< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/09

بسم الله الرحمن الرحیم

كان الكلام في القاعدة الأُولى التي أفادها الشهيد الصدر رحمه‌الله، والتي تتلخّص في أنّه في مفهوم الموافقة يسري التنافي من المفهوم إلى المنطوق، وأنّ المركز هو المنطوق في الحقيقة. وقد تقدّم الكلام حول مفهوم الأولويّة، حيث تكون الفحوى فحوىً عرفيّة.
وانتهينا إلى البحث عن أنّ هذا الكلام هل يتمّ في منصوص العلّة أم لا يتمّ فيها؟
والظاهر: أنّ الحاكم في المقام هو قواعد الجمع العرفيّ، بمعنى: أنّ كلّاً من الدليلين يُعرضان على العرف، فيُنظر ما هي طريقة العرف في التعاطي مع الدليلين. والظاهر: أنّه في منصوص العلّة لا نحتاج حتّى إلى فكرة السريان؛ إذ صحيح أنّ الخمر في المثال ذُكر موضوعاً في القضيّة الملفوظة، ولكنّ التعليل بالكبرى الكلّيّة جاء أيضاً في قضيّة المنطوق، عندما قال: لإسكاره، أو: فإنّه مسكر. وهذا يعني: أنّ حرمة كلّ مسكرٍ ثابتة بالمنطوق، فإذا كان التنافي بين دليل العامّ، كما لو ورد: يحلّ أكل كلّ تمرٍ والمصنوع منه. وورد: يحرم الخمر لأنّه مسكر، وكان هنالك شيء يُصنع من التمر وهو مسكر، فإنّ الدليلين حينئذٍ يتماشيان في مورد مسكرٍ مصنوعٍ من الخمر، وحينئذٍ: فهل نقول بأنّ حرمة العصير التمريّ المسكر الثابتة بالدليل الثاني من المفهوم في المقام، أم أنّها من المنطوق؟
ولا شكّ في أنّ كون اسم المسكر المصنوع من التمر لم يُذكر صريحاً في الدليل لا يصيّره مفهوماً؛ إذ كلّ عامٍ أو مطلق استغراقيّ تكون دلالته على مصاديقه دلالة منطوقيّة؛ إذ شمول (فإنّه مسكر) له ليس من جهة تمريّته حتّى نقول إنّه مصداق بالعرض، بل من جهة إسكاره. وحينئذٍ: فبلحاظ هذا المورد لا شكّ ولا ريب في أنّ النسبة بين عنوان المسكر التمريّ، وبين عنوان حرمة كلّ مسكر، هي العموم والخصوص المطلق، فهذا لا يصيّره مفهوماً.
نعم، ينبغي أن يُبحث عن أنّ عدم ذكر (حرمة كلّ مسكر) موضوعاً في القضيّة الملفوظة، وجعل الموضوع في بدو تلقّي القضيّة هو الخمر، هل يجعل دلالة التعليل دلالةً مفهوميّة أم أنّها تبقى دلالة منطوقيّة ويُعزل الخمر أصلاً عن الموضوعيّة، حتّى على مستوى المنطوق، ويصبح الموضوع (كلّ مسكر)، ولا يكون ذكر الخمر إلّا ذكر مصداق من مصاديق حرمة كلّ مسكرٍ على مستوى المنطوق؟
وهذا ما لم نره مبحوثاً في مكان.
والذي ينبغي أن يُقال في المقام: إنّ المفهوم إذا اتّفقنا على أنّه دلالة التزاميّة للّفظ، أو دلالة مدلول على مدلول، كما صرّح جملة من المحقّقين هنا في مفهوم الموافقة، فإنّ دلالة القضيّة المعلَّلة على أنّ الموضوع هو المعلّل به دلالة منطوقيّة، لا هي دلالة التزاميّة غير مذكورة في الكلام، تفرّعت على خصوصيّة فيه، لا هي دلالة التزاميّة للفظ، ولا هي دلالة التزاميّة لإطلاق لفظ، ولا هو انتقال من مدلول إلى مدلول غير مذكور في الكلام؛ إذ حرمة كلّ مسكر مستفادة من ظاهر الخطاب ببركة التعليل، وهي دلالة منطوقيّة، كما هو واضح. فالمتفاهم العرفيّ من نفس القضيّة المنطوقة أنّ الحرمة ثابتة لعنوان (كلّ مسكر).
وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذٍ: ممّا لا شكّ فيه أنّها ليست من قبيل دلالة المدلول على مدلولٍ، والمدلول الثاني هو الذي له علاقة بالدليل العامّ، بل هي من دلالة نفس الدليل بدلالته اللّفظيّة التعليليّة على مصداق من مصاديقه غير مذكور موضوعاً بشكلٍ صريح في القضيّة الملفوظة؛ لأنّ الخمر هو الذي ذُكر بدواً. وعلى هذا الأساس، لا شكّ ولا ريب في أنّ العرف يتعامل مع هذه القضيّة المعلَّلة على أنّه قد ذُكر الموضوع فيها؛ لأنّ التعليل موضوع لإفادة ذلك، ولم نستفد ذلك لا من ارتكاز خارجيّ بمثابة قرينة متّصلة، مثل مفهوم الأفّيّة والأولويّة، ولا من استنباط عقليّ، كما في الأولويّة القائمة على دليل عقليّ، مثل الانتقال من كفر سابّ الإمام% إلى كفر سابّ النبيّ-، أو كفر سابّهما إلى كفر سابّ الله عزّ وجلّ بالأولويّة، أو من مساوٍ إلى مساوٍ بعلّة مستنبطة، بل العلّة مصرَّح بها في منطوق الكلام. فإذا كان الأمر كذلك، فحينئذٍ: ممّا لا شكّ فيه أنّ المقام يصبح دلالة منطوقيّة.
نعم، يبقى أنّ هذا الدالّ المنطوقيّ قد يُقال: إنّ النسبة بينه وبين دليل العامّ هي العموم والخصوص من وجه، لا المطلق؛ إذ مادّة الافتراق من طرف (يحلّ كلّ تمرٍ وما صُنع منه) هو المصنوع من التمر الذي لا يكون مسكراً، ومن ذاك الطرف ما كان مسكراً وغير تمرٍ، ويلتقيان في المسكر التمريّ.
لكن الإنصاف: أنّ العرف هنا يرى النسبة بين الدليلين في قوّة نسبة عموم وخصوص مطلق؛ إذ ما ذُكر في الأدلّة وكان بمثابة عنوانٍ ثانويّ في أحد الدليلين، وكان عنواناً أوّليّاً في دليلٍ آخر، فإنّه في مورد التنافي يُتعاطى بين الدليلين تعاطي العامّ والخاصّ عند العرف، وإن كانت النسبة بين لسانَي الدليلين في الشكل هي نسبة العموم والخصوص من وجه.
وفي المقام، الدليل الأوّل انصبّ على حلّيّة التمر، وما يُصنع من التمر من جهة تمريّته، وأمّا الدليل الثاني فقد أخذ حالةً خاصّة من الحالات، فيما يرتبط بالتمر وغير التمر، وهي صيرورته بالتصنيع مسكراً، فحينئذٍ: لا يتردّد العرف إذا عُرض عليه هذان الدليلان في أن يجمع بينهما جمعه بين العامّ والخاصّ، بتقديم الثاني على الأوّل.
وهذا نظير قاعدة لا ضرر ونسبتها إلى الأحكام الأوّليّة؛ فإنّها في الظاهر هي نسبة العموم والخصوص من وجه؛ إذ أيّ حكمٍ نأخذه، ولم يكن ضرريّاً بالأصالة (لم يكن كالقصاص والحدود ونحوهما)، فهو يُرفع بـ لا ضرر إذا بات ضرريّاً. وأيّ حكمٍ من هذا القبيل له موضوعه الخاصّ الذي لا يكون فيه ضرريّاً، وربما كان في بعض الحالات. وفي المقابل، فإنّ قاعدة (لا ضرر) موضوعها أعمّ من أيّ موضوع يُفترض في الدليل الأوّل؛ إذ هنالكيي ضرر صلاتيّ وضرر صوميّ و... إلخ، يلتقيان في خصوص الصوم الضرريّ، ومع ذلك لا يتردّد العرف في تقييد الدليل الأوّل بغير الحالة الضرريّة. وهذا هو الذي يعبّر عنه صاحب الكفاية رحمه‌الله بـ التوفيق العرفيّ. ونحن نراه من باب العامّ والخاصّ؛ لأنّ العبرة في استخراج النسبة ليست فقط حاقّ النسبة المنطقيّة، بل العبرة هي النظرة العرفيّة للدليل، وأنّه انصبّ تارةً على العنوان الذاتيّ، وأُخرى على عنوان عرضيٍّ حالاتيّ.
وعلى هذا الأساس، يَنتج في المقام: أنّ المقام لا ينبغي زجّه في ضابطة الدلالة المفهوميّة، بل المقام من قبيل الدلالة المنطوقيّة.
ولنفترض أنّ أحداً يصرّ على إسقاط الدليلين بدعوى كون النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه، فمع ذلك نقول: إنّها دلالة منطوقيّة، وليست مفهوميّة؛ ذلك أنّها للظهور المنطوقيّ اللّفظيّ للتعليل في القضيّة المعلَّلة.
ولذلك، ومع أنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله وغيره ممّن تابعه ذكروا في التقسيمات دخول منصوص العلّة، لكنّنا لم نجدهم في مقام حلّ الإشكاليّة يسلّطون الضوء على هذا الجانب. وهذا نقص في البحث في الحقيقة.
نعم، غيرهم، وهم مشهور الأصوليّين، الظاهر أنّ مصبّ كلامهم إنّما كان على مفهوم الأولويّة العرفيّ. ولذلك كانوا يمثّلون بـ (ولا تقل لهما أفٍّ)، وبعضهم تعدّى إلى مفهوم الأولويّة الثابت بمقدّمة عقليّة، مثل: أكرم خدّام العلماء، الدالّ بالأولويّة على إكرام نفس العلماء؛ إذ لا خصوص لخدّام العلماء إلّا كونهم خدّامهم هذه الحيثيّة العلمائيّة، وهي تقتضي الإكرام في صاحبها بطريقٍ أَوْلى. وأمّا منصوص العلّة، فلا يظهر من كثيرٍ من المحقّقين أنّه داخل في محلّ البحث. فهذا التفريع لا يصلح إشكالاً عليهم. نعم، هو صالح للإشكال على الذين أدخلوا قياس المساواة في منصوص العلّة في محلّ الكلام، فلا يستقيم بعد ذلك ما ذكروه من أنّ مفهوم الموافقة مطلقاً من دلالة المدلول على المدلول، وأنّه يُنتقل من التنافي بين العامّ ومورد العامّ إلى التنافي بين المنطوق والدليل العامّ، كما هو واضح. وقد كان لا بدّ من التنبيه على هذا؛ لأنّه من محلّ الابتلاء في الفقه؛ فإنّ الروايات التي فيها تعليلات من هذا القبيل، وإن لم تكن بكثرةٍ كاثرة، كما نبّهنا عليه آنفاً؛ لأنّ أكثرها حُمل على الحِكَم، لا التعليلات، لكنّها ليست قليلةً جدّاً، وتبتني عليها أحكام شرعيّة.
هذه تتمّة ترتبط بالقاعدة الأُولى.
وأمّا القاعدتان الثانية والثالثة المذكورتان في كلمات المحقّقين، ولخّصهما الشهيد الصدر رحمه‌الله، فقد اتّضح الكلام فيهما ممّا فصّلناه في القاعدة الأُولى؛ إذ القاعدة الثانية أفاد فيها الشهيد الصدر رحمه‌الله أنّ أخصّيّة المفهوم من العامّ لا قيمة لها في مقام تقديمه عليه، بل لا بدّ وأن تُلحظ دلالة أصله، وهي دلالة المنطوق؛ لأنّ الخاصّ الذي يتقدّم على العامّ إنّما يتقدّم عليه فيما إذا كان مفاداً للكلام، ومن الواضح جدّاً: أنّ مفاد الكلام يُؤخذ من الكلام، لا من مورد المفهوم.
وليس المقصود من هذه القاعدة أنّه لا بدّ من ملاحظة النسبة وبين تمام دلالة المنطوق؛ إذ النسبة بين العامّ وبين المنطوق المفروض أنّه لا تنافي فيها؛ إذ الكلام عن تخصيص العامّ بمفهوم الموافقة، ولذلك أُخذ على بعض المحقّقين ـ كالمحقّق النائيني والسيّد الخوئيّ والشهيد الصدر+ ـ ما ذكروه من أنّه تارةً يكون التنافي بين العامّ وخصوص المفهوم، وأُخرى يكون التنافي بين المفهوم وبين العامّ والمنطوق أيضاً؛ إذ البحث أساساً إنّما عُقد لأجل تخصيص العامّ بالمفهوم، ومفهوم الموافقة مفروغ منه، وإنّما عُقد البحث لأجل مفهوم المخالفة، فلا يستقيم بعد ذلك أن يُقال: إنّ التنافي إن لم يقتصر على المفهوم، وكان هناك تنافٍ على مستوى المنطوق، فما هو الحلّ؟ فإنّ هذا ـ بظاهره ـ خلط للبحث.
نعم، للإنصاف، في بعض الحالات يكون هناك تنافٍ بين العامّ والمفهوم، وتنافٍ من نوعٍ آخر بين العامّ ومنطوق هذا المفهوم (في مفهوم الموافقة)، ويكون التنافي القائم بين العامّ والمنطوق ينعكس على طريقة الحلّ بين العامّ والمفهوم. مثلاً: إذا أخذنا التنافي بين العامّ وبين المفهوم وحده، فنخصّص. لكن إذا أخذنا التنافي بين العامّ والمفهوم وبين العامّ والمنطوق، فلن يبقى للدليل الأوّل ـ مثلاً ـ مورد معتدّ به، بحيث كان يلزم تخصيص الأكثر، فيكون هذا التنافي في حكم التنافي المستقرّ حينئذٍ، فلا بدّ من لحاظهما معاً.
هذا الكلام لا بأس به، ولكنّ هذا لا ينبغي أن يُبحث هنا، بل في باب قواعد الجمع العرفيّ، وأنّه ما هي شرائط الجمع العرفيّ؟ أن نلحظ الدليل مجزءاً في دلالاته أو أن نلحظه في مجموع دلالاته؛ لأنّه إذا لزم إلغاؤه عرفاً فهذا ليس من قواعد الجمع العرفيّ؟ هناك يُبحث عن هذا البحث.
وأمّا أن نصنع ما صنعه الشهيد الصدر رحمه‌الله بعد هذه القواعد من التفصيل في حالات وشقوق فيما لو دخل المنطوق في التنافي مع الدليل العامّ، بمعزل عن مفهوم الموافقة المستفاد منه، وكان المفهوم أيضاً النسبة بينه وبين العامّ أيضاً عموم وخصوص مطلق. فهذا ما لا نرى لزوماً ولا داعياً ولا مناسبةً لبحثه هنا؛ لأنّ هذا يتوقّف حسم الأمور فيه على تنقيح كبرى قواعد الجمع العرفيّ في العلاقة بين الأدلّة اللّفظيّة، المسمّى بـ التعادل والترجيح.
وعلى هذا الأساس، فنحن قصرنا البحث على خصوص ما لو كانت جهة التنافي بين عامٍّ ومفهوم، ونفترض أنّه لا يوجد تنافٍ بين العامّ وبين منطوق ذلك المفهوم.
وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذٍ: هل تصحّ هذه الضابطة الكلّيّة الثانية، وهي أنّه لا قيمة لملاحظة النسبة بين العامّ والمفهوم، بل لا بدّ من ملاحظة النسبة بين العامّ والمنطوق، أم لا تصحّ؟
قد تُفهم هذه الضابطة للوهلة الأُولى أنّه يجب أن نلحظ النسبة بين العامّ وتمام الدلالة المنطوقيّة في القضيّة الدالّة على المفهوم.
ولكن فيه: أنّ كلامنا إنّما هو فيما لو لم يكن هناك تنافٍ بين عامّ ودلالة منطوقيّة، فيلغو البحث أساساً. وهذا الكلام يساوق حينئذٍ أنّه لا يوجد بحث في قواعد الجمع العرفيّ فيما لو كانت النسبة بين العامّ ومفهوم موافقته هي العموم والخصوص المطلق.
لكن الصحيح أنّه لا الشهيد الصدر رحمه‌الله ولا غيره مراده من هذه الضابطة هذا المعنى، بل مرادهم من السريان هو السريان بمقدار الخصوصيّة الدالّة على المفهوم، يعني: لا توجد دلالة مفهوميّة إلّا إذا دلّت الدلالة المنطوقيّة عليها. صحيحٌ أنّ الانتقال من مورد الدليل ومدلوله إلى مدلولٍ آخر هو الذي حصلنا من خلاله على مفهوم موافقة، ولكنّ الدالّ على ذلك في الأساس هو الدليل اللّفظيّ والدلالة المنطوقيّة، فالمقصود من سريان التنافي من الدلالة المفهوميّة إلى الدلالة المنطوقيّة، أي: إلى الخصوصيّة التي بها انتقلنا إلى المدلول الثاني والدلالة المفهوميّة.
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف لنا أن نتعامل مع الدليل اللّفظيّ، والذي لا يوجد ـ بحسب الفرض ـ تنافٍ بينه وبين الدليل العامّ؟

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo