< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/21

بسم الله الرحمن الرحیم

يقع الكلام في البحث الإثباتيّ.
بعد أن اتّضح ثبوتاً أنّه لا مانع من رجوع الاستثناء إلى الجميع، وهو في الحقيقة في قوّة تكرّر الإخراج من المستثنى منه، وليس استثناءاً واحداً حقيقةً؛ إذ ذلك ممتنع.
في هذا المقام الثاني يقع الكلام فيما هو المستظهر من الجمل. وقد أراح صاحب الكفاية رحمه‌الله نفسه عندما أفاد أنّ الاستثناء راجع جزماً إلى الجملة الأخيرة، إمّا لكونها هي مرجع الضمير المذكور في المستثنى، وإمّا لكون ذلك هو القدر المتيقّن عند التردّد بين الرجوع إلى خصوص الأخير والرجوع إلى الجميع، أو هو مع غيره (في بعض الجمل قد يُدّعى التردّد بين الأخير وما قبله).
وهذا الكلام كلام عامّ. اعترض عليه في المنتقى بأنّ الضمير كالإشارة من جهة كونه لا بدّ له من مرجعٍ متعيّن في نفسه يرجع هو إليه، فالرجوع إلى الجميع يقتضي تعيين الجميع، وهذا يقتضي أن يكون هناك ترابط بينها لتتعيّن. وهذا يحصل بشكلٍ واضح فيما لو ذُكر الموضوع صريحاً في الجملة الأُولى ورجع الضمير إليه في الجملة الثانية والثالثة ثمّ عُقّب الكلام في السياق نفسه بالاستثناء المقرون بالضمير الراجع إلى السابق. فالظاهر رجوع جميع الضمائر إلى الاسم المضمر، كما لو قال: أكرم العلماء وأضفهم وصلّ خلفهم إلّا الفسّاق منهم.
وأمّا حيث لا يكون هناك تعيّن، كما في حالات تعدّد الموضوع والمحمول معاً، ولا يوجد وحدة بينها، فقد استشكل في المنتقى بأنّه كما يكون هناك تعيّن في الجملة الأخيرة، فكذلك هناك تعيّن في الجملة الأُولى ـ مثلاً ـ، وإذا كان في الجملة الأخيرة خصوصيّة أنّه الأقرب إلى الاستثناء، ففي الجملة الأُولى خصوصيّة أنّها الأبعد.
وهذا الكلام بهذا الشكل قد يُعدّ من الغرائب؛ إذ خصوصيّة الأقرب واضحة، وأمّا خصوصيّة التعيّن في الأبعد بلحاظ ارتباطها بالاستثناء، فهي غير واضحة.
لكلام الكفاية تتمّة، يقول: إذا وصل الأمر إلى حدٍّ لم يمكنّا فيه التعيين فالقدر المتيقّن الرجوع إلى الجملة الأخيرة. ويستشفّ من كلامه أنّه في غير الجملة الأخيرة يقع الإجمال بين عموم العامّ وإطلاق المطلق شمولاً لمورد الاستثناء وبين إمكانيّة رجوع الاستثناء إلى غير الجملة الأخيرة. فالجملة الأخيرة قطعاً لا نتمسّك فيها بالإطلاق أو بالعموم؛ إذ هي القدر المتيقّن. وأمّا غيرها، فحيث إنّه يدور الأمر بين التمسّك بين عمومها وإطلاقها من جهة، وبين كونها مورداً للاستثناء من جهة ثانية، فيجمل؛ لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة حينئذٍ.
وهذا الكلام لا بأس به، لكنّه في حدّ نفسه كلام كلّيّ.
في المقابل، نعترف بأنّه ليس من دأب الأصوليّ أن يتتبّع كلّ جملة مفترضة في المقام، أي: كلّ مجموعة جمل تُعقّبت باستثناء يمكن أن يكون مرجعه الأخير ويمكن أن يكون مرجعه الجميع؛ إذ الجمل المفترضة في المقام من حيث تقديم المحمول وتأخيره والعطف بالواو أو بعاطفٍ آخر أو القطع عن العطف، كما لو قال: أكرم العلماء، أضف السادة، أطعم الفقراء، أو تقديم الموضوعات وتأخير المحمول، أو تقديم المحمولات وتأخير الموضوع وحده، كما لو قال: أكرم وأطعم وأضف العلماء إلّا الفسّاق، ومن الواضح: أنّ كلّ هذا يخضع للقانون اللّغويّ وللاستظهار عرفاً من الكلام.
ومن هنا، قال المحقّق النائيني رحمه‌الله: إنّ الجمل المتعدّدة فيها موضوع وفيها محمول، فإمّا أن يتّحد الموضوع والمحمول، وإمّا أن يختلفا، وإمّا أن يتّحد الموضوع ويتعدّد المحمول أو بالعكس.
ونقول: ليس من دأب الأصوليّ أن يبحث في كلّ جملةٍ جملة ويستظهر منها، بل المهمّ هو الأخذ بزمام البحث بأيدينا.
ولا بدّ لذلك من الرجوع إلى القواعد العربيّة العرفيّة، لا فلسفة النحو والتحليلات؛ لأنّ الحجّة في هذا المقام هو الاستظهار، ولا عبرة على مستوى الحجّيّة بتطرّق الاحتمالات في مقابل الاحتمال الراجح المستظهر من الكلام؛ لأنّ الحجّيّة للظهور، وليس لخصوص الدلالة النصوصيّة. من هنا، نجد في بعض الجمل وضوح رجوع الاستثناء إلى الجميع، لا أقلّ في جمل ثلاث:
أُولاها: التي ذُكر الموضوع فيها مظهراً ثمّ أُضمر في الثانية والثالثة، كما لو قال: أكرم العلماء وأضفهم وبجّلهم إلّا الفسّاق منهم. فإنّ المستظهر هنا ـ بلا كلام ـ هو رجوع الاستثناء إلى الجميع، والنكتة في هذا هو أنّ وحدة الضمير سياقاً تقتضي أن يكون مرجع جميع الضمائر المتّحدة سنخاً هو الاسم الاسم المظهر في أوّل الجملة. هذه هي النكتة العرفيّة.
والثانية: ما لو تعدّد الموضوع واتّحد المحمول وقُدّم الموضوع على المحمول، كما لو قال: العلماء والفقراء والسادة احترمهم إلّا الفسّاق منهم، فهنا لا يُشكّ في رجوعه إلى الجميع؛ لأنّ الجمل وإن كانت متعدّدة، لكن من الواضح أنّها في قوّة جملةٍ واحدة من هذه الجهة. والتغيّر هنا في الموضوع، كما هو واضح.
فالعبرة بصياغة الجمل، لا بوحدة الموضوع والمحمول.
في بعض الجملة يُستظهر الرجوع إلى الجملة الأخيرة خاصّةً، كما لو قال: أكرم العلماء واحترمهم وصلّ خلف العلماء إلّا الفاسق منهم. فلا يشكّ العرف هنا في أنّ الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة وحدها، لا لارتكاز أنّ الصلاة لا تكون إلّا خلف العادل، بل لأنّ العدول عن الضمير إلى التصريح بالاسم، مع أنّ السياق يقتضي الإضمار لو كان وحدة حكم في الجميع، وليست النكتة في المقام إلّا فصل ما بعد واو العطف في الجملة الأخيرة عمّا قبلها، وإلّا، فلماذا يعدل عن الإضمار إلى الإظهار ما دام الموضوع واحداً؟
وهناك صنف ثالث من الجمل يتردّد فيه أبناء العرف، كما لو ورد: أكرم العلماء وأطعم الفقراء وأضف السادة إلّا الفاسق منهم. فهنا كما يمكن رجوع الاستثناء إلى الأخير خاصّةً، يمكن بنفس الدرجة رجوعه إلى الجميع؛ لأنّ العطف في قوّة التكرار، فيمكن أن يكون قرينة على تكرّر الاستثناء، لكن إثباتاً لا يوجد جزم بهذا؛ إذ كما يمكن أن يكون العطف بلحاظ الحكم الأصليّ، فكذلك يمكن أن يكون بلحاظ الأخير فقط.
إنّما الكلام هنا في نقطةٍ انفرد بإثارتها السيّد الخوئي رحمه‌الله في أبحاثه، وهي ما لو تردّد أمر الاستثناء بين الجملة الأخيرة وجميع الجملة، فلا شكّ في أنّ الجملة الأخيرة هي القدر المتيقّن الذي يرجع إليه الاستثناء، أي: حكماً هي التي استُثني منها. وإنّما الكلام في أنّنا هل نذهب مذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله والجماعة من إجمال العموم والشمول في الجملتين الأُولى والثانية؛ لاحتفاف الكلام بما يكون صالحاً للقرينيّة؛ إذ يصلح الاستثناء ـ ثبوتاً ـ للرجوع إلى الجملة الأُولى والثانية، فيكون الاستثناء للفسّاق أيضاً من الجملتين الأُولى والثانية.
فأفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله ما خلاصته: أنّ هذا الكلام كثيراً ما يُطلق في كلمات المحقّقين من أنّ احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة على التخصيص (لا يختصّ الكلام بالعموم، بل يجري في الإطلاق أيضاً)، ولو لم نُحرز التخصيص، يمنع من انعقاد العموم وضعاً، وفي باب الإطلاق يمنع من انعقاد الإطلاق، وهكذا.. فقال: يُطلق المحقّقون ذلك في كلامهم لكنّهم لا ينقّحونها في مكان، ونحن نريد هنا تنقيحها، فقال: إنّ هذا الكلام ليس صحيحاً على إطلاقه، بمعنى: أنّه ليس كلّ شيء يُحتمل كونه قرينة فهو يمنع من انعقاد الظهور العموميّ أو الإطلاقيّ أو الأمر أو النهي أو نحو ذلك، بل ما يصلح للقرينيّة على قسمين:
القسم الأوّل: ما يصلح للقرينية في حدّ نفسه، لكنّه لا يشكّل أسلوباً عقلائيّاً متعارفاً عند أبناء المحاورة في مقام إبداء القرينة، كما لو كان المتكلّم يتكلّم ثمّ أخفض صوته، واحتملْنا أنّه بتعمّد إخفاض صوته أتى بقرينة على خلاف الظاهر، أو تكلّم همساً في أذن صاحبه، فاحتملنا أنّه أتى بقرينة على خلاف الظاهر. فالشكّ هنا ليس في دلالة القرينة، وليس بسبب الشكّ في ما وُضعت له، أو في المراد منها، بل الشكّ في أصل إبراز قرينة أو عدم إبرازها، فقد يكون تكلّم بجملة معترضة لا علاقة لها بمحلّ الكلام. فهنا، وإن كنّا نشكّ في إبداء القرينة، لكنّ هذا لا يمنع عند أبناء المحاورة من التمسّك بالظهور، سواء كان عموماً أو إطلاقاً أو أمراً أو نحو ذلك. والسرّ في ذلك: أنّ هذا الأسلوب من إبداء القرينة ليس أسلوباً متعارفاً عند أبناء العرف في مقام الإبداء والإظهار.
والقسم الثاني: أن يتكلّم المتكلّم بكلامٍ في ثنايا كلامه بشكلٍ صريح وواضح، لكنّ المتلقّي يجهل أنّ هذا قرينة أو ليس بقرينة، كما في حالات إجمال المخصّص المتّصل مفهوماً، كما لو جهلنا أنّ الفاسق هو خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعمّ منه ومن مرتكب الصغيرة، أو هو أفاده بكلامٍ بيّن، لكنّ المتلقّي ذهل عن هذا الكلام، ولم يسمع جيّداً، فهو يعرف أنّه أفاد، فيحتمل أنّه أبرز قرينة، والظهور لا ينعقد إلّا بتماميّة الكلام، ففي مثل هذا يمنع من التمسّك بالظهور؛ لأنّ الكلام حقيقةً محتفّ بما يصلح للقرينيّة، والمشكلة في المتلقّي، لا في اقتضاء الكلام. هو لم يتوصّل للمعرفة بما وُضعت له كلمة الفاسق ـ مثلاً ـ في لسان الشارع.
يقول السيّد الخوئي رحمه‌الله: فإذا جئنا إلى محلّ الكلام فمن الواضح: أنّ الموارد التي يتردّد فيها ضمير الاستثناء بين الرجوع إلى الجملة الأخيرة، وبين الرجوع إلى بقيّة الجمل، هي من النوع الأوّل، لا الثاني؛ لأنّ الكلام بحسب المتعارف ليس له صلاحية متعارفة للرجوع إلى جميع الجمل، وإن كان يمكن أن يريد منه صاحبه ذلك، لكنّه هو ليس له هذه الصلاحية المتعارفة ليرجع إلى الجميع في إطار المحاورة، لا أنّ المشكلة كانت في المتلقّي، فمن يأتي بقرينة يريدها قرينة عليه بحسب التعهّد العقلائيّ العامّ أن يُبرزها بأسلوبٍ واضح من طرفه. لكن إذا هو استخدم كلاماً هو في المتعارف من أساليب اللّغة التي يعرفها المتلقّي جيّداً لا يصلح ليكون قرينة على البقيّة، ومقتضى حكمته كمخاطِب أن لا يكون قد جاء بها قرينة للجميع.
وعليه: فحينئذٍ: لا يكون احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة مانعاً من التمسّك بالظهور الإطلاقيّ. والنتيجة ـ عند السيّد الخوئي رحمه‌الله ـ : أنّنا نتمسّك فقهيّاً بالعموم في الجملة الأُولى وفي الجملة الثانية، ولا نتمسّك به في الثالثة، لا لأنّه ثبت لدينا أنّ المرجع هو الثالثة؛ إذ الثالثة هي مرجع على كلّ حال، إمّا وحدها، أو هي مع ما قبلها.
فهل ما أفاده رحمه‌الله دقيق وصحيح في الشقّين؟ أم أنّه يحتاج إلى شيءٍ من التمحيص والتحقيق؟

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo