< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/20

بسم الله الرحمن الرحیم

لا زال الكلام في المقام الأوّل. وهو البحث الثبوتيّ في صحّة أو عدم صحّة رجوع الاستثناء المتعقّب لجملٍ متعدّدة إلى الجميع.
وقد تقدّم أنّ صاحب الكفاية رحمه‌الله جوّز الرجوع إلى الجميع، سواء بنى على مبناه من الوضع العامّ في الحروف، أم على مبنى القائلين بالوضع الخاصّ. وعلّل ذلك بأنّ الاستثناء إخراج من المستثنى منه.
وقد علّقنا على هذا الكلام توضيحاً فيما تقدّم. حيث فرّ من شبهة لزوم استعمال اللّفظ في معنيين.
في المقابل، ذهب جماعة من المحقّقين إلى إحكام الشبهة التي أوّل ما أُثيرت أثارها صاحب المعالم رحمه‌الله، والتي خلاصتها ـ بتقارير مختلفة ـ أنّ الاستثناء الحرفيّ لا يمكن أن يكون استثناءاً من أكثر من مستثنىً منه؛ ذلك أنّ واقع الاستثناء المذكور شخصيّ نسبيّ ربطيّ، وهو يندكّ ويضمحلّ بنحو النسبة الإيجاديّة في الطرفين، المستثنى والمستثنى منه، فلا يقبل استثناء واحد أن يكون استثناءاً من أكثر من جملة وحكم.
من هنا، كان لا بدّ من بدء البحث من هذه النقطة، وهو أنّ هذا البرهان عند أهله هل هو تامّ أم لا؟
ومن هنا، اقترح المحقّقون اقتراحاتٍ عديدة.
وممّن أدلى بدلوه في هذا المجال المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله، فذكر كلاماً لا يظهر منه أنّه ذكره على سبيل التبنيّ، بل على سبيل الإخراج للحال، وذلك بما يرجع في خلاصته إلى أنّنا تارةً ننظر إلى الجمل المتعدّدة التي استثنينا منها، كما ننظر في العموم الاستغراقيّ أو الإطلاق الشموليّ بحيث يصبح كلّ فردٍ حكميٍّ في جمله غيره في الآخر، وحينئذٍ: فالإشكال محكم؛ إذ المعنى الحرفيّ شخصيّ ربطيّ.
وأُخرى ننظر إلى الجمل المتعدّدة على أساس أنّها بمثابة العموم المجموعيّ، بحيث يكون بينها عنوان وحدانيّ نفترضه، ونستخرج على أساسه من المجموع بأداة الاستثناء، فيكون الاستثناء استنثاءاً واحداً، وليس متكثّراً على سبيل الحقيقة.
وكأنّه بهذا الاقتراح يحاول توجيه ما أفاده صاحب الكفاية رحمه‌الله من أنّ الأمر لا يرتبط بمبناه الذي بنى عليه عندما جوّز رجوع الاستثناء إلى الجمل المتعدّدة.
لكنّ هذا الكلام واضح الإشكال؛ إذ نحن مطالَبون في أيّ حلٍّ نريد أن نذكره بمتابعة ظاهر الكلام. ولا شكّ في أنّ كلّ جملة من الجمل قد تضمّنت حكماً مستقلّاً عن الحكم في الجمل الأُخرى. ولئن كان هذا خافياً للوهلة الأُولى فيما لو اتّحد المحمول والموضوع، فهو بمثابة من الوضوح فيما لو تعدّد أحدهما، فضلاً عمّا لو تعدّدا معاً.
على أنّ الصحيح أنّه واحد في الجميع؛ ذلك أنّ كلّ جملة فهي تتضمّن نسبة حكميّة، ولو اتّحد موضوعها، ولو اتّحد المحمول، إلّا إذا كانت الجمل الثانية والثالثة ـ مثلاً ـ على سبيل التأكيد فقط للجملة الأُولى، لكنّ هذا ليس محلّ بحثنا أصلاً، كما هو واضح.
فإذا كان الأمر كذلك، فمن الواضح: أنّه لا يوجد جامع حقيقيّ بين أحكامٍ متعدّدة؛ إذ الأحكام المتضمَّنة في الجمل، في هيئة الأمر ـ مثلاً ـ، هي أيضاً معانٍ حرفيّة متعدّدة، والكلام فيها هو الكلام، ولا جامع حقيقيّ بينها، وفرضها مجموعاً هو مجرّد افتراض، وهو بعيد غاية البعد عن ظاهر الجمل المتضمّنة لهذه الأحكام؛ إذ ظاهرها، سواء عُطفت بالواو أم لا، أنّ كلّ جملة فيها حكم مستقلّ عن الحكم الموجود في الجمل الأُخرى، فهي من قبيل العموم الاستغراقيّ، لا المجموعيّ.
ولئن ادُّعي أنّ المجموعيّة في المقام ليست مجموعيّة حقيقيّة، فتبقى مجرّد افتراض لا مؤيّد له من ظاهر الكلام. هذا أوّلاً.
وثانياً: لو سُلّمت، فهي لا تنفع؛ لارتباط النسبة الحقيقيّة الواقعيّة بجامعٍ انتزاعيّ مفترض أو مقترح أو مرتجل، كما هو واضح.
وكأنّ المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله قد سلّم بوجود المشكلة ثبوتاً، وحاول أن يقترح هذا الحلّ لها للخروج من عنق الزجاجة؛ إذ إرجاعه الأحكام المتعدّدة في الجمل المتعدّدة إلى العموم المجموعيّ تسليم منه بأنّ الاستثناء لا يصحّ إلّا من جملةٍ واحدة. وعليه: فما أفاده رحمه‌الله لا يرجع إلى محصَّل في المقام.
هذا. وقد انبرى المحقّق العراقيّ رحمه‌الله لحلّ المشكلة، فأفاد أنّ الصحيح عنده أنّ الموضوع له في الحروف كلّيّ وليس شخصيّاً، وعليه: فلا تبقى مشكلة، بل تصبح المعاني الحرفيّة كالاسميّة،
وحينئذٍ: فلا مشكلة ثبوتاً من الأساس.
هذا الكلام يواجهه أوّلاً: عدم صحّة المبنى؛ إذ قد حُقّق في محلّه أنّ الكلّيّة في المعنى الحرفيّ لا معنى لها بالمعنى الدقيق للكلمة.
وثانياً: أنّ ما ذهب إليه من الكلّيّة لا يجدي في المقام؛ إذ ما أفاده من الكلّيّة في المعاني الحرفيّة غير ما نحتاجه من الكلّيّة في المقام لتُحلّ المشكلة.
توضيح ذلك: أنّه تارةً يُقال: المعنى الحرفيّ شخصيّ بمعنى: الجزئيّ الحقيقيّ، فيُجاب عنه حينئذٍ: بأنّه لا دليل على لزوم كونه شخصيّاً بمعنى الجزئيّ الحقيقيّ. وعليه: فهناك نوعان من الكلّيّة: أحدهما: الكلّيّة الموجودة في باب المفاهيم العامّة، كأسماء الأجناس، وهذا كالمفاهيم الاسميّة يحلّ المشكلة في المقام، لكن ليس هو المعنى الذي قال به المحقّق العراقيّ في باب المعنى الحرفيّ، بل لا يقول به أحد. والآخر: الكلّيّة في باب المعنى الحرفيّ بمعنى أنّ طرفي النسبة إذا كانا قابلين للانطباق على أكثر من مصداق في الخارج، فيكون المعنى الحرفيّ كلّيّاً بتبع كلّيّة الطرفين، لا كلّيّاً بمعنى قابليّة النسبة للانطباق على أكثر من حكم. وهذه هي الكلّيّة التي التزم بها المحقّق العراقيّ رحمه‌الله.
والمعنى الحرفيّ لا يتثنّى ولا يتكرّر في واقعه الخارجيّ، بمعنى: أنّه موجود مندكّ في شخص الطرفين، وأمّا إذا كان الطرف قابلاً للانطباق على أكثر من نقطة، فبتبعه الابتداء المستفاد من (من) بنحو المعنى الحرفيّ يكون قابلاً للانطباق على أكثر من نقطة. هذه هي الكلّيّة المتعقَّلة في المقام، وهي كلّيّة صحيحة، لكنّها ليست كلّيّة راجعةً إلى النسبة، بل إلى المنتسبين.
وهذه الكلّيّة غير قابلة للتطبيق في المقام؛ إذ الذي يحلّ مشكلة رجوع الاستثناء إلى الجمل المتعدّدة كلّيّةٌ من قبيل العموم الاستغراقيّ، كلّيّة من قبيل أنّ نفس الابتداء الشخصيّ الموجود بين المستثنى والمستثنى منه في أكرم العلماء، موجود أيضاً في: أطعم الفقراء إلّا الفسّاق. وهكذا. وهذه ليست كلّيّة بلحاظ محكوم به واحد، بل بلحاظ اثنين أو ثلاثة، بحسب تعدّد الأحكام بتعدّد الجمل، ولذلك فهو لا ينفع في المقام، كما هو واضح. (ينبغي الإشارة إلى أنّه من الواضح وجداناً لدى جميع المحقّقين الذين تناولوا هذا البحث أنّ رجوع الضمير إلى الجميع جائز، وإنّما الكلام في تخريجه صناعيّاً)
من هنا، انبرى صاحب المنتقى رحمه‌الله لحلّ المشكلة بأسلوبٍ آخر، غريب من مثله، فأفاد ـ بعد أن ألمح بأنّ الرجوع إلى الجميع يصحّ وجداناً ـ أنّ المعنى الحرفيّ تارةً ينسب طرفيه إلى بعضهما، فتكون النسبة في المقام بين المستثنى والمستثنى منه كنسبة الظرفيّة بين الظرف والمظروف، وفي
مثله: لا شكّ في أنّ المعنى الحرفيّ لكونه شخصيّاً نسبيّاً غير قابل إلّا إلى جملة واحدة. وأُخرى
يُقال: الاستثناء ليس نسبةً بين المستثنى والمستثنى منه، بل هو نسبة بين المستثنى والمستثني،
فكأنّك قلت: أكرم العلماء وأطعم الفقراء وأضف السادة أستثني الفسّاق منهم. فصارت النتيجة أنّ الاستثناء سنخ معنىً حرفيّ يرجع إلى المستثني، والمستثني هو الذي يستثني من الجميع. قال: وهذا هو ما نرجّحه في المقام.
لكنّ هذا الذي أفاده لا يرجع إلى محصّل؛ إذ من الواضح: أنّه في كلّ نسبة حكميّة هناك انتساب بين منتسبين، وتوجد إضافة إلى الناسب أيضاً في النسب الحكميّة، وهذا ليس خصوصيّة للاستثناء، كما هو واضح. فحتّى لو سلّمنا أنّ (إلّا) هي في قوّة (أستثني)، لكنّها في قوّتها بنحو المعنى الحرفيّ. وكان الكلام في قوّة (أستثني الفسّاق منهم). وهذا استثناء متّصل، وليس منقطعاً، ومعنى الاستثناء المتّصل إنّما هو وجود نسبة بين المستثنى والمستثنى منه، وهي نسبة واقعيّة حقيقيّة، فعاد الإشكال، كما هو واضح.
من هنا، ألغى بعض المحقّقين، كالسيّد الخوئي رحمه‌الله، هذا البحث الثبوتيّ، ودخل مباشرةً في البحث الإثباتيّ. وبعضهم سلّم بالمشكلة، كالسيّد البروجرديّ رحمه‌الله، والشهيد الصدر رحمه‌الله الذي فصّل بين الاستثناء بنحو المعنى الحرفيّ أو الاسميّ.
من هنا، اقتُرح حلّ في المقام، وهو أنّ العطف هو في قوّة التكرار، فقولك: أستثني منهم الفسّاق، الضمير فيه لا مانع من رجوعه إلى الجميع؛ لأنّه مبهم كما تقدّم. فقيل: العطف في قوّة التكرار، فكأنّك استثنيت مكرّراً، غاية الأمر: حتّى لا يلزم التكرار في الكلام لنكتةٍ أدبيّة ذُيّلت الجمل باستثناء واحد، وإلّا، فإنّ الاستثناء متكرّر مع كلّ جملة، فكأنّه قيل: أكرم الفقراء إلّا الفسّاق، وأضف السادة إلّا الفسّاق، وهكذا..
وعلّق بعض المحقّقين على هذا الكلام بأنّ هذا يقتضي أن تكون جملة الاستثناء موجودة في الجملة الأُولى ليكتمل الحكم، فيُشرَّك ما بعدها فيما قبلها، وإلّا فإنّ العطف لا يقتضي التشريك بأكثر من الحكم المذكور في الجملة الأُولى، كما هو واضح. وهنا، لا مشكلة لدينا في ذلك.
لكنّك خبير، بأنّ هذا أقصى ما فيه أنّه نكتة استظهاريّة، فإذا لم يكن هناك مانع ثبوتيّ، يبقى البحث الاستظهاريّ ممكناً في أن يؤجَّل جزء من الحكم يقتضيه طبع الجملة ويَحسن بالطبع من الحكم الذي لو خلت الجملة الأُولى ونفسها لذُكر فيها إلى آخر جملة، لكي لا يلزم التكرار، فلا مانع منه ثبوتاً؛ لأنّك لو قلت: أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم، وأطعم الفقراء، وأطعم السادة، لما فُهم الاستثناء في الجملة الثانية ولا الثالثة، وللزم حينئذٍ تكرار الاستثناء حتّى يُفهم رجوعه إلى الجملتين الثانية والثالثة. بينما لو ذُكر بعد الثالثة، وإن كان يُحتمل ويمكن رجوعه إلى خصوص الأخيرة، لكنّ العرف ـ أدبيّاً ـ لا يمانع من رجوعه إلى الأُوليين، وحينئذٍ: فيكون لدينا أكثر من استثناء، بناءاً على رجوعه إلى الأُولى والثانية. نعم، يبقى أنّنا بحاجةٍ إثباتاً إلى قرينة إلى الرجوع، وهذا لا ضير فيه؛ لأنّ البحث هنا ليس في مقام الإثبات، ولن نقول إثباتاً بالرجوع إلى أكثر من الأخيرة إن لم تكن هناك قرينة، كما هو واضح.
وعليه: فالمحذور الثبوتيّ مندفع بهذا الأمر البديهيّ، بل هذا هو الذي يتناسب مع هذا الشعور الوجدانيّ الموجود في أذهان جميع المحقّقين من أنّه لا مانع من رجوعه إلى الجميع. لكنّ عبائرهم قاصرة عن إفادة هذا المعنى.
وعلى هذا الأساس، فلا يلزم حتّى استعمال اللّفظ في أكثر من معنى؛ لأنّ بعض الكلمات ربطت البحث هنا بالبحث عن جواز أو عدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، مع أنّ المشكلة في المعنى الحرفيّ أعمق من ذلك؛ إذ لا قابليّة له لذلك أصلاً، ولكنّنا حتّى لو كنّا قائلين بجواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً، وعدم وجود محذور ثبوتيّ فيه، فإنّه يبقى خلاف الظاهر جدّاً، ويحتاج إلى قرينة خاصّة ليَثبت.
هذه صفوة ما يمكن أن يُقال في المقام الأوّل. والخلاصة: أنّ الشبهة في محلّها على مستوى المعنى الحرفيّ، ولا تصل النوبة لحديث استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً أصلاً؛ إذ في المعاني الحرفيّة لا قابليّة أصلاً لذلك؛ لأنّه مندكّ في الطرفين، وصفوة الكلام: أنّ ما نشعر به وجداناً من الصحّة إنّما هو لكون الاستثناء مكرَّراً ثبوتاً.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo