< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/12/20

بسم الله الرحمن الرحیم

البحث في المرحلة الثانية
وهي معقودة لتخرج حجّيّة العامّ في الباقي بناءاً على كون العامّ مستعمَلاً مجازاً في العموم، وهو ما نُسب إلى كثير من أصوليّي العامّة القدماء. وإلى بعضٍ من علمائنا، كالمحقّق القمّيّ رحمه‌الله.
وفي هذه المرحلة انقسمت آراء المحقّقين، فمنهم من ذهب إلى أنّه بناءاً على المجازيّة فلا يمكن تخريج حجّيّة العامّ في الباقي.
وفي قبال ذلك ذهب جماعة إلى أنّه حتّى لو قلنا بأنّ الاستعمال في مورد المخصّصات المنفصلة مجازيّ، فإنّه مع ذلك يمكن القول بحجّيّة العامّ.
أمّا القائلون بعدم الحجّيّة على هذا التقدير، فهم ذاهبون إلى ما يعتبرونه مقتضى القاعدة في هذا المجال، وأنّ القرينة الصارفة عن الاستعمال الحقيقيّ المتمثّلة في المخصّص المنفصل قد أثبتت أنّ العامّ لم يُستعمل في العموم، وبناءاً على ذلك: فليس هناك ما يدلّ على رتبة الاستعمال في المجاز، من كونها جميع المراتب التي لم يشملها الخاصّ أو بعضها؛ إذ قرينة المجاز المتمثّلة في المخصّص المنفصل قد أثبتت أنّ الاستعمال مجازيّ، ولا قرينة أُخرى ثمّة تعيّن القدر الذي استُعمل فيه العموم في المجاز، فيتساوى حينئذٍ مراتبه وأفراده في إمكانيّة أن يكون الاستعمال فيها مجازيّاً. وحينئذٍ: لا محيص لنا عن المصير إلى دعوى الإجمال؛ إذ يُقصد من المجازيّة في المقام أنّ الموضوع للكلّ قد استُعمل مجازاً في البعض. والقرينة الصارفة عن كون الاستعمال حقيقيّاً، والمتمثّلة في المخصّص، غاية دورها هو الصرف، ولا قرينة على التعيين بعد ذلك.
ولا يُدّعى في مثل المقام زيادة أو قلّة مؤونة في المجاز؛ إذ بعد أن ثبت أنّ العامّ لم يُستعمل فيما وُضع له، بل في جزئه وبعضه، فتتساوى من حيث مؤونة المجاز أبعاضه في الاستعمال المذكور، ومعه: لا مرجّح لأحدها على الآخر.
هذا الكلام قد يُبيَّن بعبارات أُخرى، لا نجد داعياً للتعرّض لها، وهي تعبيرات متعدّدة والمغزى منها واحد.
وهذا ما ذهب إليه صاحب الكفاية رحمه‌الله، والمحقّق العراقيّ رحمه‌الله، ونُسب في تقريرات الشهيد الصدر رحمه‌الله إلى عموم المتأخّرين عنه، مع أنّ النسبة غير صحيحة، كما ربما يتّضح قريباً.
ويزعم أصحاب هذا القول أنّ ما يذكرونه من كلامٍ لا يحتاج إلى دليلٍ خاصّ، بل يكفيهم فيه مقتضى القاعدة، من كون الاستعمال قد ثبت أنّه مجازيّ ـ بناءاً على القول بالمجاز ـ، والقرينة الصارفة متحقّقة، والقرينة المعيِّنة للمرتبة مفقودة. وهذا هو المقصود من مقتضى القاعدة. فيكون الحمل على بعض مراتب المجاز دون غيرها ترجيحاً بلا مرجّح، بحسب تعابير صاحب الكفاية رحمه‌الله.
فلسنا بحاجة إلى إقامة دليلٍ لهم، كما أنّنا لسنا بحاجةٍ بشكلٍ مباشر للردّ على مقالتهم، ويكفينا في الردّ ـ إن أمكن ـ نفس ما أقامه المحقّقون القائلون بالاستعمال المجازيّ أو المعالِجون لشبهة عدم حجّيّة العامّ في الباقي مع تسليم الاستعمال المجازيّ، وإن لم يكونوا قائلين بالمجازيّة، كالشيخ الأعظم رحمه‌الله؛ إذ المتصدّون لعلاج هذه الشبهة على فريقين:
أمّا الوجه المنسوب إلى القائلين بالاستعمال المجازيّ، كمعظم أصوليّي العامّة، وكالمحقّق القمّي رحمه‌الله عندنا، وربما غيره، فإنّهم ذكروا أنّ المجاز واستعمال الكلّ في البعض له مراتب؛ فإنّ الأبعاض متعدّدة متكثّرة (سواء في العموم الاستغراقيّ أم المجموعيّ)، وحيث إنّ قرينة المجاز المتمثّلة بالمخصّص المنفصل قد دفعت الاستعمال عن كونه في المعنى الحقيقيّ، أي: في الكلّ، فإنّ الأقرب من هذه المراتب الأبعاض إلى الكلّ هو كلّ الأبعاض التي لم يشملها المخصّص، فيُحمل الاستعمال المجازيّ على الأقرب. وهي حجّة القائلين بالفعل بالاستعمال المجازيّ.
هذا الكلام أجاب عليه المحقّقون، وبات هذا الجواب مدرسيّاً، وهو جواب صحيح لا غبار عليه، حاصله: أنّ الكبرى في المقام صحيحة، وأمّا الصغرى فهي ليست صحيحة في المقام، فهم فرّعوا صغرىً على كبرى أجنبيّة عن التفريع.
والمقصود من الكبرى وهو أنّ المعنى المجازيّ يُحمل على الأقرب، هذا الكلام جيّد ومتين، بعد صرفه عن المعنى الحقيقيّ بالقرينة الصارفة، لكنّ ما فُرّع عليه في المقام غير صحيح؛ إذ حُملت الأقربيّة على الأقربيّة الصنفيّة، والخارجيّة، في وعاء الخارج والمصاديق، سواء بعنوان أفراد أم بعنوان أصناف، بينما هذه القاعدة الصحيحة في محلّها يُراد منها الأقرب على مستوى العلقة بين اللّفظ والمعنى، بمعنى: أنّ اللّفظ عُلقته الوضعيّة الأصليّة هي بالمعنى الحقيقيّ، إذا كانت هنالك علقة بين اللّفظ وبين معنىً من المعاني المجازيّة تتفرّع صحّة الاستعمال فيه من الأساس على المناسبة بينه وبين المعنى الحقيقيّ، بحيث أحدث هذا زيادة أُنسٍ وعلقةٍ ثانويّة بين اللّفظ ومعنىً من المعاني المجازيّة، كأن كثر استعمال اللّفظ في هذا المعنى المجازيّ، حتى بات مجازاً مشهوريّاً، فحينئذٍ: هذا الكلام يكون صحيحاً؛ إذ العبرة بالظهور في باب الحجج، أمّا وقد صرفتنا القرينة عن الاستعمال في المعنى الحقيقيّ، وهناك استعمال شائع وأنس بين اللّفظ وبين جزء من أجزاء المعنى، أو معنىً له مناسبة أكثر من غيره بالمعنى (هذا الثاني خارج عن محلّ كلامنا، لكنّ القاعدة كلّيّة)، فهنا يُقال: إنّ اللّفظ ظاهر في المجاز الأقرب على مستوى العلقة بين اللّفظ والمعنى ذي العلاقة بالمعنى الموضوع له أو الأكثر علاقةً، فحينئذٍ: لا بأس بالحمل على المجاز الأقرب بهذا المعنى.
لكنّ أصحاب هذا الوجه حملوه على الأقرب من حيث التطبيق الخارجيّ، لا على الأقرب من حيث العلقة اللّفظيّة.
توضيح ذلك: في مثل (أكرم كلّ عالم) مقتضى الاستعمال الحقيقيّ فيه هو وجوب إكرام كلّ عالم بجميع أصنافه، نحويّين كانوا أم فقهاء أم متكلّمين، عدولاً أم فسّاقاً، وهكذا.. جاء مخصّص أخرج العالم النحويّ من وجوب الإكرام، بقي الباقي: عالم فقيه، وآخر متكلّم، وهكذا.. المفروض: أنّ الاستعمال بات مجازيّاً، والدلالة التضمّنيّة حجّة في ضمن الدلالة المطابقيّة، نسبة العالم الموصوف بالفقاهة، والعالم الموصوف بالمتكلّم، متساوية، كما أنّ المجاز فيه مؤونة إذا أُريد العالم بجميع هذه الأصناف، أيضاً فيه مؤونة إذا أُريد العالم في صنف خاصّ من هذه الأصناف، ولا دليل على الاستعمال في أحدها، لا يوجد تماسّ لفظيّ بين العالم وخصوص العالم الأديب، أو العالم وخصوص العالم الفقيه، وهكذا..، فالأقربيّة الخارجيّة المصداقيّة ليست هي الميزان في حمل اللّفظ على المعنى، بل الأقربيّة بلحاظ الأنس بين اللّفظ والمعنى الأقرب إلى المعنى الحقيقيّ، والمفروض أنّه مفقود في المقام، فيجمل الخطاب.
طبعاً هذا الإشكال على هذا الوجه بهذا المقدار من البيان إشكال صحيح لا غبار عليه. وهذا الوجه مع الإشكال عليه ذُكر باقتضابٍ شديد في الكلمات، وبعضهم أهمله.
يمكن تعميق هذا الوجه بحيث يندفع عنه الإشكال. لكنّنا هذا يجعلنا نصير إلى الوجه الثاني. فنقول:
الشيخ الأعظم رحمه‌الله لا يختار أنّ المخصّص المنفصل يُفضي إلى المجازيّة، كما أوهمت بعض التقارير (للأسف، هذا التشويش في بعض التقارير ينشأ في العادة من عدم المراجعة إلى المصادر الأصليّة)، بل المستفاد من كلماته في مطارح الأنظار، وهو تقريره في مباحث الألفاظ، أنّه لا يرى أنّ المخصّص المنفصل يصرف الاستعمال عن كونه استعمالاً حقيقيّاً، لكنّه على تقدير تسليم ذلك تنزّلاً، وأنّ الاستعمال مجازيّ، فإنّه قد صار إلى تعيين حجّيّة المجاز في تمام الباقي، أي: حجّيّة العامّ في الباقي بعد التخصيص، بوجهٍ ابتكره، فنُسب إليه في المدرسة الأصوليّة، وخلاصة هذا الوجه:
أنّ العامّ يدلّ على تمام ما ينضوي تحته من أفرادٍ وأصناف، ويدلّ عليها، فعندما جاء التخصيص المنفصل وأخرج فرداً من أفراد العامّ، أو صنفاً من أصنافه، فإنّه في الحقيقة لا يمكن القول بأنّ العامّ حجّة في مورد التخصيص؛ لأنّ العامّ بناءاً على المجازيّة لم يُستعمل بحيث يشمل مورد التخصيص، ولكن، لا ربط بين العنوان الوارد في المخصّص، سواء كان عنواناً فرديّاً، كاستثناء زيد، أم صنفيّاً، كاستثناء الفاسق من العلماء، وبين بقيّة الأفراد والأصناف، بل إنّ القرينة الصارفة في المقام إنّما تصرف بقدر ما شملت، فيبقى العامّ لا صارف له عن الشمول لبقيّة الأفراد، وإذا ما شككنا، وكلامنا في المخصّص المنفصل، المتأخّر زماناً عن العامّ، فهو في الحقيقة شكّ في التخصيص الزائد، والأصل عدمه. أي: لا يخلو أمرنا إمّا أن نجزم بعدم التخصيص الزائد، فلا نحتاج إلى الأصل لنفيه، وإمّا أن لا نجزم بالتخصيص الزائد فنحتاج إلى الأصل لنفيه، وعلى كلا التقديرين يَنتج حجّيّة العامّ في الباقي.
هذا هو المقدار المبيَّن والمذكور في كلمات الشيخ.
وهذا الكلام استشكل فيه صاحب الكفاية رحمه‌الله، قال: إنّ الشيخ الأعظم انتقل إلى مرحلة المانع فنفاه بالأصل، يعني: الشكّ في وجود تخصيص زائد، فنفاه بالأصل، بينما مشكلتنا في حجّيّة العامّ في الباقي هي في فقدان المقتضي للحجّيّة في الباقي.
توضيح ذلك: أنّ الكلام المقتضب للشيخ رحمه‌الله قد تضمّن أنّ حجّيّة العامّ في الباقي مرهونة بوجود مخصّص غير المخصّص الثابت بالوجدان، الذي أخرج الفاسق ـ مثلاً ـ، فما لم نجزم بانتفاء التخصيص الزائد، نشكّ، نستصحب العدم، وهذا هو معنى الأصل في المقام، وهو أصالة عدم التخصيص (طبعاً، هل هذا أصل عمليّ يمكن التمسّك به أم هو أصل مثبت حتى يُثبت استعماله مجازاً في الباقي، وهو لازم غير شرعيّ، هذا فيه بحث، ولنغضّ النظر عنه هنا). بينما يقول صاحب الكفاية رحمه‌الله: إنّ الانتقال إلى مرحلة المانع أو عدم المانع، عدم التخصيص الزائد، نفيه بالوجدان، أو نفيه بالأصل، إنّما يُصار إليها فيما لو كان لولا المانع لدينا دلالة على شمول الاستعمال المجازيّ في العامّ لجميع المراتب، أي: جميع الأفراد والأصناف غير التي شملها المخصّص، والحال أنّ المقتضي أصلاً غير موجود، بحسب تعبير السيّد الخوئي رحمه‌الله الذي يصلح توضيحاً لكلام صاحب الكفاية، يقول: إنّ الدالّ على المراتب المستعمل فيها إمّا الوضع واستعمال اللّفظ فيما وُضع له، والمفروض أنّ الاستعمال فيه مجازيّ، وليس حقيقيّاً، وإمّا القرينة المعيِّنة للاستعمال، بعد أن زُوي الاستعمال عن كونه استعمالاً حقيقيّاً، ولا قرينة ثمّة في المقام، إذاً فلا دالّ على الاستعمال في تمام العناوين والأفراد غير التي شملها المخصّص، فالمقتضي معدوم، وإذا كان معدوماً تتساوى الأصناف، وكما يُحتمل أن يكون مستعملاً مجازاً في خصوص الفقيه ولم يُذكر، يُحتمل أيضاً أن يكون مستعملاً مجازاً في خصوص المتكلّم ولم يُذكر، فهذا الاستعمال المجازيّ لم تُبيَّن وجهته، وهذا معنى إجمال الخطاب، وهذا معنى فقدان المقتضي. وهنا يكرّر صاحب الكفاية رحمه‌الله، يقول: وبناءاً على ذلك يكون حمل المجاز على بعض مراتبه، ولو المراتب العليا، غير ما شمله المخصّص، دون البعض، ترجيحاً بلا مرجّح.
هذه هي خلاصة جواب صاحب الكفاية رحمه‌الله.
هذا الجواب بهذا المقدار ارتضاه جملة من المحقّقين، كالمحقّق العراقي والسيّد الخوئي* وغيرهما، ولكن ليس كما يُنسب في كلمات الشهيد الصدر رحمه‌الله إلى عموم المتأخّرين عن صاحب الكفاية رحمه‌الله، ما يوهمنا بأنّه قد ابتكر وجهاً جديداً لم يُسبق إليه؛ إذ وجدنا المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله ينتصر للشيخ ويُجيب أستاذه صاحب الكفاية، ووجدنا المحقّق النائيني رحمه‌الله أيضاً كذلك، ووجدنا أيضاً محقّقين بعدهما أيضاً ينتصرون له، فالمتأخّرون عن الشيخ وصاحب الكفاية ينقسمون إلى قسمين في هذا المجال، وذكروا وجوهاً ينتصرون بها للشيخ رحمه‌الله، وجعلوها تعميقاً وتفسيراً لكلامه. لا أقلّ بعضهم كذلك.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo