< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/02/16

بسم الله الرحمن الرحیم

الكلام في الموقف الثامن:
وهو معقود للبحث عن حجّيّة العامّ قبل الفحص عن المخصّص.
ولا بدّ في هذا الموقف من الحديث في مقامات ثلاثة.
المقام الأوّل: في بيان محلّ الكلام وموقعه.
المقام الثاني: في دليل لزوم الفحص.
المقام الثالث: في مقدار الفحص الذي يدلّ عليه هذا الدليل لو تمّ.
أمّا الحديث في المقام الأوّل:
فإنّ من الواضح من عنوان البحث أنّ المقصود في المقام هو أنّ العامّ لا يكون حجّةً بمجرّد تماميّة دلالته في نفسه، وكونه مبيَّناً لم تَعْتَرِه شبهة من الشبهات، وهو الذي قد يُعبّر عنه في المقام بـ العموم الذاتيّ، أي: الوضعيّ. وأنّه لا يكون حجّةً فعليّةً إلّا في طول البحث والفحص عن المخصّص.
وهذا العنوان للبحث يُطرح مكرَّراً في علم الأصول، وفي غير عنوان من العناوين؛ إذ من الواضح بدواً تكرّر هذا البحث في باب الإطلاق والتقييد، وأنّ المطلق يُدّعى أنّه لا يكون حجّة بمجرّد انعقاد الظهور الإطلاقيّ، لفظاً وحكمةً. بل لا بدّ من الفحص عن المقيِّد، فإن ظُفر به عُمل على مقتضاه، وإلّا، ثبتت حجّيّة الإطلاق.
ويُبحث هذا البحث أيضاً في ما ناظر من ظهورات، كالبحث عن الحاكم، وهي القرينيّة الشخصيّة المعدّة للتفسير أو التنزيل أو التوسعة أو التضييق.
وفي إعطاء إطارٍ عامّ لهذا البحث في صغريات الظهور يُقال: هل الظهور حجّة مطلقاً؟ أم أنّه لا يكون حجّةً إلّا بعد الفحص واليأس عن الظفر بما ينافيه؟ فيكون شاملاً للعموم والإطلاق والحاكم والمحكوم وما إلى ذلك.
وقد يتطاول البحث حتّى إلى الأمر والنهي، وإن قلّ بريقه أصوليّاً في مثل الأوامر والنواهي؛ إذ هي أيضاً من صغريات الظهور.
ويُبحث هذا البحث بشكلٍ رئيسيّ في علم الأصول في مكانين آخرين:
أوّلهما: اشتراط جريان الأصول العمليّة بالفحص عن الدليل الاجتهاديّ، ومبرّره هناك من الواضحات في حدّ نفسه؛ إذ لا تنتهي النوبة إلى الدليل الفقاهتي والأصل العمليّ إلّا بعد انعدام الدليل الكاشف عن واقع الحكم الشرعيّ، إمّا كشفاً تامّاً، وهو الدليل القطعيّ، ووسائل الإحراز الوجدانيّ، أو الكاشف كشفاً ناقصاً، وهو بحث الأمارات. وهذا مسلّم في علم الأصول، وإن وقع كلام بينهم في تخريجه؛ إذ الظهور اللّفظيّ لأدلّة الأصول يرتّب الحكم، وهو الأصل العمليّ الشرعيّ، على عنوان الشكّ، وهو شامل للشكّ قبل الفحص أيضاً. من هنا، بُحث عن تخريجاتٍ لذلك.
وثانيهما: عدم حجّيّة الدليل إلّا بعد الفحص عمّا يعارضه وينافيه، وهو ما يُبحث في مبحث التعادل والترجيح.
وقد يُبحث، بل محلّه الطبيعيّ أن يُبحث، ضمن شرائط حجّيّة أخبار الآحاد ووسائل الإحراز التعبّديّ، ويمكن تعميمه أيضاً لغير الأخبار، بناءاً على حجّيّة وسائل تعبّديّة غير الأخبار، كالشهرات أو الإجماعات المنقولة.
ولا يتأتّى هذا البحث في وسائل الإحراز الوجدانيّ؛ إذ ليس بعد القطع بالحكم الشرعيّ شيء يُرتجى ويُنتظر.
صاحب الكفاية رحمه‌الله في تحديد موضوع البحث وموقعه هنا في باب العموم ذيّل البحث في آخره بكلامٍ مقتضب، أفاد فيه أنّ الفحص في المقام ليس من قبيل الفحص في باب الأصول العمليّة؛ إذ مقتضي الحجّيّة في المقام تامّ، والبحث عمّا يمانع هذا المقتضي من تأثيره الاقتضائيّ، بينما في الأصول العمليّة مقتضي الحجّيّة غير تامّ.
صحيح أنّ إطلاقات أدلّة الأصول التي موضوعها الشكّ تشمل الشكّ قبل الفحص في الأصول الشرعيّة، لكنّ الأصل العقليّ، وهو قاعدة قبح العقاب بلا بيان، من الواضح: أنّ العقل لا يدركها من الأساس إلّا بمعنى قبح العقاب بلا وصول البيان إلى موارد الوصول، فلا يتحقّق موضوعها أساساً إلّا بعد الفحص في مظانّ الوصول.
وأمّا الأصول الشرعيّة، فأدلّتها وإن كانت مطلقة، لكن وقع التسالم والاتّفاق والإجماع على عدم شمولها للشكّ قبل الفحص.
وهذا الكلام قابل للتفسير بأحد تفسيرين:
فإمّا أن يُدّعى أنّ هذا قد بلغ حدّ الضرورة حتّى بات بمثابة قرينة متّصلة بهذه الأدلّة، وهذا أوّل الكلام، يحتاج إلى تأمّل، وليس هنا محلّ بحثه على كلّ حال.
وإمّا بدعوى: أنّ هذه الإجماعات هي من قبيل القرائن المنفصلة. على أنّ كون الإجماع هو الدليل أوّل الكلام هناك؛ إذ قد يُدّعى أنّ الدليل هو روايات التفقّه في الدين، والتي هي على طوائف، كالروايات التي حذّرت عن ترك التفقّه، أو الروايات الوارد فيها: هلّا تعلّمْتَ، أو بعض روايات السؤال، كما في رواية المجذوم الذي غُسل بالماء فأفضى ذلك إلى قتله، فقال النبيّ- ـ فيما يُروى ـ: قاتله الله، هلّا سأل.
وإنّما نُثير هذه الأمور؛ لأنّ بعضها هي للبحث عن حقيقة دور الفحص في المقام، هل هو بحث عن حجّة تُنافي، ولو بدواً، حجّة؟ أم عن قصور دليل الحجّيّة للشمول لما قبل الفحص؟ وبعبارةٍ أوضح: هل هو ـ كما اختار صاحب الكفاية رحمه‌الله، بحسب ما يُستفاد من لازم كلامه؛ لأنّه تحدّث عن كبرى كلّيّة ـ أنّه من قبيل البحث عن المعارض في باب الروايات؟ أم هو من الفحص في باب الأصول العمليّة، أي: هو شرط ليتمّ الاقتضاء في المقتضي، وبدونه لا يكون المقتضي تامّاً؟ فهل هو في مرتبة المانع أم في مرتبة الاقتضاء؟
لم أجد من أثار البحث قبل صاحب الكفاية رحمه‌الله.
وبعده رحمه‌الله وجدنا أنّ معظم المحقّقين ناقشوه فيما أفاد (وإن سكت بعض أعاظمهم كالمحقّق النائيني، بما يظهر منه أنّه وافقه)، وأنّ الفحص هنا هو من قبيل الفحص في الأصول العمليّة، وليس من قبيل الفحص في المعارض في باب الأدلّة الاجتهاديّة.
ولم أجد من فصّل في هذا الأمر، سوى السيّد الخوئي رحمه‌الله، حيث ذهب< إلى التفصيل بين تقديرين: أفاد أنّه على أحدهما يكون الحقّ مع المناقشين، وعلى الآخر يكون الحقّ مع صاحب الكفاية رحمه‌الله.
وهذا يرتبط بالبحث عن الأدلّة التي يُستدلّ بها على لزوم الفحص.
ونقول إجمالاً: قد يُستدلّ بقصور الدليل الدالّ على حجّيّة الظهور، وهو السيرة العقلائيّة والارتكازات العقلائيّة، وأنّها قاصرة عن الشمول لما قبل الفحص، فإن لم نحرز انعقادها على عدم العمل قبل الفحص، فإنّنا قطعاً لا نحرز انعقادها على العمل قبل الفحص. فإن لم نجزم بلزوم الفحص، فإنّنا ـ دون شكّ ـ لا نجزم بالعمل قبل الفحص، فيكون الباب باب التوقّف.
وهذا الدليل ـ بالمناسبة ـ هو الدليل الذي اعتمده صاحب الكفاية رحمه‌الله في المقام.
ومن أبرز الأدلّة التي استدلّ بها المحقّقون ولم يُعرْها صاحب الكفاية رحمه‌الله اهتماماً، هو دعوى وجود علم إجماليّ بالتخصيص، في العلم الإجماليّ الكبير، في باب هذه الأدلّة اللّفظيّة، عمومات الكتاب وعمومات السنّة. ومع وجود هذا العلم الإجماليّ لا يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص وحلّ هذا العلم الإجماليّ، وفي كلّ عموم قرآنيّ أو روائيّ نفحص عنه، ففي مورده ينحلّ العلم الإجماليّ، ويبقى بالنسبة للبقيّة.
اللّهمّ إلّا في موارد بعض العمومات التي نعلم ابتداءاً بأنّها غير مخصَّصة.
لكنّ هذه خارجة تخصّصاً عن محلّ بحثنا أساساً؛ إذ الفحص ليس تعبّديّاً في المقام، بل إنّما هو لكون العامّ في معرض أن يُخصَّص، وذلك لكون صاحب هذه العمومات قد جرت عادته على التدرّج في البيان، ومن أنحاء التدرّج: التخصيص والتقييد.
فيقول السيّد الخوئي رحمه‌الله:
إن بنينا على الدليل الأوّل، فالحقّ مع المناقشين لصاحب الكفاية رحمه‌الله؛ لأنّ دليل حجّيّة ظهور العموم في العموم قاصر قبل الفحص، فالمقتضي غير تامّ. وإن بنينا على الدليل الثاني، فالحقّ مع صاحب الكفاية رحمه‌الله؛ إذ العلم الإجماليّ يشكّل مانعاً، ولا يخرق أساس دلالة الدليل وانعقاد الحجّة، وهي السيرة العقلائيّة على العمل بها في حدّ نفسها.
فهنا تفصيل.
لكنّ هذا التفصيل لا يدفع ولا يذبّ عن صاحب الكفاية رحمه‌الله، وذلك:
أوّلاً: لأنّ صاحب الكفاية رحمه‌الله عندما حقّق موضوع البحث، قبل أن يبحث فيه، قال: محلّ البحث هو القول بأنّ العموم حجّة من باب الظنّ النوعيّ، لا الشخصيّ.
وثانياً: مبنيّ على عدم اختصاص العمومات بالمشافَهين (وهو البحث القادم).
وثالثاً: مبنيّ على عدم العلم التفصيليّ أو الإجماليّ بالتخصيص، إمّا كلّاً أو بعضاً، في موردٍ خاصّ. إذ على تقدير حصول العلم التفصيليّ، الأمر واضح. وأمّا على تقدير حصول العلم الإجماليّ، فيكون العلم الإجماليّ مانعاً.
ثمّ بعد أن ذكر هذه الأمور الثلاثة، جاء إلى بحث الدليل، فهو رحمه‌الله أخرج مسألة العلم الإجماليّ، (مورديّاً في بابٍ خاصّ، أو في كلّ العمومات في الكتاب والسنّة) عن حيّز البحث ابتداءاً.
فما بنى عليه السيّد الخوئي رحمه‌الله تفصيله فأعطاه الحقّ في الجملة لا يصلح لأن يكون دفاعاً عن صاحب الكفاية رحمه‌الله؛ لأنّ هذه المورد أساساً أخرجه صاحب الكفاية رحمه‌الله عن حيّز البحث من البداية. وعبائره واضحة وصريحة في هذا.
هذا من جهة.
ومن جهةٍ أُخرى: هل يصحّ على هذا التقدير ما أفاده السيّد الخوئي رحمه‌الله أم لا يصحّ؟
والظاهر: أنّه لا يصحّ؛ إذ صحيح أنّ علمنا الإجماليّ بوجود المخصِّصات يمنع الظهور في العموم من أن يؤثّر أثره بالفعل؛ إذ لا يجري الأصل اللّفظيّ المسمّى بـ أصالة العموم، بسبب هذا العلم الإجماليّ، لكن لدينا سؤال يطرح نفسه في المقام، وهو أنّه هل الكلام هنا عن نهوض الظهور الذاتيّ للعموم في الدلالة، على مستوى الإرادة الاستعماليّة، أم الظهور على مستوى الإرادة الجدّيّة؟
ومن الواضح: أنّ الكلام في حجّيّة أصالة العموم ليس مقتصراً على الظهور الذاتيّ الوضعيّ، أو الظهور الاستعماليّ؛ إذ موضوع حجّيّة الظهور، كما بات واضحاً من أبحاث سابقة، هو تطبيق أصالة التطابق بين المستعمل فيه والمراد جدّاً. والذي يطبّق هذا التطبيق هم العقلاء وأبناء المحاورة.
فصحيح أنّ العموم له ظهور ذاتيّ وقوّة ظهور ذاتيّة بحسب الوضع والاستعمال، لكن لا يكفي هذا للحجّيّة الفعليّة؛ إذ لكي تصبح الحجّيّة فعليّةً لا بدّ من قيام السيرة العقلائيّة على أصالة التطابق بين الإرادة الجدّيّة والإرادة الاستعماليّة، وهذا معنى حجّيّة أصالة الظهور، والتي تُسمّى في باب العموم بـ أصالة العموم، وفي باب الإطلاق بـ أصالة الإطلاق، وهكذا..
وإذا كان الأمر كذلك، فمع علْمنا بأنّ شارعنا يعتمد، وبشكلٍ ملحوظ، على المخصِّصات والمقيِّدات المنفصلة، حتّى قيل: ما من عامٍّ إلّا وقد خُصّ (وإن كان هذا فيه مبالغة طبعاً)، مع علْمنا بذلك، فإنّ هذا العلم الإجماليّ يمنع العقلاء الذين علموا هذه الطريقة من حال شارعهم (ولو الشارع الوضعيّ، إن كان يعتمد على هذه الطريقة، وإن كان ذلك قليلاً؛ لأنّ أكثر تشريعاته ليست تشريعات تأبيديّة، فالغالب اعتماده على القضايا الخارجيّة، لا الحقيقيّة)، فالمدّعى: أنّ العقلاء الذين علموا هذا الحال من شارعهم فولّد لديهم علماً إجماليّاً بالتخصيصات، أساساً لا تنعقد سيرتهم على العمل بهذه الظهورات قبل الفحص. فإذا لم تكن سيرتهم تنعقد على العمل قبل الفحص، فقد عدنا إلى نفس الموضع. إذ صحيح أنّ السبب هو التمانع الذي سبّبه العلم الإجماليّ بالتخصيص، لكنّ هذا التمانع يفضي إلى أنّ السيرة العقلائيّة لا تنعقد أصلاً في ظهورات الكتاب والسنّة التي اعتاد صاحبها على الاعتماد على القرائن المنفصلة، والتخصيصات والتقييدات والتفسيرات والتنزيلات، ففي كلّ موردٍ من هذه الموارد اعتاد الشارع على إفادة خلاف ظاهر الكلام، ما يجعل العقلاء لا يعتمدون أصالة التطبيق بين ما قال وما أراد جدّاً وواقعاً إلّا بعد الفحص.
فدليل حجّيّة الظهور (المشترك بين السيّد الخوئي رحمه‌الله وغيره)، والذي هو قيام السيرة العقلائيّة على العمل بهذه الظهورات، قاصر من الأساس عن الشمول لما قبل الفحص.
وعليه: فعلى مستوى الدليل الدالّ على حجّيّة ظهور العموم في العموم، يوجد قصور في الدليل. وليست العبرة بالاقتضاء الذاتيّ للدليل، بل العبرة بتماميّة الدليل الممضى من الشارع الأقدس على العمل به بما له من الاقتضاء.
وخلاصة المدّعى: أنّ العقلاء لا تجري سيرتهم على العمل بظهورات (في العموم) يعلمون إجمالاً أنّ صاحبها قد خصّصها، وهذا يفرق فرقاً كبيراً عن دليل حجّيّة السند في باب التعادل والترجيح. (حتّى لو خرجنا عن كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله)؛ لأنّ دليل حجّيّة السند، كـ (صدّق الثقة) تامّ الاقتضاء في حدّ نفسه، والسيرة العقلائيّة قائمة على العمل بخبره، وإنّما الكلام في حجّة مقابلة من قبيله مشمولة لنفس الدليل فتشكّل تعارضاً داخليّاً في دليل الحجّيّة حيث تحصل. فتماميّة الاقتضاء هناك واضحة، كما هو واضح.
وأمّا هنا، فيوجد اقتضاء ذاتيّ في الدليل على مستوى الظهور اللّفظيّ والاستعماليّ، لكن لا يوجد تماميّة اقتضاء بمعنى التطبيق بين ما قال وما أراد؛ لأنّ الدليل هو السيرة العقلائيّة، وهي لا تجري على العمل بالعموم قبل الفحص عن المخصّص؛ للعلم الإجماليّ بأنّ هذا الشارع قد اعتمد التخصيصات في كلامه.
وأمّا متى يكون هذا العلم الإجماليّ مؤثّراً ومتى لا يكون كذلك؟ فهذا خارج عن محلّ الكلام.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo