< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/06/02

بسم الله الرحمن الرحیم

الشرط الثالث من شرائط التقصير في الصلاة:
* قال الماتن!: الشرط الثالث: استمرار قصد المسافة. فلو عدل عنه قبل بلوغ الأربعة، أو تردّد، أتمّ. وكذا إذا كان بعد بلوغ الأربعة، لكن كان عازماً على عدم العود، أو كان متردّداً في أصل العود وعدمه، أو كان عازماً على العود لكن بعد نيّة الإقامة هناك عشرة أيّام. وأمّا إذا كان عازماً على العود من غير نيّة الإقامة عشرة أيّام، فيبقى على القصر. وإن لم يرجع ليومه. بل وإن بقي متردّداً إلى ثلاثين يوماً. نعم، بعد الثلاثين متردّداً يُتمّ.[1]
قوله: كان عازماً على عدم العود، أي: مسافته امتداديّة. وهذا واضح.
قوله: أو كان متردّداً في أصل العود وعدمه. وهذا أيضاً واضح؛ لأنّ أدلّة المسافة التلفيقيّة هي للعازم على العود، فالمسافة العامّة التي اقتُطعت منها المسافة التلفيقيّة هي ثمانية فراسخ، واقتُطع خصوص العازم على العود. فيبقى العازم على عدم العود والمتردّد في أنّه يعود أو لا يعود.
قوله: أو كان عازماً على العود لكن بعد نيّة الإقامة هناك عشرة أيّام، هذا أيضاً واضح؛ لأنّ المسافة التلفيقيّة لا تجري ـ على الأقوال المختلفة ـ فيمن نوى الإقامة عشرة أيّام بعد العشرة فراسخ.
قوله: وأمّا إذا كان عازماً على العود من غير نيّة الإقامة عشرة أيّام، فيبقى على القصر. وهذا أيضاً واضح؛ لأنّ هذا قطع أربعة ذهاباً، وسيقطع أربعة إياباً، فهذه تكون مسافة تلفيقيّة. بل على رأي الماتن ره، حتّى لو لم يكن قد بلغ الأربعة، وكان عازماً على العود من طريق متمّم للثمانية؛ إذ هو) اكتفى بمطلق التلفيق فيما تقدّم.
قوله: وإن لم يرجع ليومه. وهذا صحيح؛ لأنّنا قلنا إنّ المسافة التلفيقيّة لا تختصّ بمن يرجع ليومه أو ليومه وليلته، بل ما دام السفر واحداً ولم يُقطع بقاطع فالمسافة التلفيقيّة تجري.
قوله: بل وإن بقي متردّداً إلى ثلاثين يوماً... فحتّى العشرة أيّام ليست ميزاناً، نيّة إقامة العشرة هي التي تقطع، وأمّا لو بقي متردّداً في العود إلى ثلاثين يوماً، فبعد الثلاثين يُتمّ؛ إذ الثلاثين متردّداً هي قاطع من قواطع السفر، فهذا إنسان انقطع سفره، ولم تتمّ مسافته.
فهذه كلّه مرتبطة بأحكامٍ أُخرى، بعضها تقدّم، وبعضها سيأتي.
فالعبرة بأن نبحث عمّا يرتبط بمحلّ بحثنا، وهو أصل وجود شرط في التقصير بعنوان: استمرار قصد المسافة.
وقد تقدّم أنّ قصد قطع المسافة شرط، وأمّا الاسترسال بقطعها دون قصد فلا يكفي.
وأمّا استمرار القصد، فيعني: أنّ إنساناً خرج من بلده قاصداً السفر الشرعيّ، الامتداديّ أو التلفيقيّ، وبعد أن خرج عن حدّ الترخّص، ولنفترض أنّه قطع فرسخين أو ثلاثة، نوى العود إلى وطنه، ولم يستمرّ على قصده. فهذا الإنسان بمجرّد أن بلغ حدّ الترخّص صار مخاطَباً بوظائف المسافر. فإذا نوى العود، فهو قد نوى قطع السفر، وكذا إذا تردّد في العود، كما لو بقي في مكانه منتظراً مجيء رفيقه.
فهنا ـ نظريّاً ـ يمكن أن لا يكون استمرار القصد شرطاً؛ فإنّه بحسب الفرض تلبّس بالسفر، وبقصد قطع المسافة، وصلّى قصراً (وإن كانت صلاته أو عدم صلاته قصراً لا تؤثّر هنا شيئاً)، ولا يزال مسافراً، فيبقى على سفره، ونستصحب بقاء وظيفته إلى أن يرجع إلى بلده. فلا يكون استمرار القصد على هذا التقدير شرطاً.
ويمكن أن يكون استمرار القصد شرطاً، بأن يكون وظيفته عندما بلغ حدّ الترخّص وظيفة المسافر الشرعيّ مشروطاً بنحو الشرط المتأخّر بأن يبقى على قصده، فبمجرّد أن اختلّ قصده بقصد العدم، أو بالتردّد في البقاء على القصد، فحينئذٍ: ينكشف أنّ الشرط الثاني، وهو استمرار القصد، بعد القصد والشروع في المسافة، غير متحقّق، فينكشف أنّ سفره لم يكن سفراً شرعيّاً من البداية، باعتبار أنّ شرطه المتأخّر لم يتحقّق، فيعيد، ما لم يوجد دليل خاصّ على الإجزاء.
فعلى المستوى النظريّ، لا يوجد ما يُلزمنا بهذا أو بذاك، بل كلاهما ممكن. فطبيعة السفر والتقصير في السفر تجتمع مع القول بأنّ استمرار القصد شرط، ومع القول بأنّه لم تَثبت شرطيّته أصلاً.
من هنا، فلا بدّ من التماس الدليل على هذا الأمر. وعلى هذا الأساس، وقع البحث بين المحقّقين منذ القِدَم في إثبات هذا الشرط، وإن خلت كثير من كلماتهم، خصوصاً متقدّمي المتقدّمين منهم، من التعرّض له، واكتفوا بشرط القصد. فوجدنا جملة من المحقّقين يدّعون الإجماع في المقام ويمضون ولا يستدلّون عليه بروايات. وبعضهم يدّعي الإجماع ويؤيّده ببعض الروايات. وبعضهم يُنكر كون الإجماع تعبّديّاً لوجود روايات يُستدلّ بها واستُدِلّ بها فعلاً، ويستدلّ بالأدلّة الاجتهاديّة.
ومن الواضح: أنّه في هذا الأمر لا يوجد إجماع تعبّديّ. ومن أدلّتنا على أنّه يوجد إجماع تعبّديّ (ولم أرَ من نبّه على هذه النكتة): اختلاف الفقهاء في أنّ من صلّى قصراً ثمّ عدل عن نيّته بعد ذلك، فهل يُعيد أم لا يُعيد؟ فالمشهور ذهبوا إلى العمل بما تضمّنته صحيحة زرارة (لا يعيد)، وفي المقابل، ذهب جماعة إلى العمل بما تضمّنته صحيحة أبي ولّاد من أنّه يعيد ما صلّاه قصراً في الوقت، بل وبعضهم قال بأنّه يُعيد حتّى في خارج الوقت، وإن كان هناك رواية خاصّة دلّت على الإجزاء في خارج الوقت.
أقول: نفس اختلافهم في أنّه يعيد أم لا يعيد، يعني أنّه لا يوجد إجماع تعبّديّ على الاستمرار، بل لا يوجد إجماع أصلاً، فضلاً عن أن يكون تعبّديّاً. فدعوى الإجماع في كلام صاحب الحدائق ره أو غيره، أو نفي الخلاف عن ذلك، أو ما إلى ذلك، ممّا لا ينبغي في تقديرنا، وإن جرى كثير من المحقّقين على قبول هذه الدعوى؛ فإنّ الاختلاف ممّا لا مساغ لإنكاره في المقام.
ثمّ لو تنزّلنا وقلنا بأنّه لم يَثبت لدينا الاختلاف، فمن أين لنا أن نُثبت أنّ هذا الإجماع تعبّديّ؟ فإنّ النصّين الصحيحين اختلفا في بيان الوظيفة، فأين الإجماع؟! ثمّ إنّ كثيراً من المتقدّمين لم يتعرّضوا لهذه الفروع التفصيليّة، ولم يتعرّضوا أساساً لشرطيّة استمرار القصد، فكيف لنا أن نُثبت أو ننقّح إجماعاً تعبّديّاً؟!
فالعمدة إذاً هو البحث عن الدليل الاجتهاديّ في المقام، عامّاً أو خاصّاً.
وقد تعرّض المحقّقون لكلا الصنفين من الأدلّة. فقد استدلّ الشيخ الأنصاريّ ره في كتاب الصلاة، وتبعه بعض المحقّقين، ومنهم السيّد الخوئي ره، على الاستدلال في المقام بنفس عمومات المسافة، ببيان: أنّ روايات المسافة دلّت على أنّ التقصير يكون في ثمانية فراسخ، أو أربعة في أربعة، أو بريد في بريد، ودلّت الأدلّة على أنّه إذا بلغ حدّ الترخّص بدأ بوظيفة المسافرين، وهي التقصير، ودلّ الدليل على لزوم قصد قطع المسافة. فمقتضى هذه الأدلّة العامّة هو أن يكون قطع المسافة مع قصد قطعها هو الذي تدور عليه رحى التقصير.
بناءاً على هذا، فمن بلغ ثلاثة فراسخ، تلبّس بقصد قطع الثمانية في البداية، ولذلك قصّر عند بلوغه حدّ الترخّص، لكنّه عندما بلغ الثلاثة توقّف عن إكمال المسير، فقصد الرجوع، أو تردّد في إكمال المسير، ففي هذا الآن هل هو قاصد لقطع المسافة؟ إذا كان جازماً بالعود، فلا. وإذا كان متردّداً، فقد يقطعها وقد لا يقطعها، فهو بالفعل ليس قاصداً قطع المسافة. فهو أرجع ـ بالدقّة ـ شرط استمرار القصد إلى اختلال شرط القصد. ووافقه على ذلك السيّد الخوئي ره.
أقول: والتحقيق أنّه بالتحليل: فقطع المسافة لا يتحقّق إلّا بعد إتمامها. وقصد قطعها يتحقّق بمجرّد قصد قطع المسافة. وممّا لا شكّ فيه أنّ قصد قطع المسافة لوحده ليس هو الميزان، بل مقروناً بالشروع في السير، فإذا تحقّق قصد قطع المسافة وشرع في قطعها يُقال له: إنّه أنشأ سفراً. فإذا وصل إلى حدّ الترخّص تصبح وظيفته بالفعل هي التقصير. هذا هو المقدار الذي دلّت عليه هذه الأدلّة.
وحينئذٍ: فهناك شيء إضافيّ، وهو دعوى: أنّ دليل قصد قطع المسافة يدلّ على لزوم التلبّس به حدوثاً والاستمرار عليه بقاءاً. وإذا رجعنا إلى دليل قصد قطع المسافة، فهو إمّا الإجماع، وإمّا الروايات الخاصّة التي استدلّوا بها، والتي كان أكثرها لا يخلو من مشكلة على مستوى الاستدلال، كما تقدّم.
ومن هنا، ناقش المحقّق الأصفهانيّ ره (والعجيب أنّ السيّد الخوئي ره لم يتعرّض لمناقشة كلام أستاذه المحقّق الأصفهانيّ) في رسالته في صلاة المسافر، في ذلك، بما يعود إلى ما ذكرناه، وهو أنّ هناك خلطاً في هذا الكلام بين قصد قطع المسافة، وبين الاستمرار على قصد قطعها، وكلامنا فعلاً في الثاني، والأدلّة المذكورة تُثبت الأوّل، لا الثاني.
فحينئذٍ: نحتاج إلى دليلٍ يدلّ على لزوم الاستمرار في القصد، وهذه القاعدة العامّة المستفادة من العمومات المذكورة لا يمكنها أن تُثبت لزوم استمرار القصر لبقاء الوظيفة في زمن التردّد في القصد أو العزم على العود. (الأصل العمليّ هنا لا يجري؛ لأنّه استصحاب كلّيّ من القسم الثالث؛ لأنّه في العرف المسافر الباني على السفر، غير المسافر الذي صار مسافراً وبنى على قطع سفره، فهذا تعدٍّ من موضوعٍ إلى موضوع آخر، فله وظيفة جديدة مغايرة).
ومن هنا، فهذه القاعدة العامّة لا تنتهي إلى محصّل، والدليل مصادرة وهو عين الدعوى في الحقيقة.
فالحقّ مع المحقّق الأصفهانيّ ره، وإن كنّا قد بيّنّاه ببيانٍ آخر يكاد يكون مغايراً لما أفاده).
فتحصّل: أنّه لا بدّ إذاً من التماس دليل خاصّ إن كان. وأنّ الدليل العامّ لا يفيد.
ومن هنا، صار المحقّقون بصدد الاستدلال بأدلّة خاصّة في المقام.
والأدلّة الخاصّة المدّعاة هنا هي عدّة روايات.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo