< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/01/16

بسم الله الرحمن الرحیم

الكلام في الموقف السابع:
وهو معقود لمعالجة مسألةٍ مهمّة جدّاً وعامّة البلوى في الفقه، وهي: التمسّك بالعامّ في الشبهات.
وقبل الدخول إلى صلب البحث الذي اعتاد الأصوليّون أن يبحثوا عنه، لا بدّ من تقديم مقدّمتين:
المقدّمة الأُولى: في بيان المصطلح في الشبهات.
يتردّد هنا في مختلف مواضع علم الأصول، اللّفظيّة والعمليّة، وفي الفقه كثيراً، عدّة اصطلاحات للشبهة في الدليل اللّفظيّ، والمهمّ في هذا المجال هو بيان المراد بدقّة من هذه المصطلحات؛ إذ تارةً تُطلق الشبهة في مورد الأحكام، فيُقال: الشبهة الحكميّة، وأُخرى تُطلق في مورد موضوعات الأحكام، فيُقال: الشبهة الموضوعيّة، وثالثةً تُطلق الشبهة ويُعبّر عنها بالشبهة المفهوميّة، ورابعةً يُعبَّر عنها بالشبهة المصداقيّة.
أمّا الشبهة الحكميّة، فالمصطلح الشائع لها عند أهل الفنّ أنّه يُراد منها الشبهة في الحكم الشرعيّ، عندما نشكّ في وجود حكمٍ شرعيّ خاصّ في موردٍ من الموارد، بعد الفراغ عن أنّه واقعاً لا تخلو واقعة من حكم، فحيث يكون شكّنا في الحكم الشرعيّ إمّا في أصل تشريع الحكم المعيَّن، أو في بقائه في مرحلة البقاء، حيث يكون الشكّ من جهة التشريع، كموارد الشكّ في النسخ، فهذه الشبهة يُقال لها: شبهة حكميّة. والسبب في التسمية واضح؛ إذ الشكّ في جعل الحكم، أو بقاء الحكم بسبب الشكّ في نسخ الشارع له، أو في سعة وضيق الحكم بسببٍ من الأسباب، أيّاً كان السبب. هنا، كلّما كان الشكّ راجعاً إلى تشريع الشارع للحكم، حدوثاً أو بقاءاً (البقاء الذي له علاقة بالتشريع)، فالشبهة حكميّة، ومن الواضح: أنّ المرجع دائماً في حلّ الشبهة لا بدّ وأن يكون هو الشارع الأقدس، كما هو واضح؛ إذ لا يُبرم ولا يحلّ في هذا المجال إلّا المشرّع.
هذا هو الاصطلاح الشائع في الشبهة الحكميّة.
وفي قبالها، توجد الشبهة الموضوعيّة.
لكن قبل الانتقال إلى الشبهة الموضوعيّة، لا بدّ من الالتفات إلى أنّ هذا المصطلح للشبهة الحكميّة يمكن أن نعبّر عنه بالشبهة الحكميّة بالمعنى الأخصّ؛ لأنّه ربما نواجه حين المراجعة للكتب الفقهيّة والأصوليّة، وبالأخصّ الفقهيّة، توسعةً لهذا المصطلح؛ إذ تارةً نعرّف الشبهة الحكميّة بأنّها الاشتباه في الحكم الراجع إلى مقام التشريع للحكم، وهو ما تقدّم الحديث عنه. وأُخرى نعمّم الشبهة الحكميّة إلى كلّ ما يرتبط بالقرار الشرعيّ للشارع، فيُعمَّم لغير جهة الحكم الشرعيّ، ويتجاوزه إلى موضوعه، حيث يكون مرجع الشكّ أمراً يرتبط بقرار الشارع.
توضيح ذلك: أنّه تارةً يشرّع الشارع حكماً ويصبّه على موضوع، ويكون الموضوع مقتنصاً من العرف اللّغويّ. ومن الواضح عندنا أنّ الشارع ليس لديه مصطلح خاصّ في هذا الموضوع، كما في كلمة (الصعيد) في آية التيمّم، أو (الماء) حيث يكون موضوعاً لحكم شرعيّ كما في باب الوضوء والغسل، فالموضوع هنا استعمله الشارع بما له من المعنى اللّغويّ والعرفيّ.
وأُخرى: يستخدم الشارع موضوعاً للحكم الشرعيّ، ونحن نجزم أنّ له فيه مصطلحاً خاصّاً، وهنا، تارةً نعرف مصطلحه، وأُخرى نشكّ في مصطلحه، قلّةً وكثرةً، كالشكّ في أنّ العادل في اصطلاح الشارع هل هو خصوص المجتنب عن الكبائر، أم المجتنب عن الأعمّ من الصغائر والكبائر، أم مجتنب الكبائر الذي لا يصرّ على الصغائر، وثالثة نشكّ في مصطلحه لدورانه بين المتباينين، كالشكّ ـ مثلاً ـ في لفظ القرء أنّه هل أُريد منه في اصطلاح الشارع هو الطهر أم مقابله، ورابعةً نشكّ في أنّ له مصطلحاً أصلاً، (وفي هذه الحالة الرابعة، الأصالة العدم). فمرجع الشكّ هنا إلى قرار الشارع الاصطلاحيّ، فلا يكون المرجع في حلّ هذا الاشتباه إلّا الشارع نفسه. فلا بدّ من وضع اليد على مورد الشبهة الشرعيّة في الموضوع، بالرجوع إلى أدلّة الاستنباط، من الآيات والروايات، لنرى أنّ هذا المصطلح المشكوك هل بُيّن أم لا؟ ولا يمكن بالرجوع إلى مفردات اللّغة حلّ هذا الاشتباه ورفع هذا الشكّ.
فربما عُبّر عن هذا في بعض الكلمات بالشبهة الحكميّة، وهذا نسمّيه بالشبهة الحكميّة بالمعنى الأعمّ، وقد نجعله من الأخطاء الشائعة. لا مشاحّة في الاصطلاح.
ومراد أصحاب هذا الاصطلاح عندما يُطلقونه أنّ كلّ اشتباه مرجعه الشارع فهو شبهة حكميّة، سواء كان الاشتباه في نفس الحكم الشرعيّ، أم في موضوع الحكم الشرعيّ الذي مرجع حلّه هو الشارع. لكنّ الشائع في مصطلح الشبهة الحكميّة هو المعنى الأخصّ المتقدّم، أي: الشبهة الجارية في جعل الحكم، ويُقابلها الشبهة الموضوعيّة، والشبهة الموضوعيّة حينئذٍ على نحوين:
أ. الشبهة الموضوعيّة التي يكون منشؤها الشكّ في الموضوع العرفيّ سعةً وضيقاً، كما لو شكّ في أنّ العرف هل وضع كلمة (الصعيد) لخصوص التراب من وجه الأرض أو لمطلق وجه الأرض الأعمّ من التراب والحجر، وهكذا.. وهذا له أمثلة شائعة. وهذا ليس شكّاً في المصداق، بل هو شكّ في المفهوم، ومن الواضح هنا: أنّ المرجعيّة هنا في حلّ الاشتباه هو العرف الذي خاطبتنا به الشريعة المقدّسة. فلا شكّ لدينا هنا في أنّ الشارع استعمل اللّفظ بما له من المعنى العرفيّ، وإنّما نشكّ في أنّ المعنى العرفيّ ما هو سعةً وضيقاً، أو قد يكون من الشكّ والدوران بين المتباينين. وتسمّى شبهة موضوعيّة لأنّها جارية في موضوع الحكم الشرعيّ.
ب. الشبهة الموضوعيّة التي يكون سبب الشكّ فيها الشكّ في اصطلاح الشارع.
وهنا تتداخل الاصطلاحات، إن أخذنا الشبهة الحكميّة بالمعنى الأخصّ، فهذه موضوعيّة، وليست حكميّة. وإن أخذناها بالمعنى الأعمّ، فهذا القسم من الشبهة الموضوعيّة داخل حينئذٍ في الشبهة الحكميّة، فتتمحّض الشبهة الموضوعيّة في خصوص الموضوعات العرفيّة حينئذٍ.
لكنّ المائز لمّا كان مائزاً موضوعيّاً، فلنُرِحْ أنفسنا، ولنقل: الشبهة الحكميّة هي الجارية في الحكم، والموضوعيّة هي الجارية في الموضوع، ثمّ هذه على قسمين، أحدهما: يكون سبب الشكّ فيه المواضعة العرفيّة، والآخر: سبب الشكّ فيه هو المواضعة الشرعيّة.
القسم الثالث من الشبهات: الشبهة المفهوميّة، وهي عندما يكون الشكّ شكّاً في المفهوم، وهذا نواجهه في كلٍّ من الشبهة الحكميّة والشبهة الموضوعيّة، فلو شككت ـ مثلاً ـ في أنّ جملة الشرط موضوعة للانتفاء عند الانتفاء، فهذه شبهة حكميّة، لكنّها شبهة حكميّة مفهوميّة، لأنّني أشكّ في أنّه هل وُضعت أداة الشرط للدلالة على انتفاء سنخ الحكم عند الانتفاء أم لا، وهذا بحث لغويّ اكتشافيّ، وليس بحثاً فقهيّاً، وهو شبهة مفهوميّة، لا مصداقيّة؛ لأنّ الشكّ ليس في كون (إن) ـ مثلاً ـ أداة شرط أو ليست أداة شرط، بل في أنّها موضوعة لانتفاء السنخ أم لا. وكذلك عندما أشكّ في أنّ صيغة الأمر هل هي موضوعة للوجوب أو لمطلق الطلب، هذه شبهة مفهوميّة.
وكذلك تجري الشبهة المفهوميّة في موضوع الحكم، كالشكّ في مدلول لفظ (الصعيد) لغةً وعرفاً، فهي شبهة مفهوميّة وموضوعيّة.
وفي مقابل الشبهة المفهوميّة: الشبهة المصداقيّة. وهنا لا بدّ من التنبيه إلى أنّه كلّما كان لدينا شكّ في المفهوم فهو يفضي إلى الشكّ في المصداق، فعندما نشكّ ـ مثلاً ـ في أنّ العادل موضوع للأعمّ أو للأخصّ، فإنّ هذا سيؤدّي إلى الشكّ في أنّ زيداً الذي أعرف أنّه مرتكب للصغيرة وغير مرتكب للكبيرة عادل أو ليس بعادل. لكنّ سبب الشكّ ليس هو التردّد في تشخيص وضعه خارجاً، بل هو المفهوم ومصطلح الشارع؛ إذ لا تردّد لدينا في الموضوع الخارجيّ، وأنّه هل يرتكب الكبائر أو لا يرتكبها، هل يرتكب الصغائر أو لا يرتكبها. فدائماً الشبهة المفهوميّة تُفضي إلى الشكّ في المصداق، لكن ليس سبب الشكّ الشكّ في الصدق الخارجيّ، بل سببه هو سعة المفهوم أو ضيقه. هذا في الشبهة المفهوميّة.
وفي مقابلها الشبهة المصداقيّة، وفي الشبهة المصداقيّة المفاهيم واضحة، ولا يوجد شكّ فيها، كما في مثال (الصعيد) الذي يُعلم بأنّه عبارة عن مطلق وجه الأرض، فجيء له بحجرٍ غريب، فشكّ في أنّه من المعادن أم من الأحجار؟ فهنا، المفهوم واضح، وإنّما رأس الخيط وحدّ الشكّ هو تشخيص الواقع الخارجيّ سعةً وضيقاً. فحيث يكون الشكّ محدوداً بالتردّد في الانضواء تحت الدليل الراجع هذا التردّد إلى تشخيص الواقع الخارجيّ دون أيّ مساس بالحدود والمفاهيم الكلّيّة، تُسمّى الشبهة شبهة مصداقيّة.
وهذه تُتصوّر بشكلٍ واضح في موضوعات الأحكام ومتعلّقاتها؛ إذ تارةً أشكّ في أنّ فلاناً عالم أو ليس بعالم، مع وضوح معنى العالم ومفهومه، وأُخرى أشكّ في المتعلّق، في (أكرم) وأنّ تقديم الماء له هل يُعدّ إكراماً له أم لا، هذا يختلف بحسب اختلاف الأعراف، فبعض المصاديق قد تكون تبجيلاً وتعظيماً وإكراماً في بعض الأعراف، لكنّها هي بنفسها تكون تعدّياً وتجاوزاً للأدب في أعرافٍ أُخرى.
من هنا، الشبهة المصداقيّة تتعدّد في جريانها.
بل قد يُقال: إنّ الشبهة المصداقيّة ترتقي إلى الحكم نفسه، فحيث نشكّ في أنّ أداةً من الأدوات ـ مثلاً ـ يصدق عليها أنّها أداة شرط أو لا يصدق، لكنّ هذا اشتباه محض؛ لأنّه لا وجه للشكّ هنا إلّا الشكّ في المواضعة، فهي لا محالة شبهة مفهوميّة. وقد تختلط الشبهة المفهوميّة بالشبهة المصداقيّة في كثيرٍ من الكلمات وذلك من جهة عدم الدقّة في منشأ الشكّ. فليُتنبّه.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo