< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/12/13

بسم الله الرحمن الرحیم

ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله عبارةً، ألمحنا إليها بالأمس، حيث أفاد بأنّ العامّ يمكن أن يكون مستعملاً في العموم قاعدةً. ثمّ أشكل رحمه‌الله على نفسه بأنّه كما يمكن أن يكون مستعملاً في العموم ويكون التصرّف بالتخصيص بالمنفصل في خصوص المراد الجدّيّ، يمكن أن يكون أيضاً تصرّفاً في المراد الاستعماليّ، فأجاب على هذا بما خلاصته: أنّ العامّ ظاهر في العموم على مستوى القاعدة.
وإنّما احتاج رحمه‌الله إلى هذا الإشكال والدفع نتيجة عبارته الأُولى، حيث يظهر منها الترديد ودوران الأمر بين كون التخصيص تصرّفاً في خصوص المراد الجدّيّ، وبين كونه قرينةً على أنّ العامّ غير مستعمل في العموم، وهو ما يلزم منه المجازيّة، فيولّد الإشكال المتقدّم.
أمّا لو كان رحمه‌الله قد أفاد بضرسٍ قاطع من أوّل الأمر أنّ العامّ مستعمل في العموم، كما هو ظاهره، وكما صغنا بيانه بالأمس، فإنّه لم يكن محتاجاً أصلاً إلى هذا الإشكال والدفع.
نعم، هو بحاجة حينئذٍ إلى التدليل على هذه المصادرة؛ إذ ثبوتاً كما يُحتمل كون الخاصّ قرينةً على المراد الجدّيّ فحسب، يُحتمل أيضاً أن يكون قرينةً على استعمال العامّ منذ البداية في الخصوص، وإن ظهر منه في نفسه غير ذلك. فهذا التشويش في التعبير هو الذي ولّد هذا الإشكال، فاحتاج إلى الدفع.
ولعلّ عبارته المتضمّنة لكلمة (قاعدة) يمكن دعوى جعلها دليلاً في المقام، بمعنى: ادّعاء مصادرة عقلائيّة في باب المحاورة، وأنّ أهل المحاورة عندما يتكلّم المتكلّم بكلامٍ موضوع لمعنىً من المعاني، ولا يُقيم قرينةً متّصلةً على خلاف الظاهر المطابق للوضع، فإنّ القاعدة في باب المحاورة عقلائيّاً تقتضي أنّ كلّ ما يذودنا عن هذا الظاهر فهو يذود على مستوى المراد الجدّيّ، ولا يذود عن المراد الاستعماليّ. ولا يبعد أن يكون مراده من (القاعدة) ذلك.
ومعه: فيكون قد جاء بدليله في باب الألفاظ، وأنّ العامّ حجّة في الباقي؛ لأنّ هذين الكلامين إذا عُرضا على أبناء العرف فإنّهم لا يتردّدون في إخراج مورد الخاصّ من تحت لواء العامّ وتقديم مورده في ظرف التنافي، فيُدَّعى: أنّ القاعدة في المقام قاعدة عقلائيّة وجدانيّة عند أبناء العرف.
والمنبّه على هذه القاعدة ـ مضافاً إلى كون الوجدان العرفيّ قاضياً بذلك ـ هي حالات الاستعمال التي تُعرض على العرف، فإنّنا لا نجدهم يتعاملون مع الخاصّ في قبال العامّ معاملة المتعارضين بالتباين والمتكاذبين في تمام المدلول ـ ولولا ذلك، أي: ولولا أنّ الخاصّ يتصرّف في مرحلة ومرتبة المراد الجدّيّ بالنسبة لخصوص مورده، ولا يتعرّض للمراد الاستعماليّ بوجهٍ ـ للزم أن يكون الاستعمال بالنسبة للباقي بعد التخصيص استعمالاً مجازيّاً، ومعه: فلا معيّن لمرتبة المجاز، فيجمل الخطاب. فحيث إنّ العرف والعقلاء لا يتعاملون معه هذه المعاملة، فإنّ هذا يكشف عن كون مبناهم وقاعدتهم قائمةً على التصرّف في المراد الجدّيّ دون الاستعماليّ.
وهذا المقدار كافٍ في مناهج الألفاظ، ولا حاجة معه إلى إقامة البراهين الثبوتيّة العقليّة، أو سلوك طريق يقتضي ذلك؛ إذ العبرة في الحجج في باب الألفاظ بما هو مسار اللّغة وأبنائها بحسب متفاهمهم العرفيّ العقلائيّ.
هذا الكلام، بهذا البيان المستخرج من بطن الكفاية، حيث لم يذكر رحمه‌الله هذا التفصيل، إن كان هو مراده رحمه‌الله، (لأنّ هذا الكلام إمّا هو مراد صاحب الكفاية رحمه‌الله، ولا نستبعد ذلك، وإمّا هو توجيه مبتكر يذبّ ويدفع عن صاحب الكفاية رحمه‌الله، وإن كنّا نقرّ ونذعن بأنّ تشويشاً ما في اللّفظ قد حصل في كلامه، وكان عليه رحمه‌الله أن يجزم نتيجة ما ذكره هو من الإشكال والدفع بعد ذلك، بأنّ العامّ مستعمل في العموم، لا أن يذكر ذلك على سبيل الإمكان). هذا الكلام مع هذا البيان لا يرد عليه ـ بحسب المنهج اللّفظيّ ـ إلّا أحد إيرادين:
1) أن يُنقض عليه بدعوىً ومصادرةٍ في مقابل مصادرته، بمعنى: العثور على حالاتٍ لا يتصرّف فيها العرف والعقلاء طبقاً لهذه القاعدة التي ذكرها، فيتعاملون مع الخاصّ المخصّص للعامّ منفصلاً عنه (الكلام أصلاً إنّما هو في المنفصل) تعامل المتعارضين، لا تعامل القرينيّة والأظهرية والجمع العرفيّ في المحصّلة.
وهذا ـ في تقديرنا ـ لا يُعبأ به؛ إذ من الواضح لدى كلّ من راجع وجدانه من أبناء اللّغة أنّ العقلاء إذا عُرض عليهما كلامان لحكيم من هذا القبيل فهم لا يتردّدون في حصر التنافي بخصوص مورد الخاصّ، دون بقيّة موارد العامّ غير المشمولة للتخصيص، وهذا واضح عند أبناء العرف، ولذلك سمّاه المحقّقون بـ الجمع العرفيّ. وإذا ما وُجد مورد خاصّ تُعومل فيه مع الكلامين تعامل المتعارضين، فالمدّعى أنّه لملابساتٍ خاصّة، لا على مستوى القاعدة، وكلامنا إنّما هو في القاعدة لا الموارد الخاصّة ذوات القرائن الخاصّة. كما لو كان اللّفظ مضموناً لحكم عقليّ، وجاء ما يخصّص هذا اللّفظ، فهو تخصيص للحكم العقليّ، ونحو ذلك.
2) أنّ كلامكم إنّما يتمّ فيما لو كان على تقدير القول بالمجازيّة لا يمكن تخريج حجّيّة العامّ في الباقي، فيُقال: إنّ المرتكز عند العرف والعقلاء على مستوى القاعدة أنّهم يرون العامّ حجّةً في الباقي، فيصبح هذا الارتكاز بحدّ نفسه قرينةً على أنّ التصرّف في خصوص المراد الجدّيّ، دون الاستعماليّ. أمّا لو أمكن تخريج حجّيّة العامّ في الباقي، حتّى بناءاً على كون الاستعمال في أداة العموم استعمالاً مجازيّاً، فحينئذٍ: يمكن الجمع بين هذا الوجدان العقلائيّ القاضي بحجّيّة العامّ في الباقي، في غير مورد التخصيص، وبين كون المخصّص المنفصل قرينة على أنّ العامّ مستعمل مجازاً في العموم.
ومن الواضح: أنّ كلام صاحب الكفاية لا يتمّ حينئذٍ؛ إذ نعود حينئذٍ إلى إمكان أن يكون مستعملاً مجازاً، وإمكان أن يكون التصرّف في خصوص المراد الجدّيّ.
هنا، المدّعى للشيخ الأعظم رحمه‌الله في تقريراته الموسومة بـ (مطارح الأنظار) أنّه يمكن تخريج حجّيّة العامّ في الباقي حتّى بناءاً على دعوى أنّ العموم مستعمل مجازاً فيه.
(وهذا سيأتي بيانه في الجهة الثانية من البحث؛ لأنّنا ذكرنا أنّ الجواب على شبهة حجّيّة العامّ في الباقي يمكن أن يكون من جهتين: الجهة الأُولى: بناءاً على أنّ العامّ غير مستعمل مجازاً في العموم. الجهة الثانية: بناءاً على أنّه مستعمل في العموم).
بالنسبة لصاحب الكفاية رحمه‌الله اختار الجواب على أساس الجهة الأُولى، وذكر بعد ذلك ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه‌الله تنزّلاً، ولم يرتضه، بل أجاب عليه.
النقطة التي انتهى إليها بيان صاحب الكفاية رحمه‌الله الآن هي أنّ كلامه إنّما يتمّ إذا لم يمكن تخريج هذا الوجدان على أساس الاستعمال المجازيّ، وهو مدّعى الشيخ الأعظم رحمه‌الله، أنّه ممكن.
والصحيح ـ كما سيأتي في الجهة الثانية ـ أنّه لا يمكن بناءاً على ذلك، لكن لا بأس بتمرير منبّه وجدانيّ في المقام، فنسأل: أنّه ما هو مراد الشارع من الخاصّ وأيّة رسالةٍ يريد توجيهها للمتلقّي؟
والجواب واضح، يريد الشارع أن يقول: عندما قال (أكرم كلّ عالم) في الجلسة الأُولى، وقال (لا تكرم العالم الفاسق ) في الجلسة الثانية: أنّه أساساً في لوح التشريع عنده هو لا يريد إكرام العالم الفاسق، فهو من أوّل الأمر لا يريد إكراماً لغير العادل من العلماء، وإلّا، بات هذا نسخاً منه وبداءاً، وكلامنا فعلاً هو في التخصيص، لا في النسخ. فنقول: إنّ البيان الأوّل للشارع صريح بحسب ظاهره في أنّ اللّفظ مستعمل فيما وُضع له قبل طروّ الخاصّ، وأنّ وجوب الإكرام منصبّ على جميع أفراد العالم، فعندما جاء الكلام الثاني أثبت أنّ مولانا لا يريد إكرام العالم إذا كان فاسقاً، أو إذا لم يكن عادلاً ـ بناءاً على عدم وجود الواسطة بين العادل والفاسق، كما هو الظاهر ـ.
فحينئذٍ نقول: إنّ التصرّف في المراد الجدّيّ يفي بغرض المولى على كلّ حال، ولا يدعوه ذلك للتصرّف في المراد الاستعماليّ. هذه هي القضيّة الأُولى.
والتصرّف في المراد الاستعماليّ وحده لا يكفيه لإخراج العالم الفاسق من تحت وجوب الإكرام؛ إذ إنّ موضوع الحجّيّة ليس هو المراد الاستعماليّ، بل المراد الجدّيّ المنكشف بأصالة التطابق بين المراد الاستعماليّ والمراد الجدّيّ.
فلا محيص لمدّعي المجازيّة إلّا أن يقول: إنّ التخصيص لمّا كان قرينةً على المجازيّة في العموم بات يدلّ على أنّ مورد الخاصّ غير مرادٍ جدّاً، وهذه نتيجة طبيعيّة.
ومعنى هذا: أنّه يدور الأمر بين تصرّفٍ واحد وبين تصرّفين، أي: بين التصرّف في خصوص الإرادة الجدّيّة، وهو ما يحفظ الاستعمال على حاله، لا ينقلب ما وقع عمّا وقع عليه، وبين أن يكون تصرّفاً في الاستعمال، وبتبعه هو تصرّف في الإرادة الجدّيّة.
ولا شكّ في أنّ المتكلّم الحكيم لا يلجأ إلى التخصيص إلّا لحكمةٍ، فيُعدّ التخصيص بعد التعميم مستوىً من مستويات الضرورة، والضرورات ـ عقلائيّاً ـ تُقدَّر بقدرها، فإذا دار الأمر بين تصرّفٍ واحد يَفي بالغرض والحكمة، وبين تصرّفين: نفس التصرّف الأوّل مع تصرّف ثانٍ، فلا شكّ في أنّ الحكمة لا تدعو إلّا إلى تصرّف واحد.
نعم، لو كان الطريق إلى هذا التصرّف الذي يلبّي الغرض والحكمة منحصراً بالتصرّف الثاني، بحيث لا يمكن الوصول إليه إلّا بالتصرّف في المراد الاستعماليّ، لكان الأمر كذلك، لكنّ المدّعى في المقام: أنّ التصرّف في المراد الجدّيّ يمكن مباشرةً ومن دون الاستطراق إليه من طريق التصرّف في المراد الاستعماليّ، والقول بعدم استعمال (كلّ) في العموم حتّى تلزم المجازيّة، بل بناءاً على ما اختاره صاحب الكفاية رحمه‌الله ـ وهو الحقّ كما سيأتي في الجهة الثاني ـ من أنّه بناءاً على المجازيّة لا يوجد جواب مقنع على الشبهة، فإنّ الحكمة حينئذٍ تقتضي أن لا يكون هنالك تصرّف في المراد الاستعماليّ.
أظنّ أنّني بهذا البيان أكون قد دافعتُ دفاعاً قويّاً عمّا أفاده صاحب الكفاية رحمه‌الله، سواء كان هذا الذي ذكرناه يمكن استخراجه من كلماته، أم كان إضافةً إليها. المهمّ أنّ ما أفاده رحمه‌الله وأفاده غيره تبعاً له، لا يمكن تتميمه بدفع ما استُشكل في بعض الكلمات.
ما نزعمه أنّ هذا البيان المتمّم يصلح دافعاً لمعظم ما استشكل به على صاحب الكفاية رحمه‌الله من دون الإطالة بالتعرّض لها والإشكال عليها.
لكنّنا كنّا قد وعدنا بأن نتعرّض لما استشكل به المحقّق الأصفهانيّ على قوله (قاعدةً).

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo