< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/02/23

بسم الله الرحمن الرحیم

انتهينا في تنقيح كبرى البحث إلى ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله، حيث ربط ـ كما هي عادته في نظيرات هذا البحث ـ البحث هنا بالتفصيل بين القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة؛ إذ أفاد رحمه‌الله أنّ الخطاب إذا كان من قبيل القضايا الخارجيّة فلا مجال مع انعدام الدليل الخاصّ من القول باختصاص الخطاب بالمشافَهين؛ إذ ظاهر الخطاب مخاطبة المخاطَبين على وجه الخطاب الحقيقيّ، فالتعدّي منهم إلى غيرهم يحتاج إلى قرينة، إمّا عامّة، كقاعدة الاشتراك، أو خاصّة. فلا يمكن دعوى إطلاق الخطاب حينئذٍ لغير المخاطَبين.
وهذا سببه أنّ القضيّة قضيّة خارجيّة، أي: أنّها ناظرة إلى الموضوع الفعليّ، إلى مصاديق الموضوع الموجودة الفعليّة المخاطَبة. وهذا ـ برأي المحقّق النائيني رحمه‌الله ـ بديهيّ لا يحتاج إلى إقامة دليل خاصّ.
وأمّا القضايا الحقيقيّة، والتي مائزها أنّ الجعل فيها يكون مجعولاً على الموضوع المقدّر الوجود، لا يلحظ زماناً خاصّاً من الأزمنة الثلاثة، فيشمل المستقبل كما يشمل الحاضر، فهو يتضمّن تلقائيّاً تنزيل الأفراد في المستقبل منزلة الأفراد الموجودين بالفعل في شمول الخطاب لهم، وهذا من مقتضيات القضيّة الحقيقيّة، ولا نحتاج لإثباته إلى دليل خاصّ؛ إذ معنى كون القضيّة حقيقيّة أنّها مجعولة على الموضوع الأعمّ من الموجود والمقدّر والوجود، ومعنى تقدير الوجود، أي: تنزيل المعدوم منزلة الموجود.
وعليه: يَنتج أنّه في القضايا الحقيقيّة لا نحتاج إلى بحثٍ للقول بشمول الخطاب لكلّ من ينضوي من مصاديق تحت لواء الموضوع الكلّيّ، سواء كان في الزمن الحاضر أم المستقبل. وحيث إنّ قضايانا التشريعيّة كلّها، إلّا نادراً شديد الندرة، هي من قبيل القضايا الحقيقيّة، فالأمر محلول في آفاقنا التشريعيّة.
هذا الكلام من المحقّق النائيني رحمه‌الله نُوقش من قِبَل جماعة، منهم المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله، والسيّد الخوئي رحمه‌الله، والشهيد الصدر رحمه‌الله، والإمام الخميني رحمه‌الله. والمناقشات وإن كانت بتعبيرات مختلفة، لكنّها تنتهي إلى نكتةٍ واحدة. ويمكن من مجموع الكلمات أن نصوغ مناقشتين في المقام:
المناقشة الأُولى: مناقشة أفادها السيّد الإمام رحمه‌الله، وربما تعرّض لها غيره أيضاً، وهو أنّ القضيّة الحقيقيّة لا تعني تنزيل المعدوم منزلة الموجود ليصبح مخاطَباً بالفعل. القضيّة الحقيقيّة الأصوليّة تُجعل وهي تحمل في حناياها عموماً أزمانيّاً، ويُجعل الحكم فيها على الموضوع الكلّيّ، ويصبح الحكم الإنشائيّ فعليّاً كلّما وُجد مصداق من مصاديق الموضوع. أمّا أنّ فيها تنزيلاً للمستقبل المحتّم الوقوع منزلة الواقع في الحاضر، فهذا ما لا نحسّه ولا ندريه أصلاً من القضيّة الحقيقيّة؛ إذ القضيّة الحقيقيّة لا تستجرّ المستقبل إلى الحاضر، بل هي مجعولة بجعلٍ إنشائيّ قابل للانطباق في جميع الأزمنة، حاضرها ومستقبلها، كلّما تحقّق الموضوع، ولا نحتاج إلى أكثر من ذلك.
هذه المناقشة تستهدف جذور الكلام عن المحقّق النائيني رحمه‌الله.
وأمّا بقيّة المحقّقين، فإنّهم أفادوا مناقشةً ثانية، وهي أنّ في كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله خلطاً بين أمرين: بين كون القضيّة الحقيقيّة غير مقيّدة بالزمان الحاضر، فتشمل المستقبل، وهذا ممّا لا إشكال ولا ريب فيه، بعد الفراغ عن كون القضيّة قضيّة حقيقيّة بالمعنى الأصوليّ. لكنّ هذا وحده لا يكفي لتصحيح الجهة اللّغويّة المبحوث عنها في المقام، وهي أنّ القضيّة الحقيقيّة إذا اشتملت على أداة الخطاب أو ما في حكمها فكيف يمكن تعميم الخطاب للمعدوم؟ بل وللغائب أيضاً؟ فإنّ كون القضيّة حقيقيّة شيء، وصحّة مخاطبة المعدوم بأداةٍ موضوعةٍ لخطاب الموجود فعلاً أو الغائب بأداةٍ موضوعةٍ لخطاب الحاضر، شيء آخر.
وبعبارةٍ أُخرى: إفادة المحقّق النائيني رحمه‌الله تصحّح البحث الثبوتيّ، والبحث هنا في الجهة اللّغويّة بحث إثباتيّ.
ومن هنا، انتهى هؤلاء الأعلام إلى أنّ هذا التفصيل ممّا لا ينتهي إلى محصَّل.
لكنّنا نقدّر أنّ كلتا المناقشتين المذكورتين يمكن دفعهما عن المحقّق النائيني رحمه‌الله بتوجيه مراده. وذلك بأن يُقال: إنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله لا يتحدّث عن مطلق القضيّة الحقيقيّة والقضيّة الخارجيّة، بل أساس كلامه في صنفٍ من القضايا التشريعيّة، وهي القضايا التي تشتمل على الخطاب؛ إذ جرت العادة في علم الأصول على الحديث عن القضيّة الخارجيّة بما كان من قبيل قضيّة النداء والمشتمل على كاف الخطاب، وإلى ما هنالك. أي: الخطاب الظاهر في أنّه موجَّه لشريحة خاصّة فعليّة قابلة لتوجيه الخطاب لها. وكلام المحقّق النائيني رحمه‌الله في خصوص القضايا التي تشتمل على كاف الخطاب، أي: في المصاديق الفعليّة الحاضرة. وبالنسبة للقضيّة الحقيقيّة لا تُثار على أساس وجود أداة خطاب أو نداء أو نحو ذلك، بل المنظور دائماً في القضيّة الحقيقيّة كبرويّاً هي أنّ الحكم مجعول على الموضوع المقدّر الوجود، لا الناجز الوجود، هو لا يلحظ زمان الحاضر، كما لا يلحظ زمان المستقبل، بل هو في القضيّة الحقيقيّة كبرويّاً يُلغي الزمان أصلاً، ويكون تمام المجعول التشريعيّ هو الحكم على الموضوع. لكن المحقّق النائيني رحمه‌الله هنا ليس كلامه في هذا، بل كلامه في خصوص القضايا التشريعيّة التي تضمّنت نداءاً أو كيفيّة من كيفيّات الخطاب، وعلمْنا بأنّ الشارع لا يريدها قضيّة خارجيّة لخصوص الموجودين، كأكثر قضايانا التشريعيّة التي صُدّرت بـ يا أيّها الناس، أو يا أيّها الذين آمنوا، أو خُوطب بها المخاطَب؛ فإنّ القضايا التي ظاهرها اللّفظيّ أنّها خارجيّة، وهي في واقعها حقيقيّة، لا تحتاج إلى مؤونة زائدة لنُثبت شمول الخطاب لمن هو واقع في المستقبل. بدليل أنّنا علمْنا أنّ هذا التشريع تشريع إلى يوم القيامة، بأيّ لفظٍ بُيّن.
وإذا كان الأمر على هذا المنوال، فإنّ قوله: يا أيّها الذين آمنوا، ويريد: من سيأتون في المستقبل، بنفسه يحمل معه قرينته التي مفادها تنزيل المستقبل منزلة الحاضر. والذين اعترضوا على المحقّق النائيني رحمه‌الله افترضوا أنّه رحمه‌الله يدّعي في كلّ قضيّة حقيقيّة وجود تنزيل للمستقبل منزلة الحاضر، وهذا ما لا يمكن فهمه بحالٍ من كلام النائيني رحمه‌الله، وهو في كلّ كلماته المتفرّقة في تقريريه عن القضيّة الحقيقيّة لم ينطق بكلمة التنزيل للمستقبل منزلة الحاضر إلّا في هذا المورد. وواضح أنّ القضيّة الحقيقيّة كبرويّاً لا علاقة لها بتنزيل المستقبل منزلة الحاضر؛ لأنّها أساساً لم تُجعل لخصوص زمانٍ من الأزمنة. هو رحمه‌الله إنّما يريد هنا أن يحلّ المشكلة في خصوص القضايا الخطابيّة المصدّرة بما ذكرنا. فيقول: بعد أن علِمْنا من الخارج أنّ هذه القضايا التي تضمّنت الخطاب هي حقيقيّة شاملة حتّى للأفراد الغائبين، وحتّى للمعدومين، وكلّ من سيوجد إلى يوم القيامة؛ لعلْمنا بأنّ أحكام ديننا قضايا حقيقيّة، وليست خارجيّة، فلا مصحّح للخطاب إلّا بالقول بتنزيل المستقبل منزلة الحاضر، وإلّا، كيف صحّ أن يخاطبه بنحو الخطاب الحقيقيّ؟
وعلى هذا الأساس، فهذا التنزيل ليس بحاجةٍ إلى قرينة خاصّة. كما أنّه يتّضح أنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله لم يقع في أيّ خلطٍ.
وبالجملة: فإنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله كأنّه قال: بعد أن علِمْنا بأنّ القضايا الخطابيّة على مستوى المدلول التصديقيّ والمراد الجدّيّ للمولى شاملة للغائبين وللمعدومين تشريعاً، ومع ذلك، استخدم بها المولى أداة الخطاب، فهذا يستلزم أن يكون المولى قد نزّل المعدومين منزلة الموجودين. وهذا كلام لطيف جدّاً كما هو واضح. فهذا المولى الذي يعرف أنّ شريعته تتجاوز الأزمنة ولا تختصّ بالموجودين حاضراً، فقطعاً جاء في ذهنه على مستوى الإرادة الجدّيّة أنّه يجعل هذا التكليف لكلّ من يكون أهلاً للخطاب في وقت كونه أهلاً للخطاب. فيبقى: أنّه كيف خاطبه بأداةٍ موضوعة للخطاب الفعليّ؟ وهم قالوا في الجواب: من المتعارف خطاب المعدوم، والجماد، بل وحتّى الموهوم. والمحقّق النائيني رحمه‌الله ذكر في نكتة ذلك: أنّ هذا المتعارف بحاجةٍ إلى إعمالٍ تجوّزٍ ما يصحّح هذا التجوّز مخاطبة المعدوم بأداةٍ موضوعةٍ لمخاطبة الموجود، والنكتة في ذلك: أنّه نزّله منزلة المخاطَب الفعليّ، بعلاقة أنّه في وقت شمول الخطاب له يكون أهلاً للخطاب. وهذا كلام متين وظريف. ولا يتأتّى عليه إشكال البتّة، لا المناقشة الأُولى، ولا الثانية.
هذا تمام البحث الكبرويّ.
وقد ظهر أنّه لا مشكلة أصلاً في البحث الكبرويّ. أمّا عقليّاً، فالبحث لا صورة له. وأمّا نقليّاً، فإنّ أداة الخطاب أوّلاً وبالذات هي ـ كما ذكرنا ـ للمخاطَب الفعليّ، فتحتاج في شمولها للغير إلى قرينة من القرائن.
ولو أوقعنا الكلام في غير تشريعنا، فلو أنّ شخصاً ما خاطب شخصاً آخر بخطابٍ، فلا كلام في أنّ خطابه هذا يشمل غير المخاطب، إلّا مع قرينة خارجيّة، كأن نعلم بأنّ تشريعه هذا كان لكافّة عبيده، لكنّه خاطب العبد المواجَه له خاصّةً. ففي مثل هذا يقول المحقّق النائيني رحمه‌الله: نحن نتشبّث بأذيال قاعدة أنّ شارعنا يشرّع بالنسبة إلى كافّة الأزمنة والأمكنة، حلال محمّد- حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
نعم، هذا البحث صغرويّاً لا صورة له أساساً في ديننا؛ لأنّ البحث برمّته موجّه إلى آيات الكتاب العزيز، وآيات الكتاب افتُرض فيها أنّ المخاطَب هم الرعيل الأوّل الذي كانوا موجودين عند نزول الآيات، وفي كلّ مرّةٍ كانت تنزل آية كان هناك أفراد جدد من المسلمين، وأنّ الباري تعالى خاطب هؤلاء الأفراد من المسلمين. مع أنّ الأمر قطعاً ليس كذلك؛ لأنّ القرآن الكريم نزل عبر جبرائيل عليه‌السلام إلى النبيّ-، والنبيّ- هو وحده المخاطَب به، ثمّ النبيّ- خاطب به بقيّة الأمّة. فأساساً، المخاطَب الوحيد المباشر للقرآن الكريم هو رسول الله-.
وأمّا القول بأنّ هذه الألفاظ هي صنيعة رسول الله-، وأنّ اللّفظ لفظ بشريّ، وليس لفظاً إلهيّاً ربّانيّاً مخلوقاً لله سبحانه، كما يدور على كثيرٍ من الألسنة (من المقلّدة للغرب) في أيّامنا هذه، فهذا ممّا أجمعت الأمّة على كساده وفساده؛ إذ من المسلّم في محلّه بأدلّته أنّ الخطابات الموجودة في المصحف الشريف هي خطابات إلهيّة ربّانيّة بلفظها ومعناها، لا بمعناها فقط.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo