< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/02/01

بسم الله الرحمن الرحیم

وصل الكلام إلى التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لمخصّصه المنفصل الدائر بين الأقلّ والأكثر.
وهو العنوان الرابع في المقام الثالث.
وهذا العنوان غاية في الأهمّيّة على مستوى الثمرة الفقهيّة؛ إذ كثيراً ما يُبتلى في الفقه بالشبهات المصداقيّة التي تكون دائرة على مستوى المصداق بين كونها مصداقاً للعامّ أو للمخصّص. وقد عدّد الفقهاء في الفقه كثيراً من الموارد بالمناسبات المختلفة التي قيل إنّها تبتني على هذا البحث.
من هنا، لا بدّ من عقد الحديث فيه بما يشفي الغليل.
نُسب إلى مشهور المتقدّمين أنّهم قائلون بحجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص، وسبب النسبة ليس تصريحاً لهم بذلك، بل فتواهم في جملةٍ من الفروع التي قيل: إنّ الفتوى فيها تبتني على هذا المبنى.
وعلى هذا الغرار نُسب أيضاً إلى المحقّق اليزدي رحمه‌الله أنّه ـ منفرداً من بين متأخّري المتأخّرين ـ ذاهب إلى هذا المبنى نتيجة ذهابه في غير واحدٍ من فروع العروة إلى ما قيل إنّه لا تخريج فقهيّ له إلّا على القول بحجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص، وإن كان هذا الكلام برمّته محلّ نقاش، كما صرّح السيّد الخوئي رحمه‌الله، منكراً ما نُسب إلى المشهور ومستنكراً ما نُسب إلى صاحب العروة. زاعماً أنّ الفتاوى التي بسببها حصلت النسبة قابلة للتخريج على مبانٍ أُخرى، بل صرّح بأنّ صاحب العروة في كتاب النكاح في مناسبةٍ تصلح للانطباق على محلّ الكلام، صرّح بأنّ فتواه لا تبتني على التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة. وهذا كلام لا يعنينا كثيراً كأصوليّين. والشهرة لا تأثير لها في مثل هذه الأبحاث المبنيّة على الاجتهاد.
في المقابل، ذهب مشهور المتأخّرين، بل عمومهم، وبالأخصّ: متأخّرو المتأخّرين الذين باتوا يتعرّضون لهذا البحث إلى القول بعدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص، وإن أثبت جماعةً منهم حكم العامّ تمسّكاً بالأصل.
لكنّ الكلام الآن ليس في إجراء الحكم، بل البحث إنّما هو في الانضواء تحت الموضوع ليشمله الدليل الاجتهاديّ.
وبين هذا وذاك، ذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله ومن تبعه إلى التفصيل بين المخصّص المنفصل اللّفظيّ، والمخصّص اللّبّي الذي يكون في قوّة المخصّص المنفصل؛ إذ ربما كان المخصّص اللّبّي بحكم القرينة المتّصلة نتيجة بداهته واحتفافه بالكلام في مقام التخاطب، وهذا من الواضح أنّه بحكم القرينة اللّفظيّة المتّصلة؛ لأنّه يصيّر الدليل من قبيل ضيّق فم الركيّة، فذهب رحمه‌الله إلى عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل اللّفظيّ، وإلى جواز التمسّك به في المخصّص المنفصل اللّبّيّ.
ما يستدعي منّا أن نبحث هذا البحث على مرحلتين:
المرحلة الاُولى: في المخصّص المنفصل اللّفظيّ.
المرحلة الثانية: في صحّة أو عدم صحّة تفصيل المحقّق صاحب الكفاية رحمه‌الله.
أمّا البحث في المرحلة الأُولى:
فخلاصة ما يُفاد في المقام أنّه كما قلتم بحجّيّة العامّ في الشبهة المفهوميّة فيما لو كان الفرد مشكوك الانضواء تحت الخاصّ فيها، ومردّداً بين الأقلّ والأكثر، فإنّنا نقول به في الشبهة المصداقيّة؛ إذ من الواضح أنّنا أمام عامّ قد اكتمل بيانه في مجلس التخاطب، وبات موضوعاً تامّاً للحجّيّة، وأمام خاصٍّ جاء منفصلاً، ولقرينيّته أو أقوائيّته في الظهور، فإنّه يُسقط العامّ عن الحجّيّة، لكنّه من الواضح: أنّ إسقاطه للعامّ عن الحجّيّة لا يكون إلّا بقدر بيانيّته بما هو بيان فيه، وحيث إنّ العامّ ـ كما تقدّم في الشبهة المفهوميّة ـ أُخذ قنطرةً لموارده، وليس موضوع الحكم الكلّيّ بما هو هو، بل بما هو مرآة لأفراده، كما تقدّم، فمن الواضح: أنّ حجّيّته بقدر انعكاس الدلالة على الأفراد، بلحاظ مدلوله، وكنّا نقول هناك: إنّ مرتكب الصغير لا يعكسه الخاصّ المجمل مفهوماً، وهو مصداق بالوجدان للعامّ، فالخاصّ ليس حجّةً فيه، وهو حتماً لا يُخرجه عن كونه عالماً مصداقاً لـ أكرم كلّ عالم، فيكون العامّ حجّةً فيه.
فقيل: إنّ هذا الكلام بعينه نقوله في المقام: لا شكّ في أنّ الفرد المشكوك المصداقيّة للخاصّ هو مصداق للعامّ بحسب ظهوره الذاتيّ؛ إذ الشكّ في مصداقيّته للخاصّ (لا تكرم العالم الفاسق) لا يُخرجه عن كونه مصداقاً للعامّ، لا يُخرجه عن العالِميّة، فهو مصداق للعامّ الحجّة، القائل: (أكرم كلّ عالم)، وهو مشكوك المصداقيّة للمفهوم المبيَّن، وغير مجمل على مستوى المفهوم، لكنّنا نشكّ في واقعه الخارجيّ أنّه ارتكب المفسّق أم لا، فنشكّ في مصداقيّته للخاصّ، فلا يجوز ولا يصحّ التمسّك بالخاصّ لجعله شاملاً له؛ ذلك أنّ الحكم لا يُثبت موضوعه، وهو مشكوك أنّه من مصاديق الموضوع، كما هو واضح.
وبعبارةٍ أُخرى: إنّ الحكم ينحلّ، على مستوى الحكم الفعليّ، بعدد مصاديق الموضوع في الخارج، زيد أحرزنا علمه فهو مصداق للعامّ، وأحرزنا فسقه، فهو مصداق للخاصّ، فهو مصداق للحجّة الأقوى في دلالتها، مصداق للحجّة القرينة، فلا يمكن القول بشمول العامّ له بعد شمول الخاصّ له. وأمّا عمرو، فنشكّ في وجود حكمٍ يقضي بالمنع من إكرامه لأنّنا نشكّ في أنّه ارتكب ما يقتضي فسقه على مستوى المصداق الخارجيّ، وحينئذٍ: فنشكّ في شمول الخاصّ له، فلا يصحّ التمسّك بالخاصّ؛ لأنّ الخاصّ يُثبت الحرمة على تقدير ثبوت الموضوع فعلاً في الخارج. وأمّا العامّ، فهو يشمله؛ لأنّ العامّ يشمل كلّ عالم، ونحن لا شبهة لدينا في علمه، فهو مصداق للعامّ، والحجّة لا تدفعها إلّا الحجّة، إمّا الموازية، أو الأقوى.
فما دام الخاصّ الذي وُصف بأنّه حجّة أقوى، وهو كذلك، ليس أقوى في شموله لهذا المصداق، بل هو أقوى في المورد الذي أحرزنا شموله له، وهو المصداق الأوّل في مثالنا السابق، زيد، فحينئذٍ: وإن كان عنواناً هو حجّة، لكنّ الحجّيّة العنوانيّة لا تكفي، بل الحجّيّة المعنونة هي التي تقدَّم على الحجّيّة الفعليّة المعنونة في العامّ، وهو واقع العالم الخارجيّ الذي شمله العامّ. ومن الواضح جدّاً: أنّه في عمرو لا نُحرز وجود الحجّيّة لـ (لا تكرم العالم الفاسق) على مستوى المعنون الخارجيّ، وحينئذٍ: لا تُدفع الحجّة باللّاحجّة في هذا المورد.
نكتة هذا البيان أن نقايس بين الخاصّ بما هو حجّة فعليّة في المورد، في المصداق الخارجيّ، وبين العامّ كذلك. نحن أمام عامٍّ يشمل المقام جزماً، وأمام خاصٍّ لا يشمل المقام جزماً، فلا تُدفع حجّيّة الحجّة بحجّيّة مشكوك الحجّيّة في المقام.
هذه المقايسة نتجت عن النظر إلى الواقع الخارجيّ.
هذا الكلام الذي هو توضيح ما بيّنه صاحب الكفاية رحمه‌الله وجماعة من القائلين بحجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة لمخصّصه اللّفظيّ المنفصل المردّد بين الأقلّ والأكثر.
أجاب صاحب الكفاية رحمه‌الله عليه، وارتُضي هذا الجواب من أكثر الأصوليّين، وإن أُوضح وهُمّش وعُلّق عليه، بما حاصله:
إنّ الكلام السابق يحتوي على مغالطة، حيث أغفل صاحبه نكتةً لا يمكن إغفالها، ذلك أنّ العبرة في المقايسة بين الحجّتين بالحجّة الفعليّة، والحجّة الفعليّة هي النظر إلى العامّ بما هو حجّة بعد ورود وطروّ الخاصّ، لا الحجّة التي كان يتّصف ويتحلّى بها قبل طروّ الخاصّ، (أكرم كلّ عالم) كان حجّة في وجوب إكرام كلّ عالم وهو عامّ أفراديّاً ومطلق أحواليّاً لجميع أفراده وأحواله، لكنّ طروّ الخاصّ جعله حجّة في غير عنوانه، فأفاد رحمه‌الله: أنّ طروّ (لا تكرم العالم الفاسق) جعل من حين طروّه العامّ غير حجّةٍ في مورد العالم الفاسق، فاختصّت حجّيّة العامّ بغير العنوان الذي اقتطعه الخاصّ من عنوانه، وهو العالم، فبات العامّ حجّةً في خصوص الحالات التي لا يتّصف فيها العالم بالفسق، وإن اتّصف بصفاتٍ أُخرى، فخصوص عنوان الفاسق الذي اقتطعه الخاصّ لم يعد العامّ حجّةً فيه.
صاحب الكفاية رحمه‌الله لم يقل: تعنون العامّ بنقيض عنوان الخاصّ، ولا ذكر عنواناً تعنون به العامّ، أقصى ما ذكره أنّ حجّيّة العامّ انحسرت لغير العنوان الذي تعنون به الخاصّ، وهو عنوان الفاسق، فلم يعد العامّ بالفعل حجّةً في العالم الذي يتّصف بالفسق، بل بقي حجّةً في العناوين الأُخرى التي تصنّف وتنوّع وتفرّد العالم، أي: بقي حجّةً في جميع حالات العالم، وفي جميع حالات علم العالم، لكن لم يتعنون العامّ بعنوان الخاصّ، هذا لم يقله صاحب الكفاية رحمه‌الله. كلّ الذي قاله: أنّ العامّ لم يعد حجّةً في العنوان الذي شمله الخاصّ. فهذا العامّ الذي انحسرت حجّيّته عن عنوان الفاسق بما هو حجّة بالفعل في حجّيّته المنحسرة، هل هو شامل للفاسق الخارجيّ أم لا؟
يقول صاحب الكفاية رحمه‌الله: واضح هنا أنّ نسبة العامّ إلى مشكوك الفسق صارت مثل نسبة الخاصّ إلى مشكوك الفسق، كما أنّ الخاصّ لا يشمل مشكوك الفسق، قد يكون فاسقاً وقد لا يكون فاسقاً، والبحث ليس في الشبهة التي سببها المفهوم، بل البحث إنّما هو في أنّنا نشكّ في أنّ واقعه الخارجيّ هل ارتكب مفسّقاً لينطبق عليه الفاسق أم لم يرتكب، فالخاصّ واضح أنّه شبهة مصداقيّة لنفسه، لا يشمله، والعامّ بات هذا المشكوك الفسق شبهة مصداقيّة له بما هو حجّة فعليّة؛ إذ حجّيّته انحسرت، لم تعد تشمل العالم الفاسق بعد التخصيص، وما دامت لم تعد تشمل العالم الفاسق بعد التخصيص، فحينئذٍ: هو شبهة مصداقيّة له بما هو حجّة.
هذا كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله.
واضح جدّاً أنّ هذا الكلام يستبطن مقدّمة بديهيّة، لذلك لم يبحث عنها المحقّق صاحب الكفاية رحمه‌الله. وهي أنّ العبرة في مقام الاحتجاج بالدليل بما هو حجّة بالفعل، لا بظهوره اللّفظيّ ولو لم تَسْلم حجّيّته. وهذه المقدّمة ضروريّة.
وهذا كلام متين وصحيح؛ إذ بعد طروّ الخاصّ الذي أعدّه نفس المتكلّم، الذي أخبرنا عن أنّ مراده من الأوّل (هذا ليس نسخاً، بل هو تخصيص)، مراده من العالم: العالم الذي لا يتّصف بالفسق، ومن الواضح جدّاً أنّه لا معنى للاحتجاج بالعامّ في مورد مشكوك الفسق، ونحن نعلم بأنّه ببركة طروّ الخاصّ هو لا يريد من العالم إلّا العالم الذي لا يتّصف بالفسق، فبات العامّ ـ شكلاً ـ يشمل المشكوك في المقام، لكنّ العامّ بوصفه حجّةً فعليّةً لا يشمل مشكوك الفسق؛ إذ هذا الفرد الخارجيّ المشكوك الفسق مردّد بين كونه مصداقاً للعالم الذي لا يتّصف بالفسق، فيكون مصداقاً له بما هو حجّة فعليّة، وبين العالم الذي لا يتّصف بالفسق، فلا يكون مصداقاً له بما هو حجّة فعليّة.
ومن الواضح: أنّ بحثنا هنا ليس عن الظهور اللّفظيّ فقط، بل بحثنا عن الظهور الذي هو موضوع فعليّ للحجّيّة، فلا يمكنني والحال هذه أن أُهمل الحيثيّة التي أضافها الخاصّ إلى العامّ.
هذا الكلام من صاحب الكفاية رحمه‌الله، تصدّى تلميذه المحقّق الإيروانيّ رحمه‌الله في نهاية النهاية للاعتراض عليه، فقال:
إنّ هذا الكلام الذي يذكره هنا يأتي بنفسه في بحث الشبهة المفهوميّة، بينما هو تبنّى في بحث الشبهة المفهوميّة أنّ العالم المشكوك الفسق هناك لا مانع من القول بحجّيّة العامّ فيه. وقلنا: العامّ حجّة في موارد المخصّص المنفصل المجمل مفهوماً المردّد بين الأقلّ والأكثر، مع أنّهما من الوادي نفسه؛ إذ العامّ حجّة على مستوى لفظه إلى حين ظهور الخاصّ، والخاصّ المنفصل (لا تكرم العالم الفاسق)، والذي سبب التردّد فيه في المصداق المفهوم، وأنّ الفاسق هل هو خصوص مرتكب الكبيرة أم الأعمّ منه ومن مرتكب الصغيرة، لا الواقع الخارجيّ، نشكّ في شمول الخاصّ له، فلا يكون الخاصّ حجّةً فيه، والعامّ بعد طروّه أيضاً خُصّص بغير العنوان الذي شمله الخاصّ، أي: بغير الفاسق.
هذا الفرد أنا أعلم أنّه لا يرتكب الكبيرة، وأعلم أنّه يرتكب الصغيرة، كما أشكّ في شمول الخاصّ له للتردّد المفهوميّ، أشكّ في شمول العامّ له بما هو حجّة فعليّة؛ إذ العامّ الذي بات حجّةً بالفعل في غير الفاسق، إذا وضعنا يدنا على زيد المجتنب للكبيرة المرتكب للصغيرة، نشكّ في أنّه من موارده ومصاديقه بما هو حجّة فعليّة أم لا؛ إذ لو كان الفاسق هو خصوص مرتكب الكبيرة فالعامّ جزماً يشمله، وإذا كان الفاسق هو الأعمّ منه ومن مرتكب الصغيرة، فهو جزماً لا يشمله فعلاً بما هو حجّة؛ لأنّه يكون فاسقاً. فالكلام هو الكلام، فلماذا قال إنّ العامّ حجّة في مورد التردّد بين الأقلّ والأكثر في المخصّص المجمل المنفصل، بينما هنا شنّع على الذي يقول إنّه حجّة، وقال إنّه ليس بحجّة، مع أنّهما من وادٍ واحد. فما هي نكتة الفرق؟
والإنصاف: أنّ صاحب الكفاية رحمه‌الله بهذا المقدار من البيان لم يبيّن نكتة، وكان عليه أن يضمّن بيانه نكتةً إضافيّة بها تتّضح نكتة الفرق بين البابين، وكأنّها أُخذت في كلامه بديهيّة، مع أنّها ليست كذلك.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo