< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/14

بسم الله الرحمن الرحیم

المقام الثاني: في تخصيص العموم بمفهوم المخالفة.
وقد اتّضح المقصود من مفهوم المخالفة.
تعرّض المحقّق صاحب الكفاية رحمه‌الله لهذا البحث بشكلٍ مقتضب وفنّيّ، وقد لخّص تحقيقه في المقام، بما حاصله:
أنّ العامّ وجملة المفهوم إمّا أن يكونا في كلامٍ واحد أو في كلامين متّصلين في سياقٍ واحد، فهما بحكم الكلام الواحد.
وإمّا أن يكونا منفصلين، كلاميّاً وسياقيّاً.
وعلى الأوّل، فإمّا أن تكون دلالتهما معاً بالوضع، أو بالإطلاق. (المقصود: أن تكون الدلالة في موطن التنافي دلالة إطلاقيّة، أو على مبنى من يقول بلزوم إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول، كما هو احتمال صاحب الكفاية رحمه‌الله، واختيار المحقّق النائيني رحمه‌الله). فإنّهما يجملان إجمالاً حقيقيّاً، فلا عموم ولا مفهوم.
وإمّا أن تكون دلالة أحدهما بالوضع ودلالة الآخر بالإطلاق، فيُقدَّم ما دلالته بالوضع على ما دلالته بالإطلاق؛ ذلك أنّ الإطلاق متوقّف على عدم البيان، والدلالة الوضعيّة بيان.
وأمّا على الثاني، وهو ما لو كانا منفصلين، فقد ظهر الحال، بمعنى: أنّ ما كان إجمالاً على تقدير الاتّصال، فهو إجمال حكماً على تقدير الانفصال. وما يُقدَّم هناك يُقدَّم هنا.
هذا ما أفاده صاحب الكفاية رحمه‌الله.
ومقتضى التحقيق ـ قبل بيان ما ينبغي أن يُقال ـ في فهم كلامه رحمه‌الله أن يُقال:
إنّنا إمّا أن نكون قائلين في طرف العموم بأنّ دلالة العموم على الشمول والسريان والاستيعاب هي بالوضع محضاً، ولا نحتاج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في مدخول الأداة. وأمّا في طرف المفهوم، فتارةً تكون الدلالة على المفهوم وضعيّة، كما لو اخترنا أنّ الجمل التي فيها مفهوم، كجملة الشرط، الأداة فيها موضوعة بالوضع اللّغويّ للإثبات عند الإثبات والانتفاء عند الانتفاء معاً، فتكون الدلالة حينئذٍ دلالة وضعيّة. أو قلنا بأنّ الدلالة العقليّة (وإن لم نرَ من بنى على ذلك، وإنّما ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله تشبّثاً بقاعدة الواحدة، وأُهمل في الكلمات، بحقٍّ؛ ذلك أنّ المقام ليس من مقامات جريان هذه القاعدة). وأُخرى نبني على ما بنى عليه المحقّق النائينيّ والمحقّق العراقيّ والسيّد الخوئيّ+، من أنّ دلالة جملة المفهوم عليه هي دلالة إطلاقيّة، (إمّا بضمّ جهة وضعيّة، أو لا بضمّها)، أي: لا تحصل دلالة على المفهوم إلّا بعد إجراء مقدّمات الحكمة لنفي العِدْل، فتكون الدلالة حينئذٍ إطلاقيّة.
وقد خلّص صاحب الكفاية رحمه‌الله في هذه الجمل نفسه من الدخول في هذه التفاصيل؛ لأنّها أصول موضوعيّة تبتني من جهة على ما بُحث في العموم، ومن جهةٍ أُخرى، على ما بُحث في المفاهيم،
فقال: كلّ صاحب مبنىً فليلتزم هنا في هذا البحث بمبناه.
ولا نريد هنا أن نطيل في البحث، فنقول:
التحقيق في المقام: أنّنا تارةً نؤمن بكبرى قاعدة دلالة بعض الأدوات أو الجمل على المفهوم، وأُخرى لا نؤمن على مستوى القاعدة بذلك. وهو الصحيح كما أسلفنا، وإن قلّ قائله؛ إذ لا جملة لدينا تدلّ على المفهوم أصلاً بحسب وضعها اللّغويّ. حتّى أقوى الجمل في هذا المقام، وهي جملة الشرط، التحقيق أنّها لا تدلّ على مستوى القاعدة، أي: حيث لا توجد قرينة خاصّة. وحينئذٍ: فبناءاً على هذا المبنى لا يوجد بحث كبرويّ هنا، أي: لا يوجد شيء اسمه تعارض بين العامّ على مستوى القاعدة مع المفهوم على مستوى القاعدة؛ إذ لا يوجد مفهوم، فيكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع.
نعم، إذا تعارض العامّ مع جملةٍ دالّة على المفهوم بقرينة، ففي الحقيقة، سوف يكون التنافي تنافياً بين العامّ وبين هذه الجملة مع قرينتها، لا معها من دون القرينة؛ إذ لا تعارض معها من دون القرينة، فالتعارض بالدقّة هو مع القرينة، فحينئذٍ: نتّبع قواعد الجمع العرفيّ. وحينئذٍ: فإن كنّا قائلين بأنّ أحد الدليلين يُقدَّم على الآخر ببركة الأظهريّة، فالنصّ يُقدَّم على الظاهر، فإذا قلنا بأنّ أداة العموم نصّ في العموم، وكانت القرينة ظاهرةً في إثبات المفهوم، فحينئذٍ: لا شكّ في أنّ النصّ يُقدَّم على الظاهر. وإذا كان كلا الدليلين بالظهور، أو بالنصوصيّة، فالحقّ مع صاحب الكفاية رحمه‌الله على هذا المبنى.
وأمّا لو قلنا ـ كما هو الصحيح ـ بأنّ موارد الجمع العرفيّ يُقدَّم فيها الدليل بسبب القرينيّة، أي: بسبب أنّه أُعدّ من قِبَل الشخص ليكون قرينةً على كلامه الآخر، سواء كان إعداداً نوعيّاً، كما في التخصيص والتقييد، أم شخصيّاً، كما في باب الحكومة، فحينئذٍ: لا يوجد شكّ ـ في تقديرنا ـ لدى أبناء العرف (على هذا المبنى) في أنّ الأخصّ، ولو كانت دلالته بالظهور، يُقدَّم على الأعمّ، ولو كانت دلالته بالنصوصيّة. فلو قلْت: أكرم كلّ عالم، وجاء دليل آخر متّصل بالسياق أو منفصل عنه
يقول: أكرم كلّ عالم إذا كان عادلاً، فحينئذٍ (بناءاً على الدلالة على المفهوم): لا شكّ في أنّ العرف الملقى إليه الكلام الثاني يرى أنّ التقييد بالعدالة ببركة أداة الشرط يدلّ على الانتفاء عند الانتفاء، فحتّى لو كانت دلالته بالظهور، ولو الإطلاقيّ، فلا شكّ في أنّ العرف حينئذٍ يرى أنّ الجملة الثانية بمفهومها تخصّص وتقيّد الجملة الأُولى، وأنّ (إذا كان عادلاً) يلغو كقيد. (بل هذا لا يتوقّف حتّى على القول بالمفهوم، بل نفس ظهور الجملة في القيد كافٍ، وإلّا، لكان القيد لغْويّاً، كما هو واضح)، فلا العرف يتردّد في المقام، ولا يحسم الأمر لصالح الدليل الأعمّ، الذي هو العامّ، بل نفس كون الدليل الثاني أخصّ يشكّل بنظر العرف قرينة على تقييد الحكم الأوّل، سواء كانا متّصلين أم منفصلين. إلّا أن تُرجع الأظهريّة التي يدّعيها صاحب الكفاية رحمه‌الله إلى الأظهريّة حتّى بحسب الارتكازات، لا بحسب الوضع اللّغويّ فقط، وإلّا، فلا يُظنّ بصاحب الكفاية رحمه‌الله، بل لا يُظنّ بأحدٍ في مثل هذه الحالة أن لا يقيّد. وتمام هذا البحث في محلّه. ويوجد مبنىً ثالث في باب الجمع العرفيّ، وهو المبنى الذي يبني على أنّ الملاك هو الأخصّيّة، لا الأظهريّة ولا القرينيّة. وعلى هذا المبنى، فالأمر أوضح؛ إذ لا شكّ في أنّ المفهوم ـ بحسب مفروض البحث ـ أخصّ من العموم، سواء كان الأوّل عموماً اصطلاحيّاً أم شمولاً إطلاقيّاً؛ فإنّ الثاني أخصّ منه؛ إذ هو يقتطع منه بعضه، ويصنّفه إلى صنفين.
وعلى هذا الأساس، فإن كنّا قائلين بالمفهوم، أو دلّت قرينة على وجود المفهوم، أو اكتفينا بالقيد، ولو لم يكن من المفهوم، ففي كلّ ذلك، الصحيح أنّ الظاهر عرفاً بحسب المحاورة هو القول بتخصيص العامّ.
بل إذا كانت النسبة بين الدليلين العموم والخصوص من وجهٍ أيضاً، فإنّه لا يكتفي العرف في إسقاط الدليلين بملاحظة نسبة العموم والخصوص من وجه، كما لعلّه يجري في معظم الكلمات. بل إنّ العرف في مثل المقام ينظر إلى العنوان الذي ذُكر في كلٍّ من الدليلين، فإن ذُكر أحد الدليلين بعنوانٍ أوّليٍّ للشيء، مثل العنوان الذاتيّ، أو ما لحق به، من قبيل أسماء الأجناس، وذُكر الدليل الثاني بعنوانٍ ثانويّ، من قبيل: التوصيفات والنعوت، أو حالةٍ ثانويّة، من قبيل: الحرج والضرر، فإنّ المدّعى لنا ـ وهو ضمناً موجود في الكلمات ـ هو أنّ العرف يقدّم الدليل الذي هو بالعنوان الثاني على الدليل الذي هو بالعنوان الأوّليّ في موارد الالتقاء والتنافي. ومن هنا لم يتردّد العرف أبداً في تقديم مثل (لا ضرر) على أدلّة الأحكام الأوّليّة، والحال أنّ النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه؛ إذ هنالك ضرر غير صوميّ، وصوم غير ضرريّ، ويلتقيان في الصوم الضرريّ. فإذا ورد دليلان من هذا القبيل، فإنّ ما هو بالعنوان النعتيّ التوصيفيّ لا يتردّد العرف في تقديمه على الدليل الآخر، وإن كانت النسبة هي العموم والخصوص، وإن كان العموم والخصوص من وجه خارجاً عن محلّ الكلام، لكن هو بحكم التخصيص.
نعم، لو ورد الدليلان بنفس العنوان، أوّليّاً كان، مثل: أكرم كلّ رجل، وأكرم كلّ رجل إن كان عادلاً، أو ثانويّاً، فالكلام هو الكلام، وأنّ التقديم إنّما يكون من باب الأخصّيّة. وأمّا لو كانت النسبة هي نسبة العموم والخصوص من وجه، فلا تقديم لأحدهما على الآخر، بل يصبح التعارض حينئذٍ تعارضاً مستقرّاً في مادّة الالتقاء، فنلجأ إلى التعادل والترجيح حينئذٍ، فنقول بالتساقط إن عُدمنا المرجّح الثابت ترجيحه بحجّة، كمخالفة العامّة وموافقة الكتاب، وما إلى ذلك.
هذا هو التحقيق الذي ينبغي في المقام. وإن كان هناك تفريعات وتفاصيل أُخرى ذكرها بعضهم، وهي ليست جديدة، بل موجودة في الكلمات.
والخلاصة: بناءاً على ما هو الصحيح من أنّ التقديم إنّما يكون بالقرينيّة، وهو مبنى المحقّق النائينيّ رحمه‌الله والأكثر من المعاصرين ومتأخّري المتأخّرين، فإنّ النسبة إذا كانت هي نسبة العموم والخصوص المطلق، فلا شكّ في تقديم جملة القيد والمفهوم على العموم، وإن كانت دلالة الأوّل بالوضع، ودلالة الثاني بالظهور الإطلاقيّ؛ ذلك أنّ الثاني قرينة على الأوّل.
وبهذا تمّ الكلام في هذا الموقف.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo