< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/11/22

بسم الله الرحمن الرحیم

ما تقدّم من التعريف وذيله يمثّل الموقف الأوّل من مواقف هذه المحطّة في بحث العموم.

الكلام في أقسام العموم
يقع الكلام في الموقف الثاني، وهو معقود للحديث عن أقسام العموم.
جرت عادة الأصوليّين منذ القديم على تقسيم العموم الاصطلاحيّ الأصوليّ إلى أقسام ثلاثة: العموم الاستغراقيّ، والعموم المجموعيّ، والعموم البدليّ.
ويقصدون من العموم الاستغراقيّ: ما يُنظر فيه إلى جهة الكثرة والاستيعاب لأفراد العموم بالعرْض، بحيث يكون كلّ فردٍ على حدة منظوراً في مقام اللّحاظ والحكم، ويلزم من ذلك: أن يتعدّد الحكم في مقام المجعول بالفعل بعدد الأفراد، فيكون لكلّ فردٍ حكم مستقلّ عن الآخر، غاية الأمر: أنّ هذه الكثرة تُرى ببركة هذا المفهوم الواحد. ومثاله البارز لغويّاً: دخول (كلّ) على اسم الجنس النكرة، كما في: أكرم كلّ عالم.
ويقصدون من العموم المجموعيّ: ما يُنظر ويُلحظ فيه الأفراد على كثرتها في المرحلة الأُولى، ثمّ تُحوَّل في مقام الحكم عليها، حيث يُنظر إليها ثانياً على أنّها الجميع مجتمعةً في مقام اللّحاظ والحكم. ويلزم من ذلك: أن تتحوّل الأفراد في مقام اللّحاظ والحكم إلى أجزاء. وينجم عنه: وحدة الحكم في الشكل والمضمون، ويلزم من ذلك وجود ثبوت للحكم في عالم الإجراء والواقع إن جاء بجميع الأفراد التي باتت أجزاءاً، ولا يُجرى الحكم إن لم يُؤتَ به في حقّ فردٍ من الأفراد بات جزءاً من الأجزاء، ومثاله البارز الذي لا يُختلف عليه: كلمة (مجموع) الداخلة على اسم الجنس المفرد أو الجمع.
ويقصدون من العموم البدليّ: ما يُنظر فيه إلى تمام أفراد الماهيّة واسم الجنس من دون خصوصيّة لبعضها على البعض الآخر، ولكنّها في مقام اللّحاظ والحكم يُنظر إليها على سبيل البدليّة والتبادل المساوقة للعطف بـ (أو). وينتج عن ذلك: وحدة الحكم والمحكوم به. ونتيجته: إمكانيّة تطبيق هذا الحكم على أيّ فردٍ من الأفراد شاء، ومن هذه الحيثيّة التي تشكّل مدلولاً التزاميّاً، أي: ترخيص المكلّف في التطبيق على أيّ فردٍ شاء، هذا المدلول الالتزاميّ ناتج عن أصل اللّحاظ ومقام الحكم ثبوتاً، والحكم بالفعل عليه إثباتاً، ببركة هذا سُمّي العموم البدليّ عموماً.
وإنّما ذكرنا ذلك لأنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله ذكر في فوائد الأصول أنّ إطلاق العموم على البدليّ مسامحة، ولم يبيّن وجهه.
لكنّ الوجه الذي يتبادر إلى الأذهان من هذا الكلام هو أنّ تعريف العموم بالشمول والاستيعاب لما يصلح المفهوم أن ينطبق عليه بالوضع، هذا التعريف غير متحقّق في العموم البدليّ؛ إذ لا شمول ولا استيعاب.
غير أنّه قد بات واضحاً أنّ الشمول والاستيعاب من جهة هذا الذي سمّيناه مدلولاً التزاميّاً وهو لحاظ إمكانيّة التطبيق على أيّ فرد من الأفراد ثبوتاً، وقدرة المكلّف على التطبيق والاختيار المستوعبة للأفراد على سبيل البدل والعطف بـ (أو). وهو اصطلاح سهل المؤونة.
لكنّه رحمه‌الله في أجود التقريرات ـ وهو تقريره الأخير ـ أفاد أنّ البدليّة في العموم البدليّ غالباً ما تُستفاد من جهة المتعلّق، لا من جهة الموضوع، فتصدّى بعض المحقّقين المعاصرين ـ في المنتقى ـ لمناقشته.
بيان ذلك: أنّ كلامنا في الأقسام الثلاثة هو من جهة الموضوع، لا المتعلَّق، ذلك أنّ البدليّة في جهة المتعلَّق، أي: ما يلزم على المكلّف الإتيان به (الموضوع هو متعلَّق المتعلَّق) موجودة في كلّ أقسام العموم والإطلاق في العادة؛ إذ عندما يُقال: أكرم كلّ عالم، أو مجموع العلماء، أو عالماً أيّ عالم، في جميع ذلك يوجد إطلاق بدليّ من ناحية المتعلَّق، لا عموم، أستطيع أن أُكرم بصرف وجود الإكرام، وما لم يعيّن لي الشارع نوعاً أو صنفاً أو شخصاً خاصّاً من الإكرام، فأنا بالخيار، وهذا تطبيق يحكم به العقل؛ لأنّ طبيعيّ الإكرام يحكم العقل بتحقّقه في الخارج بصرف الوجود، وبالوجود الأوّل له، وهذا ليس خاصّاً بالعموم البدليّ.
ثمّ لو سلّمنا وتنزّلنا وقلنا بأنّ المقالة صحيحة في نفسها، نقول: إنّ الكلام فعلاً ليس فيها، بل كلامنا هو فيما لو كانت البدليّة مستفادة من أداة لفظيّة بالوضع، كما هو مفروض البحث، فلنفترض أنّ البدليّة غالباً ما تُستفاد من جهة الإطلاق البدليّ من جهة المتعلَّق، فنسأل المحقّق النائيني رحمه‌الله: هل تنكر وجود حالات تكون مدلولة للفظ موضوع في اللّغة العربيّة مثل (أي) أو تنوين التنكير، تفيد البدليّة بأداةٍ لفظيّة على مستوى الموضوع؟ ونحن نجيب عنه: هو قطعاً لا يُنكر ذلك، ولذلك هو عبّر: غالباً ما يُستفاد من جهة المتعلَّق. فنقول: كلامنا هنا في هذا المقابل للغالب، ويكفي وجود حالات يُستفاد فيها اللّحاظ على سبيل البدل، وما يلزم عنه من ترخيص المكلَّف في الاختيار بين جميع أفراد الماهيّة ليختار واحداً منها ويطبّق عليها الحكم ويكون هذا مفاداً للأداة اللّفظيّة، هذا يُسمّى جزماً عموماً بدليّاً بالاصطلاح.
ولذا، فلا يتأتّى الإشكال في تسمية هذه الأقسام الثلاثة بأسمائها إن عرفنا أنّ جهة اللّحاظ فيها هي جهة الشمول المفادة بلفظٍ دخل على اسم الماهيّة بجهةٍ من الجهات، مرّة على سبيل العرْض، ومرّة على سبيل الجميع مجتمعة، ومرّة على سبيل الجميع بنحو العطف بـ أو. فتسمية هذه الأقسام بأقسام العموم هو من جهة النظر إلى كثرة وتكثّر الأفراد.
وبهذا يتّضح النظر فيما أفاده المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله من هذه الجهة؛ إذ أفاد أنّ هذا التقسيم إلى الأقسام الثلاثة يرجع إلى عالم الثبوت، قبل عالم الإثبات، وخلاصة ما أفاده: أنّ أسماء الأجناس والماهيّات المتكثّرة الأفراد بطبيعتها، تارةً يُنظر فيها إلى حيثيّة الوحدة، وأُخرى إلى حيثيّة الكثرة؛ لأنّ الماهيّة فيها جهتا وحدة وكثرة، فقصر النظر على مفهومٍ في قبال بقيّة المفاهيم، هو جهة الوحدة، والنظر بالمفهوم إلى أفراده هي جهة الكثرة، وهذه يمكن أن نُطلق عليها اسم: النظرة المرآتيّة للمفهوم.
وهذا كلام جيّد لا غبار عليه.
لكنّه رحمه‌الله رتّب على هذا أنّنا في الاستغراق والمجموعيّة ننظر إلى جهة الكثرة. أمّا في الاستغراق فواضح. وأمّا في المجموعيّ، فنحن نظرنا أوّلاً في الأفراد، ثمّ حوّلناه بلحاظٍ إلى أجزاء، فحكمنا عليها في مقام تعلّق الحكم، فبعد لحاظها أفراداً وتكثّراً تعمّلْنا إرجاعها إلى وحدةٍ مجتمعة كالمركّبات. فلا بدّ في مقام اللّحاظ والحكم من النظر إلى كثرتها أوّلاً ثمّ نوحّدها بعد ذلك. وأمّا في البدليّ، فننظر جهة الوحدة، لا جهة التكثّر.
الجواب عن ذلك:
أنّ كلامه بهذا المقدار يرد عليه أنّه حتّى في الإطلاق البدليّ، نحن حتّى نحكم بـ (أي)، لا بدّ وأن نلحظ الأفراد الكثيرة ونلحظ بعد ذلك عدم خصوصيّة لأيٍّ منها على الآخر، فنفيد ما نلحظه، وننصّص لفظيّاً بأداةٍ ما على ذلك إثباتاً، فحينئذٍ: لا محيص لمن يحكم في مقام حكمه، وقبل أن يحكم، عن أن يلاحظ الموضوع متكثّر الأفراد فيخيّر بينها؛ إذ لو لم يلاحظ كثرتها فكيف يخيّر بينها؟َ صحيح أنّه حكم على واحد منها (ولعلّ هذا هو ما أوهم جهة الوحدة)، لكنّ هذه ليست هي الوحدة المفهوميّة في قبال سائر المفاهيم، بل هذه الوحدة الملحوظة هي الوحدة الفرديّة في عين تكثّر الأفراد، لاحظها في طول ملاحظته للتكثّر وألغى خصوصيّات كلّ فردٍ فردٍ من الأفراد، فقال ـ مثلاً ـ: أيّ رجل. ولذلك، فإنّ النظر إلى الأفراد في باب العموم في مقام الحكم ممّا لا محيص عنه في الأقسام الثلاثة.
نعم، تارةً ينظر إلى الأفراد ويحكم عليها من دون خطوة ثانية، وهو العموم الاستغراقيّ.
وثانيةً ينظر إلى الأفراد أوّلاً، (النظرة الساذجة)، ويحوّلها بنظرةٍ ثانية إلى أجزاء، فيحكم عليها ويأتي بلفظٍ مناسب، كلفظ (مجموع).
وثالثةً ينظر إلى الأفراد وتكثّرها ويحكم على واحدٍ منها سارٍ في الجميع، أي: له قابليّة التطبيق من دون خصوصيّة لأحدها على الآخر، ويأتي باللّفظ المناسب لهذا، كلفظ (أي).
ولذلك، فما اشتهر من تقسيم العموم إلى أقسام ثلاثة، لا غبار فيه، والتقسيم صحيح.
نعم، ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله، وتبعه على التعبير المحقّق النائيني رحمه‌الله، أنّ هذه الأقسام إنّما تكون أقساماً عند تعلّق الحكم بالعموم، أي: لا تتأتّى هذه الأقسام من دون مقام تعلّق الحكم بالماهيّة.
وهذا الكلام صار مثاراً للجدل والإشكال بين المحقّقين، الذين انقسموا إلى فريقين، فريق صوّب المقالة، وفريق أنكرها، بل أحالها، وأنّ التقسيم إلى الأقسام الثلاثة هو بمعزل عن تعلّق الحكم.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo