< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/11/26

بسم الله الرحمن الرحیم

يقع الكلام في نكتةٍ أثارها المحقّق الخراساني رحمه‌الله، وهي ترتبط باللّحاظ الذي على أساسه يتمّ هذا التقسيم، حيث أفاد رحمه‌الله في الكفاية متناً أنّ هذه الأقسام الثلاثة إنّما تتحقّق في مقام تعلّق الحكم بماهيّةٍ من الماهيّات، وإلّا، فبمعزل عن تعلّق الحكم لا شكّ في أنّ العموم في الجميع هو بمعنىً واحد، وهو السريان والشمول والاستيعاب ليس غير. بل حتّى في طول هذه التقسيمات الثلاثة أيضاً العموم واحد في الكلّ، والجهات التي تفترق فيها الأقسام الثلاثة ليست هي جهة العموم، بل جهات أُخرى غير جهة الاستيعاب، وقد تقدّم في البحث السابق ما يصلح أن يكون توضيحاً لهذه الجهة من كلامه.
هذا الكلام الذي أفاده رحمه‌الله أثار ضجّةً بين الأصوليّين.
وما يتبادر إلى الذهن سريعاً من الإشكال هو عدم معقوليّته، من باب أنّ الحكم يتعلّق بالموضوع، فهو متأخّر طبعاً ورتبةً عن موضوعه؛ إذ من دون تحقّق الموضوع في أفقه جعلاً في عالم الجعل، ومجعولاً في عالم المجعول، لا يمكن تصوّر وجود حكم؛ لأنّ الحكم لا يوجد من دون موضوع، فلا بدّ أن يوجد موضوع في أفق المشرّع ليحكم في عالم الجعل، وكذلك بالنسبة للحكم الفعليّ والمجعول لا شكّ في أنّه تبع لتحقّق الموضوع تكويناً وخارجاً، فإذا كان الموضوع متقدّما بالطبع، وكانت التقسيمات تقسيمات للعموم بلحاظ الموضوع، لا بلحاظ المتعلّق، ولا نفس الحكم، فكيف يكون التقسيم إلى الأقسام الثلاثة المرتبطة بتنقيح الموضوع متأخّراً عمّا هو متأخّر عنه طبعاً، وهو الحكم. هذا محذور الدور، أو مضمون الدور على أقلّ تقدير. فهو ينافي الوجدان، كما عبّر بعضهم، بل هو خلاف البرهان.
هذا ما أفاده جماعة من المحقّقين، منهم السيّد البروجرديّ رحمه‌الله، والإمام الخميني رحمه‌الله في مناهج الوصول أو تهذيب الأصول، وغيرهم في غيرها.
نعم، عبّر المحقّق النائيني رحمه‌الله بنفس عبارة أستاذه صاحب الكفاية رحمه‌الله.
هذا الإشكال تنبّه له المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله في نهاية الدراية فأفاد: أنّ مراد أستاذه في الكفاية ليس ما يظهر أوّليّاً من عبارته، فهو لا يريد القول بأنّ الأقسام هي حصيلة تعلّق الحكم بالموضوع بحيث لا نستحصل على الأقسام الثلاثة إلّا في طول تعلّق الحكم، بل مراده شيء آخر، وهو أنّ العموم له معنىً واحد، وهو الاستيعاب والشمول، فالتصوّر في العموم تارةً يكون تصوّراً لأفراد تتعدّد الأحكام بتعدّدها، وأُخرى يكون تحويلاً للأفراد إلى أجزاء والحكم عليها مجتمعة، وثالثةً يكون تصوّراً للواحد الساري في الوجود وطلب صرف الوجود، هذا المقام، إنّما هو مقام الحكم على الشيء بحيث لولا وجود حكمٍ، لولا أنّ الحاكم كان في مقام الحكم، لما احتاج إلى أن ينظر في العموم تارةً على مستوى الأفراد، وأُخرى لتحويلها إلى أجزاء، وثالثة بطلب فردٍ سارٍ في الطبيعة يقتضي عقلاً التخيير فيما بين الأفراد بالإتيان بواحد منها.
بناءاً على ذلك، فلا يلزم محذور التقدّم والتأخّر، بل يصبح حاصل الكلام: أنّ الأقسام الثلاثة إنّما هي أقسام في مقام لحاظها عندما يريد الحاكم أن يحكم على العموم، أمّا حيث لا يريد أن يحكم بحكمٍ ما، فهو ليس بحاجة لا إلى لحاظ أفرادٍ، ولا إلى تحويلها إلى أجزاء، ولا إلى لحاظ صرف الوجود من الطبيعة المتكثّرة الأفراد.
وعلى هذا، فليس مقصود المحقّق الخراسانيّ رحمه‌الله أنّ هذه الأقسام الثلاثة متأخّرة عن مقام جعل الحكم كما ربما أوهمت عبارته بدواً، وعلى أساس هذا التوجيه لا يبقى إشكال عقليّ برهانيّ في المقام؛ إذ من الواضح أنّ هذا الذي يفيده على درجةٍ من الإمكان.
والغريب أنّه مع تنبّه المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله لهذه النكتة والتنبيه عليها فقد أصرّ جماعة من أعاظم المحقّقين على تجاهلها، وأفرغوا إشكالهم العقليّ البديهيّ على الفهم الأوّل لعبارة الكفاية.
إلى هنا ثبت أنّ ما أفاده صاحب الكفاية رحمه‌الله لا يتأتّى عليه المحذور العقليّ.
أمّا أنّه يطابق الوجدان ويطابق عالم الإثبات أو لا يطابقه؟ إذ بمعزل عن المحذور العقليّ، يقع الكلام في صحّة ما أفاده ثبوتاً على مستوى الوجدان، وإثباتاً على مستوى الأداء وقالب الدليل.
هنا، يمكن أن نقول: يوجد رأيان:
1) رأي يوافق المحقّق الخراسانيّ، وأنّه لا معنى للأقسام الثلاثة إلّا في مقام الحكم على الشيء، وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائيني والسيّد الخوئي والمحقّق العراقيّ+ (في الجملة بالنسبة إلى المحقّق العراقيّ رحمه‌الله، وإن كان لديه تفصيل آخر).
2) في مقابل ذلك، ذهب جملة من الأعلام، ومنهم السيّد البروجردي والإمام الخميني والشهيد الصدر+ وغيرهم إلى أنّ هذه الأقسام الثلاثة تثبت بمعزلٍ عن مقام تعلّق الحكم، بل هي تُستفاد عرفاً من الأدوات الدالّة على العموم؛ إذ من الواضح: أنّنا سواء أردنا أن نحكم أم لم نُرد، فإنّنا نستطيع ثبوتاً أن نتصوّر العامّ بما له من الأفراد تارةً، وأُخرى بما له من الأفراد مجتمعةً، وثالثةً بما له من الأفراد بمعنى وجوده الساري في فردٍ منها. فالذهن ثبوتاً لديه قدرة على مثل هذه التصوّرات.
وأمّا إثباتاً، فلا يختلف أبناء العرف في أنّ هناك أدواتٍ تدلّ على العموم الاستغراقيّ، سواء كانت في قالب جملة حُكميّة أم لم تكن، كـ (كلّ عالم) مثلاً، أو (أيّ عالم)، أو (مجموع العلماء).
فأفاد الإمام الخميني رحمه‌الله ـ مثلاً ـ أنّه من الواضح: أنّ المقام الذي بحسبه ينقسم العموم إلى أقسامه الثلاثة هو مقام الإثبات ودخول هذه الأدوات الموضوعة لإفادة أحد هذه المعاني أو الأقسام الثلاثة.
هذا الكلام الإثباتيّ، كان قد تنبّه له صاحب الكفاية رحمه‌الله، حيث تعرّض في حاشيةٍ له على الكفاية، حيث أشكل على نفسه بأنّ الأدوات تدلّ على هذه المعاني، فكيف تقولون بأنّ الأقسام الثلاثة هي حصيلة مقام تعلّق الحكم، فأفاد رحمه‌الله موجزاً: أنّه لا تنافي بين الأمرين.
وللأسف الشديد، فإنّ جميع الكلمات التي نظرنا فيها أهملت هذه الحاشية؛ إذ قوله: (لا تنافي بين الأمرين)، يفيد ـ والله العالم ـ أنّ الكلام في مقامين: تارةً في عالم الثبوت، وأُخرى في عالم الإثبات. ففي عالم الثبوت، أنا كحاكم لديّ ملاك، تتولّد منه إرادة، على أساسها أختار لحاظ الأفراد كلّاً على حدة، أو مجتمعةً، أو أحدها الساري على سبيل البدل. وعلى أساس ما ألحظه في عالم الثبوت لأحكم عليه بعد ذلك أختار الأداة التي تناسبني في عالم الإثبات، فأختار (كلّ) تارةً و(أيّ) أُخرى و(مجموع) ثالثةً. هذا هو مقصوده من أنّه لا تنافي بين الأمرين.
فما يتحدّث عنه صاحب الكفاية رحمه‌الله ليس هو إنكار أنّ (كلّ) تفيد استيعاب الأفراد وهكذا، وعليه: فهو لا ينكر أنّ هذه الألفاظ تفيد هذه المعاني في عالم الإثبات، لكنّه يريد أنّ الحاجة إلى هذه الأقسام الثلاثة واللّحاظ بأحد الأنحاء الثلاثة إنّما هو في مقام تعلّق الحكم. فإذا كان هذا هو حقيقة مراد صاحب الكفاية، ولا شكّ في ذلك، فحينئذٍ: يقع الصلح بينه وبين هؤلاء الأعلام، الذين ربما لم يتنبّهوا لحقيقة مراده، أو لم يريدوا حمل كلامه على الرأي الأصوب؛ إذ كلامهم حينئذٍ ينسجم مع هذا الذي استفدناه من كلامه. فمقالة صاحب الكفاية ناظرة إلى مقام ووعاء، ومقالة هؤلاء ناظرة إلى مقام ووعاء آخر.
هذا تمام الكلام في هذه النقطة.
النقطة الأُخرى التي تحتاج إلى بحث في ذيل هذه الأقسام الثلاثة، هي النقطة التي أثارها المحقّق النائينيّ رحمه‌الله حصراً؛ إذ أفاد أنّنا تارةً نشخّص بحسب الاستفادة من الدليل أنّ العموم أفراديّ، كما في (كلّ) الداخلة على اسم الطبيعة المنكّر، كما في (كلّ عالم)، وأُخرى يكون المقام من مقامات العموم المجموعيّ، كما في كلّ الداخلة على اسم الجنس المعرّف بأل، وأُخرى يكون من قبيل (أي). فنستكشف من عالم الإثبات حال العموم في مرحلة الثبوت.
وأُخرى نقع في الالتباس، والالتباس عادةً لا يكون بين العموم البدليّ وأخويه، بل بين المجموعيّ والاستغراقيّ، كما في مثل (كلّ العلماء)، فقد يُدّعى بأنّه ربما وقع الشكّ هنا في أنّه عموم مجموعيّ أو استغراقيّ، ولو من باب احتفافه بقرائن أوجبت الشكّ في أنّ العموم هل هو استغراقيّ أم مجموعيّ؟ فهل يوجد أصل لفظيّ في المقام يمكن أن ننقّحه ونلجأ إليه فيُخرجنا عن هذا الشكّ، أم لا؟
وقد أفاد رحمه‌الله أنّ الأصل اللّفظيّ يقتضي العموم الاستغراقيّ عند الشكّ، ولا تصل النوبة إلى الأصل العمليّ؛ لأنّ المجموعيّة تحتاج إلى مؤونة زائدة، ذلك أنّ الاستغراقيّ والمجموعيّ كليهما يُلحظ فيهما الأفراد، لكن يكفي لحاظ الأفراد في العموم الاستغراقيّ، وأمّا في المجموعيّ فلا بدّ من لحاظٍ آخر، وهو تحويل هذه الأفراد إلى أجزاء، فيكون بحاجةٍ إلى لحاظٍ زائد، فيُحمل الإطلاق على العموم الاستغراقيّ؛ لأنّ المؤونة الزائدة بمثابة التقييد، فكلّ صيغةٍ وجدناها في مقام اللّفظ، شككنا ـ لمشكلة داخليّة في الدليل أم خارجيّة ـ في أنّ العموم فيها هل هو استغراقيّ أم مجموعيّ؟ فإنّ مقتضى الإطلاق هو الحمل على العموم الاستغراقيّ.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo