< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/11/28

بسم الله الرحمن الرحیم

بقيت نقطة ترتبط بالموقف السابق. وهي أنّه يظهر من بعض كلامٍ لبعض المحقّقين أنّ تقسيم العموم إلى أقسامه الثلاثة يجري في الإطلاق، حيث أفاد صاحب الكفاية رحمه‌الله في مبحث الإطلاق والتقييد ما خلاصته: أنّ الأقسام الثلاثة تُستفاد في باب الإطلاق بحسب المقامات المختلفة. وأفاد تلميذه في مقالات الأصول ما يمكن عدّه ضابطةً في هذا المجال؛ إذ أفاد أنّ اسم الجنس المعرَّف يدلّ على الإطلاق الشموليّ في العادة، وربما دلّ على الإطلاق المجموعيّ، وأنّ الاسم المذكور إذا كان نكرةً دلّ على الإطلاق البدليّ.
وظاهر كلام أستاذه إن اقتصرنا على الكلام، أنّ هذه التقسيمات تقسيمات بحسب الإطلاق، فنقول:
تارةً يكون نظر العلمين إلى النتيجة، لا إلى الطريقة، فهذا ممّا لا يُنكر؛ إذ من الواضح: أنّه من حيث النتيجة يوجد إطلاق تكون نتيجته الاستغراق، ويوجد إطلاق تكون نتيجته المجموعيّة، والبدليّة كذلك، ويمكن حمل كلام المحقّق العراقيّ رحمه‌الله على ذلك، فلا يكون مورداً لإشكال.
وأُخرى يُقتصر على حاقّ لفظ العلمين، فيُدّعى أنّ نظرهما إلى الطريقة، لا إلى النتيجة فحسب، وأنّ الإطلاق في مقامه يفيد الاستغراقيّة تارةً والمجموعيّة أو البدليّة أُخرى، وعلى هذا يبتني الإشكال الذي أفاده المحقّق الإمام الخميني رحمه‌الله في أبحاثه الأصوليّة؛ إذ أشكل مستغرباً من صاحب الكفاية رحمه‌الله ومن المحقّق العراقيّ رحمه‌الله، وخلاصة ما أفاده:
أنّ الإطلاق ليس شيئاً غير أخذ الماهيّة واسم الجنس موضوعاً للحكم، وبقرينة الحكمة نُلغي دخالة قيدٍ يحصّص هذا المفهوم الكلّيّ ويجتزئ منه، فيُستفاد الإطلاق من أرضٍ قابلة، وهي اسم الجنس، ومن قرينة الحكمة؛ إذ ظاهر حال المتكلّم أنّه لا يريد غير ما ذكره؛ لأنّه لو شاء لقيّد، فحَصَّص، فالإطلاق لا يفيد سوى أنّ الطبيعة هي تمام الموضوع للحكم، وأمّا التطبيق على الأفراد من حيث وجودها، أو بشرط اجتماعها، أو واحداً منها سارياً في الطبيعة، ممّا لا تتطرّق إليه قرينة الحكمة المحقّقة للإطلاق، فهي لا تعرّض لها للأفراد بوجهٍ، بأيّ نحوٍ من أنحاء التعرّض الثلاثة. وإذا ما استُفيد أحد هذه الأنحاء فهو إنّما يُستفاد من دالٍّ آخر، إمّا من داخل الكلام، وإمّا من خارجه. لكنّه على كلا التقديرين، ليس من جهة الإطلاق، فـ (أل) الداخلة على اسم الجنس، وبالأخصّ: المفرد منه، (لأنّ الجمع فيه كلام أنّه عموم أو إطلاق) تفيد تعيّن الطبيعة، إمّا عهداً، كما هو بعض الآراء، وإمّا تزييناً، كما هو بعضها الآخر، وإمّا تعريفاً للطبيعة بما هي، كما هو رأي ثالث، وحينئذٍ: فإنّ تعيّن الطبيعة في حدّها الأعلى يقتضي الشمول لتمام الأفراد، لكن في مرحلة التطبيق والانطباق، أو كما عبّر الشهيد الصدر رحمه‌الله: في مرحلة المجعول، لا الجعل. واسم الجنس المنكَّر يُستفاد قيد الوحدة من تنكيره، لا من قرينة الحكمة المحقّقة للإطلاق.
وعليه: فإنّ ما أفاده العلمان إجمالاً في الكفاية، وتفصيلاً في المقالات، أجنبيّ عن الإطلاق، فيحقّ لنا أن نقول: إنّ الإطلاق لا ينقسم إلى أقسام العموم الثلاثة المذكورة، واستفادة الثلاثة في باب الإطلاق هو بدالٍّ خارج عن الإطلاق؛ لأنّ الإطلاق لا يعدو كونه اسم الطبيعة مع الاستمساك بظاهر حال المتكلّم في أنّ ما لا يقوله لا يريده، وأنّ ما قاله هو تمام مراده.
ولعلّ السيّد الإمام رحمه‌الله هو الوحيد الذي تعرّض لهذا البحث فيما رأيت، وربما تعرّض له أيضاً بعض تلامذته.
أقول:
وقد بات التعليق على هذا الإشكال واضحاً؛ إذ ما أفاده رحمه‌الله كلام لا غبار عليه، لكنّه إنّما يكون إشكالاً على العلمين، لو كان نظرهما إلى الطريقة، ودعواهما أنّ الأقسام الثلاثة تُستفاد من حاقّ الإطلاق. لكنّ حمل كلام الكفاية على أنّه يريد ذلك محلّ تأمّل، بل ربما أمكننا ادّعاء أنّه ناظر إلى النتيجة؛ لأنّ عبارته ظاهرة في أنّ الأقسام الثلاثة يمكن ذكرها في باب الإطلاق، واستفادتها تختلف باختلاف المقامات؛ فإنّ تعبيره بالمقامات، مع وضوح عدم تعدّد قرينة الحكمة، وأنّ المراد منها شيء واحد عند الجميع، تعبيره ظاهر في أنّ الاستفادة المذكورة ليست من جهة الإطلاق وقرينة الحكمة طريقةً، بل نتيجةً، ولذلك علّل استفادة أحد الأقسام الثلاثة باختلاف المقامات، ولو كان مراده من حاقّ الإطلاق ما فُهم من كلامه في كلام السيّد الإمام رحمه‌الله، لما عبَّر بهذا التعبير، ولكانت قرينة الحكمة ثلاثة، وليست واحدة، واحدة لإفادة الاستغراقيّة، وأُخرى لإفادة المجموعيّة، وثالثة لاستفادة البدليّة، وهذا لا يمكن أن يقول به ذو مسكة.
وكلام المحقّق العراقيّ رحمه‌الله أبلغ في هذا الجانب؛ إذ هو فتح البحث وربطه تارةً بأداة التعريف الداخلة على اسم الجنس، وأُخرى بالتنوين الداخل عليه، لا من جهة قرينة الحكمة؛ فإنّ المحقّق العراقيّ رحمه‌الله كسائر المحقّقين لا يذكر في تفسير قرينة الحكمة سوى تفسير واحد.
فهذا التحليل من السيّد الإمام رحمه‌الله صحيح ولا غبار عليه، وإنّما النظر في توجّه الإشكال الذي أفاده على كلام العلمين.
والحاصل: أنّ الحقّ مع المستشكل، لكنّه ليس له خصم في هذا المجال، في أنّ الإطلاق إذا نظرنا إليه اصطلاحيّاً فهو لا ينقسم بنفسه إلى الأقسام الثلاثة، وإن استُفيدت بدوالّ أُخرى، داخليّة كـ أل والتنوين، أو خارجيّة، كمناسبات الحكم والموضوع.
هذا تمام الكلام في الموقف الثاني. وهو تقسيم العموم إلى أقسامه الثلاثة.

الموقف الثالث:
تعرّض فيه صاحب الكفاية رحمه‌الله لبحثٍ، وهذا البحث مُثار بين متقدّمي الأصوليّين وأوائل المتأخّرين، وهو أنّه يظهر من بعض المحقّقين ـ بل ربما عُدّ مشهور المحقّقين ـ إنكار وجود صيغ للعموم، فأفاد رحمه‌الله أنّه لا ريب في وجود صيغةٍ للعموم تخصّه، كما أنّ الخصوص كذلك. فلا شكّ عند العرف ـ مثلاً ـ في أنّ مثل: (كلّ) و(كافّة) و(جميع) ونحوها هي صيغ للعموم، كما أنّ مثل كلمة (بعض) لا شكّ في أنّها من صيغ الخصوص.
وإنّما ذهب البعض إلى إنكار وجود صيغةٍ للعموم قديماً، نظراً لأمرين:
1) كثرة إطلاق العموم وإرادة الخصوص.
2) أنّه من عامٍّ إلّا وقد خُصّ.
وفرق بين الأمرين: ففي الأوّل يُطلق العموم لكن يُراد منه الخصوص ابتداءاً، وفي الثاني، يُراد العموم، ولكن يأتينا دليل منفصل أو متّصل يخصّص هذا العموم.
ومن هذين الأمرين، يلزم إمّا كثرة المجاز بحيث تصبح هي الحالة الغالبة في باب العموم، وإمّا الحمل على الخصوص؛ لأنّه القدر المتيقّن الذي يُستفاد في مورد المجاز المشهور. ولذلك التجأ هؤلاء إلى إنكار استفادة العموم لفظاً بصيغةٍ وأداة. وهو ما أنكره عموم المتأخّرين.
وخلاصة الأمر ـ بتلخيصٍ شديد منّا نظراً لعدم وجود ثمرة عمليّة في هذا البحث ـ:
أنّنا بالوجدان العرفيّ والعقلائيّ في باب المحاورات لا نرى أنّ إطلاق العموم بأداةٍ من أدواته المتّفق على كونها موضوعةً للعموم، كـ (كلّ)، أو (جميع) أو (كافّة)، هذا الوجدان قاضٍ بتبادر الشمول لجميع ما يصلح المدخول للانطباق عليه. وكثرة إرادة الخصوص في هذا الباب لا نقبلها إلّا مقرونةً بالقرينة، ليس لدينا لا كثرة ولا قلّة إرادة خصوص من دون قرينة. إمّا عهديّة ذكريّة أو ذهنيّة أو بقرينة لفظيّة أو حاليّة.
أمّا القول بأنّ غالب الموارد يُطلق فيها العموم ويُراد منها الخصوص هكذا، فممّا لا يُقبل على إطلاقه بوجهٍ، بل كنّا ولا زلنا في الخطابات العرفيّة، والشارع جرى عليها، في الكتاب الكريم وفي السنّة المطهّرة، أنّ الحمل على الخصوص لا يكون إلّا لقرينة.
وكثرة المجاز مع القرينة ما لم تستوجب النقل لا تلغي وضع أدوات العموم للعموم، كما هو أوضح من أن يحتاج إلى بيان.
ولا شكّ في أنّ أبناء المحاورة كانوا ولا يزالون يستفيدون العموم من هذه الأدوات ويتبادر في مرحلة الوضع والمدلول الوضعيّ إلى أذهانهم حيث لا يكون هناك قرينة. ويطالبون من أراد الخصوص أو احتجّ بإرادته للخصوص بإقامة القرينة على ذلك. وهذا واضح ولا كلام فيه.
هذا بالنسبة إلى الأمر الأوّل.
وأمّا الأمر الثاني، فإنّ البحث فيه طويل الذيل إلى حدٍّ ما، وسيأتي.
وخلاصته: أنّ التخصيص لا يستلزم المجازيّة أساساً، ولا يضرب المدلول الوضعيّ ولا الاستعماليّ، بل القرينة المخصِّصة إمّا قرينة متّصلة أو منفصلة.
فإن أُريد القرائن المتّصلة، فنقول: القرينة المتّصلة ينبغي عدم زجّها بالبحث؛ لأنّ هذا ليس تخصيصاً، بل هو من قبيل «ضيّق فم الركيّة». فإذا اقتطعنا من (العالم) بقيد (العادل) قبل أن تدخل كلمة (كلّ)، فهذا ليس من باب التخصيص، بل صار لدينا هيئة اندماجيّة في مرحلة الموضوع، وهي: العالم العادل، ثمّ دخلت (كلّ) على هذه الهيئة الاندماجيّة. فالمدخول للأداة إنّما هو هذه الحصّة الخاصّة من العالم، وهذا ليس من التخصيص في شيء، بل لا شكّ في أنّه في مثل قولنا: أكرم كلّ عالم عادل، يوجد دلالة على العموم بلا كلام.
وإن أُريد القرائن المنفصلة، فقد حُقّق في محلّه، وسيأتي، أنّ المقيِّد أو المخصّص المنفصل لا يستوجب التصرّف في الوضع والموضوع له والمستعمل فيه، بل التصرّف إنّما يكون في المراد الجدّي للمتكلّم، والتصرّف في المراد الجدّيّ ليس من المجاز في شيء. وذلك أنّ القرينة التي تصرف الإرادة الاستعماليّة هي التي تولّد مجازاً، وأمّا القرينة التي تتصرّف فيما ظهر لنا من الكلام الأوّل أنّه هو المراد فتضيّقه بعد أن كان واسعاً، فهذه لا تتصرّف في اللّفظ ولا تغيّر المدلول الاستعماليّ عمّا وقع عليه، بل يستحيل ذلك، نعم، بعد ضرب العامّ بهذا الخاصّ، نستكشف أن المراد الجدّيّ للمتكلّم هو المتحصّل من ضمّ الخاصّ إلى العامّ. وبحسب العبارة الجميلة التي قالها المحقّق النائيني رحمه‌الله: فإنّ كلّ ما كان على تقدير الاتّصال يمنع من انعقاد المراد الجدّيّ في الشمول والاستيعاب، فهو على تقدير الانفصال يهدم حجّيّته؛ فإنّ الحجّيّة إنّما هي للمدلول الجدّيّ.
إذاً، فدعوى أنّه لا يوجد لدينا صيغ للعموم لأحد السببين المذكورين، ينبغي أن يُقال: إنّها واضحة الفساد. ولذا لم يذهب إليها أحد من المحقّقين المتأخّرين.
وهذا تمام الكلام في الموقف الثالث.

الموقف الرابع:
أنّه وقع خلاف شديد بين المحقّقين في القرنين الأخيرين في أنّ أداة العموم هل هي موضوعة لشمول واستيعاب ما يصلح مدخولها للانطباق عليه، أم ما يُراد من مدخولها؟
وقد رُتّبت ثمرات مهمّة على أحد هذين الاتّجاهين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo