< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/11/19

بسم الله الرحمن الرحیم

وصل الكلام إلى إثبات صغرى ظهور الدليل الشرعيّ.
وقد قسّمنا البحث فيه إلى محطّات، تقدّم الكلام في أربع محطّاتٍ منها:
1) في ظهور المشتقّ.
2) في ظهور الأمر.
3) في ظهور النهي.
4) في الدلالة المفهوميّة.
ووصل الكلام إلى المحطّة الخامسة، وهي مباحث العامّ والخاصّ.
ونجري في هذه الأبحاث على الفصل بين المطالب اللّفظيّة والمطالب العقليّة. أو المطالب التي أُلصقت بهذه المباحث والأنسب أن يكون البحث عنها في مباحث أُخرى.
في بحث العامّ والخاصّ، الذي فَصَله الأصوليّون عن مبحث الإطلاق والتقييد لمائزٍ وغرضٍ موضوعيّين ستأتي الإشارة إليهما، مع اشتراكهما في المعنى اللّغويّ، الذي هو السريان والشمول والاستيعاب، لا بدّ أن نسجّل قبل الدخول في البحث ملاحظتين:
أ. أنّه جرت عادة الأصوليّين من متأخّري المتأخّرين، من زمن الكفاية بل وربما قبلها، على زجّ مباحث استصحاب العدم الأصليّ في مباحث العامّ والخاصّ. بمناسبة تنقيح فرد من أفراد الموضوع المشكوك، باستصحاب العدم الأزليّ بعد عدم إمكان شمول العامّ له طبقاً للصناعة.
واستطال البحث عند غير واحدٍ منهم في هذا المبحث مع أنّ الأنسب عقده في تنبيهات الاستصحاب، شأنه في ذلك شأن معظم تنبيهات الاستصحاب التي تعالج حالاتٍ نظيرة له.
ب. أنّ جملةً من أبحاث العامّ والخاصّ لا تختصّ ببحث العامّ والخاصّ، بل نكتتها مشتركة بين هذا البحث وبين بحث الإطلاق والتقييد. من قبيل الوجه في تقديم الخاصّ على العامّ، فإنّ نكتته الكبرويّة هي نفس نكتة تقديم جملة القيد على جملة الإطلاق حين يتنافيان، أو تعقّب الاستثناء لجملٍ متعدّدة، وأنّه هل يرجع إلى آخرها أم إلى الجميع، وغير ذلك من المباحث. من هنا، كان لا بدّ من تنقيح جميع هذه المسائل مرّةً واحدة، فتُنقَّح في مباحث العامّ والخاصّ ويُحال عليها في مباحث الإطلاق والتقييد.
بعد هذا، لا بدّ من إطلالةٍ سريعة بمثابة التقديم قبل الدخول في المباحث، وحيث إنّ العادة عند الأصوليّين جارية على الشروع في مثل هذه الأبحاث بما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله، فإنّنا نجري في الغالب ـ كما جرينا في الأبحاث السابقة ـ على ذلك.
في هذه المقدّمة الموجزة، نتعرّض لما أفاده صاحب الكفاية رحمه‌الله في بداية بحث العامّ والخاصّ حول تعريف العموم.
والمتحصّل من كلامه وقفتان:
وقفة كبرويّة وأُخرى صغرويّة.
أمّا الوقفة الكبرويّة:
فقد تعرّض لها هنا وفي بعض المباحث السابقة، وهي الحديث عن عدم جدوى الخوض في التعريفات في مثل هذه المطالب. من جهة أنّ المعرِّف لا بدّ وأن يكون أجلى من المعرَّف، ونحن لا زلنا نلاحظ أنّ الأصوليّين عند النقض والإبرام يُشكلون طرداً وعكساً في التعاريف بما هو المسلَّم بينهم مسبقاً من دخول بعض المطالب في الأبحاث وعدم دخول أُخرى، فيُشكلون على التعريف في طرده من جهة أنّه لا يشمل مباحث، مع أنّه من المسلَّم شموله لها، وفي عكسه بالعكس، وأنّ التعريف يشمل ما لا يُعدّ من الأبحاث في العادة. وهذا أدلّ دليل على أنّ التعاريف في المقام هي لمجرّد الإشارة والإيضاح وإعطاء تصوّر عامّ لما يُزمع الباحث الدخول فيه.
وهذا الكلام بهذا المقدار ممّا لا غبار عليه ولا إشكال يعتريه، بل يمكن أن يُضاف إليه: أنّ هذا العلم وما جرى مجراه من العلوم الاعتباريّة لا يوجد فيها تعريف بالحدّ أو الرسم؛ ذلك أنّ العناصر المكوِّنة للحدّ والرسم ممّا لا يتأتّى وجودها في الاعتباريّات، بل هي ناظرة إلى الحقائق، كما ينبغي أن يكون واضحاً. فما يُطلب من هذه التعريفات هو إعطاء صورةٍ إجماليّة عن المبحث والمطالب المنضوية تحته قبل الدخول في البحث، وهو غير عديم الفائدة، كما لا يخفى. هذا أوّلاً.
والأهمّ منه ما ينبغي ذكره ثانياً، من أنّ بعض المباحث قد تتشابه إلى حدٍّ كبير، خصوصاً بما لها من المعنى العرفيّ واللّغويّ، وعندما يكون أهل صناعةٍ من الصناعات لديهم فارق ومائز موضوعيّ أو غرضيّ بين هذه المباحث المتشابهة، بمعنى: أنّ ثمرةً ما تترتّب على هذا المائز بحسب أغراض هذا العلم والصناعة، فالمطلوب من التعريف أن يُبرز المائز بين هذه المتشابهات بعد أن كان شبه مفقود في المعنى العرفيّ أو اللّغويّ للكلمة. ونحن هنا أمام مبحث من هذا القبيل؛ إذ على المستوى الأوّل، وإن لم نكن بحاجة للتعريف إلى إعطاء تصوّر عامّ يرتبط بالعموم؛ إذ لا يخفى: أنّ العموم ببمعناه العرفيّ واللّغويّ واضح، وما يُذكر من مرادفات له من الاستيعاب والشمول ونحو ذلك ليس بأوضح من العموم في الذهن العرفيّ العامّ. لكن على المستوى الثاني، نجد أنفسنا أمام شيءٍ من الاختلاط بين هذا المبحث وبين مبحث الإطلاق والتقييد من عدّة جهات. فلا بدّ أن تكون هناك نكتة لأجلها قام الأصوليّون بالفصل بين مباحث العامّ والخاصّ وبين مباحث الإطلاق والتقييد. وإذا احتجنا إلى التعريف في المقام، فالمطلوب الأصليّ فيه بعد وضوح الجهة الأُولى، أن يتضمّن بشكلٍ واضح تحديداً لهذا المائز؛ إذ الاستيعاب والشمول عرفاً أمر مشترك بين مباحث العامّ والخاصّ وبين مباحث الإطلاق والتقييد. وهذا ما ربما خفي في جملةٍ من الكلمات، إن لم نقل: في أكثرها.
لا يزال الكلام في النكتة الكبرويّة لصاحب الكفاية رحمه‌الله.
فبعد ما ذكره، ومع الإغضاء عمّا ذكرناه قبل قليل، أفاد رحمه‌الله أنّ التعريف في المقام وشبهه تعريف لفظيّ من قبيل شرح الاسم.
هذه النقطة وقعت موضعاً للإشكال من قبل جملةٍ من تلامذته؛ إذ لا يخلو أمر صاحب الكفاية رحمه‌الله من أن يكون يجري على الاصطلاح المتواضَع عليه في هذا التعبير، أو لا. وعلى الثاني، لا بدّ وأن يكون صاحب مصطلحٍ خاصّ فيه.
فعلى الأوّل نقول: من الواضح: أنّ التعاريف في العلوم الاعتباريّة في مثل هذه المقامات لا ينطبق عليها التعريف اللّفظيّ وشرح الاسم؛ إذ التعريف اللّفظيّ في علم الميزان هو تبديل لفظٍ بلفظٍ مرادف له يكون أجلى وأوضح، كما يُقال: سعدانة نبت، أمّا حيث يكون المطلوب من التعريف هو أن يبيّن مائزاً موضوعيّاً أو غرضيّاً، فمن الواضح: أنّه وإن لم يكن تعريفاً حقيقيّاً، لكنّه بمثابته وموازاته في الاعتباريّات، فيُذكر فيه ما هو بمثابة الجنس، وما هو بمثابة الفصل أو الخاصّة، قريبين أو بعيدين. وهذا ليس من التعريف اللّفظيّ بالمعنى المصطلح في شيء. وهذا ما صرّح به جملة من تلامذته، ومنهم: المحقّق الأصفهانيّ، والمحقّق الإيروانيّ.
وأمّا على الثاني، فالمطلوب أن يبيّن لنا هذا الاصطلاح الخاصّ به.
والأمر سهل؛ إذ البحث لا طائل له من حيث الثمرة.
وأمّا ما أفاده رحمه‌الله صغرويّاً:
وهو التصدّي للتعريف في محلّ الكلام؛ فإنّه رحمه‌الله بعد أن ذكر ما ذكر، أفاد ما خلاصته: أنّ العموم وإن انقسم إلى أقسام ثلاثة، بحسب تعلّق الحكم بالطبيعة، من استغراقيّ ومجموعيّ وبدليّ، إلّا أنّ العموم في الجميع بمعنىً واحد، وهو شمول المفهوم لتمام الأفراد التي يصلح للانطباق عليها.
الشمول ظاهر في أنّه مستعمل بما له من المعنى العرفيّ، أي: تبديل كلمة عموم بكلمة شمول. المفهوم هو ما يُفهم ويُعقل من اللّفظ. وواضح جدّاً أنّ المقصود به في المقام معنىً كلّيّ قابل للانطباق في الخارج على كثيرين، إمّا بالانفراد أو بالاجتماع، لكن على كثيرين، أي: على أفراد يستقلّ كلّ منها في كونها مصداقاً للمفهوم. وهذا للتفرقة بين مثل أسماء الطبائع والأجناس التي لها أفراد ومصاديق كثيرة في الخارج بحيث توجد الطبيعة بما لها من المعنى بوجود فردٍ من الأفراد في الخارج، وبين أسماء الطبائع المركّبة من أشياء، أو أسماء الجمع التي تدلّ على التكثّر ولكنّها لا قابليّة لها للانطباق على كلّ فردٍ فردٍ من أفرادها ومكوّناتها، فعنوان الدار مثلاً موضوع لكلّ مكوّنات الدار، لكنّ لفظ الدار لا ينطبق على كلّ واحدٍ من المكوّنات إن نظرنا إليها بمعزلٍ عن سائر المكوّنات. كذلك مثلاً لفظ الحجّ، أو لفظ الصلاة، فإنّها لا تُقال حقيقةً على السجود وحده، أو الركوع وحده. كذلك لفظ العشرة مثلاً، فإنّه وإن استوعب جميع وحدات العشرة المكوِّنة لها، لكنّه لا ينطبق على كلّ واحدٍ منها إلّا بشرط الاجتماع، فهو اسم وحدة، وليس اسم كثرة. بينما ينعكس الأمر في مثل أسماء الأجناس؛ فإنّها مفهوماً قابلة للانطباق على كلّ واحدٍ واحد من الأفراد، بل الأمر ينعكس، بمعنى: أنّك إذا أردت أن تلاحظ المجموع فأنت بحاجة إلى مؤونة زائدة؛ لأنّك تحوّل الأفراد إلى أجزاء ومكوّنات، لذلك كان العموم المجموعيّ على خلاف الأصل، وبحاجة إلى قرينةٍ تدلّ عليه.
وأمّا الصلاحية للانطباق على الأفراد، فليس الكلام عن الصلاحية الحقيقيّة أو التكوينيّة، بل عن صلاحية مواضعة، وليس الكلام عن الصلاحية الأصوليّة أيضاً؛ لأنّ الأصوليّ يبحث عن الصلاحية على ضوء ما هو موجود عند العرف، فيبحث عنها اكتشافيّاً أو تحليليّاً، بل عن الصلاحية بحسب المعنى اللّغويّ أو العرفيّ، وهو باب المواضعة العرفيّة كما هو واضح.
والتعبير بـ (الصلاحية) الظاهر أنّه للاحتراز عن مبحث سيأتي، وهو مبحث هامّ، وهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله ومن تابعه إلى أنّه لا بدّ من إجراء مقدّمات الحكمة لاستفادة العموم، كما سيأتي الكلام فيه.
بعد توضيح هذا التعريف، هناك تساؤل أساسيّ يطرح نفسه في المقام: وهو أنّ هذا التعريف يعطينا الخصيصة الأُولى من خصيصتين تحدّثنا أنّ التعريف ينبغي أن يعطيهما، فهذا التعريف يعطينا تصوّراً عامّاً عن المبحث الذي نزمع الدخول فيه. لكن، هل يفي هذا التعريف بالخصيصة الثانية، فيكون مائزاً بين المقام وبين مشابهه القادم، وهو بحث الإطلاق والتقييد، أم لا؟
وهنا نقطة ثالثة أيضاً لا بدّ من التعرّض لها، وهي أنّ هذا التعريف هل يعطي تصوّراً واضحاً عمّا نزمع الدخول فيه أم لا؟ هو بلا شكّ يعطينا صورة إجماليّة، فنحن لن نشتبه مثلاً بين المفاهيم وبين العامّ والخاصّ، لكن ألا يجدر بالتعريف الذي يُعطي تصوّراً حيث يمكن أن يكون التصوّر واضحاً في إبراز الخصائص أن يُعطي صورة واضحة؟ والجواب عن هذا التساؤل بديهيّ.
من هنا نرجع بالكلام إلى النقطة الأُولى، وهي أنّ التعريف المذكور وإن أعطانا صورة عن مباحث العامّ والخاصّ، لكنّها صورة إجماليّة جدّاً، ويمكن صوغ التعريف بحيث يُعطينا صورةً تامّة، وتنحلّ بذلك النقطة الثانية؛ ذلك أنّ أهمّ ما يمكن أن يُوجَّه على هذا التعريف: هو أنّ الاستيعاب والشمول بالمعنى اللّغويّ والعرفيّ مشترك بين العموم والإطلاق؛ إذ في العموم الاصطلاحيّ يوجد شمول واستيعاب، كما أنّه في الإطلاق يوجد شمول واستيعاب، ونحن نريد من التعريف أن يبيّن لنا العموم بمعناه الأصوليّ، لا العرفيّ، وهذا التعريف لم يبيّن لنا أنّ العموم الاصطلاحيّ مشروط بالوضع، ولا بوجود أداةٍ تدلّ عليه. وإلّا، فإنّ مطلق الشمول حيثيّة مشتركة بين العموم والإطلاق.
والذبّ عن التعريف بأنّ المراد هو الشمول الفعليّ، لا الشأنيّ، وهو متوقّف على أداة العموم، بينما في الإطلاق يوجد شمول شأنيّ، وليس فعليّاً، وهو متوقّف على قرينة الحكمة.
تمحّل؛ لأنّ احتياج العموم إلى قرينة الحكمة أو عدم احتياجه إليها مسألة خلافيّة بين الأصوليّين، بل ذهب بعض الأعاظم ـ كالمحقّق النائيني رحمه‌الله ـ إلى الاحتياج فيه. هذا أوّلاً.
وثانياً: الشمول إمّا هو شأنيّ في الاثنين، أو فعليّ في الاثنين؛ إذ عندما تكون هناك أداة عموم، فالشمول فعليّ، وحيث لا يكون، يكون شأنيّاً. وحيث تجري مقدّمات الحكمة في الإطلاق سيكون الشمول فعليّاً، وحيث لا تجري لا يكون الشمول فعليّاً.
على أنّ الطبيعة والمفهوم منها في أسماء الأجناس والطبائع ممّا لا يحكي الأفراد بوجهٍ، بل هو اسم للطبيعة، لا الأفراد، فالمفهوم من قبل نفسه لا يحكي الأفراد، لا في باب العموم ولا في باب الإطلاق، أمّا أنّ الطبيعة في الخارج هل هي ذات أفراد في الخارج أم لا. فهذا إنّما يتأتّى من جهة الانطباق بالحمل الشائع الصناعيّ، أو إن وُجد قبل هذه المرحلة، فلا بدّ له من دالّ، والدالّ لا بدّ أن يكون من خارج اسم الطبيعة. والقول بأنّ صاحب الكفاية رحمه‌الله ربما كان مقصوده ذلك، أقول: هذا ممّا يجعل التعريف أشدّ خفاءاً ممّا كنّا نتصوّره قبل الالتفات إلى هذه الأمور.
وحينئذٍ: فلا بدّ من صوغ التعريف بصياغةٍ تكون متكفّلةً ببيان المائز الواضح بين العموم الأصوليّ وبين الإطلاق الأصوليّ، وإعطاء تصوّر تفصيليّ نسبيّاً.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo