإنسان تماماً وبين أن يصبح سفره سفرين؛ فإنّ التعبّد بالتمام يخضع لقانونه.
من هنا، صار المحقّقون بصدد البحث في الأدلّة عن دليلٍ يُثبت ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ والسيّد الحكيم رحمهم الله ويتناسب مع ما هو المدّعى للمشهور، من أنّ المسافة بعد العشرة أيّام لا تُضمّ إلى المسافة قبلها، وهذا هو المعنى الكامل لقاطعيّة السفر؛ لأنّ القاطعيّة قد تُطلق ويُراد منها القاطعيّة بلحاظ حكم ثنايا العشرة أيّام فقط، وقد تُطلق ويُراد منها القاطعيّة التامّة للسفر، بحيث لا يُلحظ مسافة ما قبل الإقامة، ويصبح ما بعدها مسافة مستقلّة جديدة.
والعمدة فيما عُثر عليه في هذا المجال هو الرواية 3 من الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، وهي صحيحة زرارة:
وبإسناده [الشيخ الطوسيّ ره في التهذيب] عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر ع قال: من قدِم قبل التروية بعشرة أيّام وجب عليه إتمام الصلاة، وهو بمنزلة أهل مكّة. فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير، فإذا زار البيت أتمّ الصلاة، وعليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى منى حتّى ينفر.[1]
سند الشيخ ره إلى حمّاد صحيح، والثلاثة من أعاظم أجلّاء الطائفة.
محلّ الاستشهاد بالرواية للوطن الشرعيّ بهذا المعنى إلى حدّ قوله: وجب عليه التقصير، هو قوله ع: وهو بمنزلة أهل بمكّة؛ فإنّه يدلّ على أنّه يصلّي تماماً كأهل مكّة، وأنّ حكمه حكم أهل مكّة في بقيّة الأحكام. فإذا تمسّكنا بعموم المنزلة سوف يصبح هذا الإنسان كأهل مكّة فيما لو أنشأوا سفراً في أنّهم يبدأون بحساب المسافة من حين خروجهم من مكّة، وهذا يلازم انقطاع المسير الذي ساره قبل عشرة أيّام إلى أن وصل إلى مكّة، أي: انقطاع ما قبل عمّا بعد، وهو يُنتج بالملازمة العرفيّة وطناً شرعيّاً بهذا المعنى للمقيم عشرة أيّام.
لكنّ هذا ليس ظاهراً من الكلام ـ إلى هنا ـ؛ ذلك أنّ قوله ع تفريعاً على هذا الكلام: فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير. نحن نقول: هذا الذي خرج إلى منى إنّما يخرج إليها؛ لأنّ التروية كانت تحصل بمنى في طريق الصعود إلى عرفات، فهو يصعد إلى أن يقيم في عرفات ليلاً، ففي ليلتي التاسع والعاشر لن يرجع إلى مكّة. نعم، في يوم العاشر قد يرجع إلى مكّة؛ فإنّ الناس ـ خصوصاً في تلك الأزمنة ـ منقسمون، فمنهم من ينزل يوم النحر إلى مكّة، ومنهم من يبقى إلى ما بعد المبيت في ليالي التشريق. فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير؛ لأنّه أنشأ سفراً (بين مكّة ومنى مسافة تلفيقيّة).
فهذا ظاهر في أنّه بمنزلة أهل مكّة في الصلاة تماماً؛ لأنّه قابل بين تمامه بمنزلة أهل مكّة وبين تقصيره إذا خرج كما يخرج أهل مكّة منها. لكن لا توجد إشارة هنا إلى أنّ التقصير سببه هنا ضمّ المسافات التي كان قد مشاها قبل دخوله إلى مكّة، قبل عشرة أيّام، إلى ما بعدها، أو لا؛ ذلك أنّ ما بعد مكّة وحده يصلح لأن يكون مسافة تلفيقيّة. اللّهمّ إلّا على مبنى من يقول بلزوم الرجوع ليومه أو ليومه وليلته، فهذا يقصّر حينئذٍ لأنّه يُضمّ ما قبل مكّة إلى ما بعدها. لكنّ هذا المبنى فاسد كاسد عند جملة المحقّقين ومشهورهم.
وعليه: فإنّ عموم المنزلة غير ظاهر من العبارة، بل هو بمنزلتهم في الصلاة والصوم.
ثمّ لو تنزّلنا، فنقول: هو بمنزلتهم عموماً؛ إذ كما يُحتمل أن يكون هذا الحكم حكماً عامّاً، لكلّ من أقام في مكانٍ عشرة أيّام، فيمكن أن يكون حكماً خاصّاً بمكّة؛ إذ لمكّة كثير من الأحكام الخاصّة، ومنها: التخيير بين القصر والتمام. فلأجل كونها فيها أوّل بيت وُضع للناس، أو لكونها مهوى أفئدة المؤمنين، وهكذا.. فيُحتمل أن تكون فيها خصوصيّة، وأنّ كلّ من أقام فيها عشرة أيّام صارت وطناً له تعبّداً وشرعاً.
ثمّ لو نظرنا إلى التتمّة الموجودة في الرواية، وهي قوله ع: فإذا زار البيت أتمّ الصلاة. وهو إنّما يزور البيت بعد إتمام وقوفه بعرفات ومزدلفة، إمّا يوم النحر، وإمّا بعد مبيت اللّيلتين أو اللّيالي الثلاث، فالمجموع لا يكون عشرة أيّام.
ثمّ إنّ الحديث هو عمّن بات بمنزلة أهل مكّة، لا عن أهل مكّة؛ إذ لا معنى لهذه العبارة بالنسبة إلى أهل مكّة؛ فإنّ مكّة وطنهم، فهم يتمّون وإن لم يزوروا البيت.
وحمل زيارة البيت على إقامة عشرة أيّام خلاف الظاهر؛ فإنّ الناس لا تقيم بمكّة عشرة أيّام عادةً بعد أن تنهي حجّها، لكنّ احتمال أن تأتي إلى مكّة قبل أيّام الحجّ وتقيم فيها عشرة أيّام قبل يوم التروية، هذا احتمال قائم، وخصوصاً في تلك الأزمنة، وخصوصاً أنّ الناس كانت تأتي بتجاراتها وأعمالها معها إلى مكّة. لكنّها لا تبقى عشرة أيّام عادةً بعد الحجّ في مكّة. مضافاً إلى أنّه ليس مفترضاً في الرواية. وقد قالت الرواية: فإذا زار البيت أتمّ الصلاة، وهذا فُرّع على: وهو بمنزلة أهل مكّة. ثمّ قالت الرواية: وعليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى منى حتّى ينفر.
فالرواية افترضت أنّه رجع إلى البيت يوم العاشر ـ مثلاً ـ، بعد أن ضحّى، رجع إلى البيت لكي يُكمل أعماله قبل إتمام المبيت، فهذا لا يريد الصعود إلى عرفة، وإنّما يريد أن يعود إلى منى ويرجع، فهذا ليس ناوياً عشرة أيّام في مكّة عادةً، في المرّة الثانية، بعد سفره الذي قصّر فيه إلى عرفات. ومع ذلك، قالت الرواية: فإذا زار البيت أتمّ الصلاة.
فهذه العبارة الأخيرة يُستفاد منها مع ما بعدها أنّه بحكم المتوطّن؛ لأنّه حتّى قانون الإقامة ينقطع؛ إذ هذا الذي يخرج إلى منى يبيت فيها. ومع ذلك يقول له: أتمّ في مكّة، مع أنّه لم ينوِ إقامة عشرة أيّام، وأتمّ في منى؛ لأنّه لا يوجد بين منى ومكّة سفر. فإقامة العشرة الأُولى انقطعت بصعوده إلى عرفات، والعشرة الجديدة ليست موجودة، فهذه العبارة الأخيرة لا تفسير لها بحسب ظاهر الرواية إلّا عموم المنزلة. فهذا الذي نفيناه في الجملة الأُولى نحن مضطرّون لتأكيده في الجملتين الثانية والثالثة. فكأنّه بات من أهل مكّة؛ لأنّه أقام بمكّة عشرة أيّام قبل الحجّ، فيبقى مفعول هذه العشرة حتّى لو سافر من جديد وعاد ولم ينوِ إقامة جديدة.
فيُقال حينئذٍ: إنّ عموم المنزلة ثابت بلحاظ الجملتين الثانية والثالثة. وإذا كان الأمر كذلك، فلا شكّ في أنّ هذا الإنسان الذي يقيم عشرة أيّام في مكانٍ يصبح من أهله. وهذا معنى قطع الإقامة للسفر على أساس أنّه وطن تعبّديّ شرعيّ. فليس حكم السفر هو الذي انقطع فحسب، بل موضوعه انقطع أيضاً، حيث نُزّلت الإقامة منزلة الوطن.
وهذا الكلام هو ما يصلح دليلاً لكلٍّ من المحقّق النائينيّ والسيّد الحكيم رحمهم الله في دعواهما ثبوت وطن شرعيّ بهذا المعنى.
لكنّ الكلام كما ترى.
إذ أوّلاً: احتمال الخصوصيّة لمكّة موجود، كما تقدّم. وكونها موطن الإسلام الأوّل، فكلّ مسلمٍ يدخلها فهو يدخل وطنه، بل قد يقول قائل: لا يحتاج حتّى إلى إقامة عشرة أيّام فيها! وقد يتمسّك بعضهم بالإطلاق بدعوى: أنّ كلّ إنسان أقام عشرة أيّام في مكّة فهو كلّما جاء إلى مكّة إلى أبد الآبدين يُتمّ، تعيّناً، لا تخييراً.
ومع وجود احتمال الخصوصيّة، فالتعدّي عن مورد الرواية، وهو مكّة، إلى بقيّة البقاع وكلّ مكانٍ أقمنا فيه عشرة أيّام، لا دليل عليه.
وثانياً: ما يعزّز هذا المعنى بشكلٍ واضح، ولم نرَ من تعرّض له، هي الجملة الأخيرة، وهي قوله: فإذا زار البيت أتمّ الصلاة، فهذا الإنسان إذا قلنا إنّ إقامة العشرة أيّام صيّرته من أهل المكان، وتُلغى خصوصيّة مكّة، فنسأل: فهل يمكن الالتزام بإلغاء الخصوصيّة في الذيل أيضاً، وأنّه إذا أقام في المكان عشرة أيّام ثمّ أنشأ سفر مسافة تلفيقيّة، وعاد إلى هذا المكان، من دون أن ينوي فيه الإقامة عشرةً، فهل يصلّي فيه تماماً؟! لا أحد يلتزم بذلك ولا يفتي به أحد، والإجماع منعقد على خلافه.
ومن هنا، فهذه الرواية ـ بحسب ظاهرها ـ ناظرة إلى أحكام خاصّة بمكّة المكرّمة. فإمّا أن نفتي بها على ظاهرها في مكّة أو لا. فإن أفتينا بها، فهي من أحكام مكّة الخاصّة. وإن لم نفتي بها ـ والظاهر أنّهم لا يفتون بها ـ فلا بدّ من ردّ علم الرواية إلى أهلها.
السيّد الخوئي ره يزعم هنا أنّ هذا المورد من موارد الدليل الخامس عنده ـ بحسب تعبيره ـ، وهو أنّ الأمور عامّة البلوى لو كانت لذاعت وشاعت واتّضحت، فعدم وضوحها يكشف عن عدم وجودها. وهذا الحكم الخاصّ من أحكام مكّة، مع اعتناء المسلمين جميعاً بالأحكام الخاصّة بمكّة، لم نرَ من ذكره بخصوصه، وفي تلك الأزمنة، الناس تعمّ بلواها بالبقاء عشرة أيّام قبل الحجّ في مكّة، ما بين عمرة التمتّع وحجّ التمتّع، ولو كان هذا الحكم موجوداً بحيث إنّه بعد أن سافر إلى عرفات ورجع يُتمّ لذاع وشاع وكان من المتسالم عليه في الفقه، وذُكر في مختصّات مكّة؛ إذ لا وجود له جزماً في غير مكّة المكرّمة، فكان لا بدّ من التنبيه عليه وذكره والتعرّض له، مع أنّ الفتاوى مطبقة على الخلاف. ولم نرَ من خصّ مكّة بهذا الحكم بالخصوص. فحتّى في مكّة نحن لا نعمل بهذه الرواية، فلا بدّ من ردّ علْمها إلى أهلها.
وإنّما لجأ السيّد الخوئي ره إلى ذلك لأنّ الإعراض عنده غير موهن.
وأمّا لو بنينا على موهنيّة الإعراض عن الدلالة، كما هو الصحيح، والمتقدّمون أعرضوا عن الفتوى بهذه الرواية، رغم صحّتها ووضوحها، وهو إعراض واضح عن العمل بالرواية بلحاظ شقّها الثاني، ومعه: فلا يثبت عموم المنزلة بلحاظ شقّها الأوّل. إذاً فلا تصلح هذه الرواية بوجهٍ لإثبات شيء اسمه الوطن الشرعيّ.
وقد يُستدلّ في هذا المجال بروايةٍ ثانية، وهي الرواية 6 الباب 6:
وبإسناده [الشيخ الطوسيّ ره] عن صفوان، عن إسحاق بن عمّار، قال: سألْتُ أبا الحسن ع [الإمام الكاظم ع] عن أهل مكّة إذا زاروا، عليهم إتمام الصلاة؟ قال: نعم، والمقيم بمكّة إلى شهرٍ بمنزلتهم.[2]
أهل مكّة إذا زاروا البيت الحرام فعليهم إتمام الصلاة. وجعل المقيم بمكّة إلى شهرٍ بمنزلتهم. فيُتمسّك بعموم المنزلة. والعبارة مطلقة، أي: الذي يقيم مع قصد أو من دون قصد، لكنّ الذي يقيم بقصد أخرجته روايات العشرة أيّام، ولا توجد مسافة بين أهل مكّة وبين البيت الحرام، بل هو في وسط مكّة.
وقد عرفت الحال في ذلك. وخلاف ظاهر الرواية أن تُحمل على عموم المنزلة، بل هو بمنزلتهم في أنّه يتمّ الصلاة مثلهم إذا زار البيت، فهو لا يصلّي قصراً، ولا يكون مخيّراً بين القصر والتمام، بل عليه التمام تعيّناً؛ لأنّه أقام بمكّة شهراً، والرواية لم تقيّد بكونه متردّداً في الإقامة شهراً، فهي أعمّ من المتردّد. لكن هو بمنزلتهم فقط في إقامة الصلاة.
وبعد ذلك، فلا نمتلك دليلاً لإثبات الوطن الشرعيّ بهذا المعنى.
وقد رأينا السيّد الحكيم ره يحاول الاستدلال برواية، وهي الرواية 1 من الباب 15، وهي:
محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن العمركيّ، عن عليّ بن جعفر، عن أبي الحسن ع، قال: سألته عن الرجل يدركه شهر رمضان في السفر فيقيم الأيّام في المكان، عليه صوم؟ قال: لا، حتّى يُجمع على مقام عشرة أيّام، وإذا أجمع على مقام عشرة أيّام صام وأتمّ الصلاة. قال: وسألْته عن الرجل يكون عليه أيّام من شهر رمضان وهو مسافر، يقضي إذا أقام في المكان؟ قال: لا، حتّى يجمع على مقام عشرة أيّام.[3]
العمركيّ بن عليّ البوفكيّ، ثقة إماميّ بلا شكّ.
يُجمع على مقام عشرة أيّام، أي: يعزم على إقامة العشرة.
فيُقال: الرواية دلّت على أنّ المسألة ليس مسألة صلاة فحسب، وما لو عليه صوم فعليّ، بل هذا صار له حكم المتوطّن، ويقضي حتّى الصيام الفائت عليه.
ولكن هو كما ترى، فإنّما يُستفاد منها أنّ حكم هذه العشرة هو حكم الوطن، أمّا أنّها موضوعاً نُزّلت منزلة الوطن، بحيث يلغو السفر السابق ويبدأ سفر جديد من حين خروجه من بعد الإقامة عشرة أيّام، فلا تعرّض في هذه الرواية له.
من هنا، لا نجد روايةً لتخريج هذه الفتوى المشهورة أو المدّعى عليها الإجماع.
السيّد الخوئي ره تمسّك هنا بالقاعدة التي نقّحها، والتي تقدّم الكلام فيها، وهي أنّ كلّ من وظيفته التمام فهو لا يقصّر حتّى يُنشئ سفراً كاملاً، بريدين أو بريداً في بريد. ففي المقام، هذا الذي أقام عشرة أيّام في مكان، عندما يخرج من ذلك المكان، يحتاج إلى أن تنطبق عليه روايات المسافة، فهذه القاعدة يمكن أن تكون تخريجاً لهذه الفتوى.
لكن قد تقدّم مناقشة هذا المبنى، وأنّه لا يوجد دليل على هذه القاعدة بحيث يقطع السفر حكماً وموضوعاً.
وعليه: فما دامت لا تتمّ هذه القاعدة أيضاً، فلا يوجد لدينا تخريج صناعيّ لهذه الفتوى المتسالم عليها بين المحقّقين.
لا يبقى في المقام إلّا أنّ الإقامة عشرة أيّام في أثناء الأسفار كانت أمراً شائعاً في تلك الأزمنة، وهي كانت محلّ ابتلاء الناس بشكلٍ شائع آنذاك، حيث إنّ وعثاء السفر كانت تقتضي أن يقيم أيّاماً في الأمكنة المختلفة، مضافاً إلى مخاطر الطرق، والحرّ والقرّ، وما إلى ذلك، فهذه المسألة من المسائل الشائعة والذائعة جدّاً والتي كانت محلّ ابتلاء الناس عموماً. فلا يخلو حكم من أقام عشرة أيّام في مكانٍ بعدها من أن يُضمّ ما قبلها إلى ما بعدها، أو لا يُضمّ، فيُعدّ ما بعدها سفراً مستقلّاً.
فأيّ واحدٍ من هذين الرأيين كان هو المذهب الفقهيّ الصحيح، فلا بدّ وأن يكون شائعاً ذائعاً؛ لأنّه من الطبيعيّ أن يكثر الحديث والسؤال عنه إذا استدعى الأمر. ونحن عندما نراجع الروايات فلا نجد فيها ملازمة واضحة، وعندما نراجع فهم الفقهاء، حتّى في العصر الأوّل، في عصر الغيبة الصغرى، فلا نجد أحداً أفتى بغير متضمَّن الوطن الشرعيّ هنا، وأنّ ما بعد الإقامة لا يُحتسب ويُضمّ إليه ما قبلها. عموم البلوى، مع التسالم على هذه الفتوى لا ينبغي أن يُبقي لدينا أيّ شكّ في أنّ الإقامة عشرة أيّام أو ثلاثين يوماً متردّداً قاطعة للسفر السابق بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، فيصبح السفر الجديد هو السفر.
وعليه: نخرّج هذه الفتوى. وهذا الوجه هو ما نطمئنّ له.
***

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo