< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/23

بسم الله الرحمن الرحیم

يقع الكلام في الموقف الثالث عشر.
وهو معقود للبحث عن جواز تخصيص عموم الدليل القطعيّ بخبر الواحد.
وقد جرت العادة على عنونة هذا البحث بعنوان: تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد. ما يُوهم أنّ هناك خصوصيّة لقرآنيّة العامّ. مع أنّ المراجع للبحث يرى أنّ السبب في عقده هو تخصيص قطعيّ الصدور بظنّيّ الصدور. ما يشمل تخصيص عموم الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة القطعيّة الدالّة على الصدور.
ولا يخفى: أنّ هذا البحث إنّما يُتطرّق إليه بعد الفراغ عن كبريين في علم الأصول:
الأُولى: كبرى حجّيّة خبر الواحد الظنّيّ الصدور.
والثانية: كبرى قاعدة الجمع العرفيّ، حيث تكون النسبة بين الدليلين العموم والخصوص المطلق.
كما لا يخفى: أنّ هذا البحث وإن طُرح في مباحث العموم، لكنّه لا يختصّ بها، بل يشمله والإطلاق؛ لاتّحاد مجرى البحث فيهما.
وبعد هذا وذاك، وقع الكلام بين المحقّقين في جواز تخصيص العموم القطعيّ بالخصوص الظنّيّ الصدور. ولا شكّ في أنّ محلّ البحث هو ما لو كان بين الدلالتين جمع عرفيّ، لا فيما لو كان العموم أو الإطلاق آبياً عن التخصيص والتقييد، فإنّ هذا يمنع من الجمع العرفيّ حتّى لو كان الدليلان ظنّيّي الصدور لكن قام الدليل القطعيّ على حجّيّتهما.
ثمّ إنّ هذا البحث هو في حقيقته يرجع إلى إضافة قيدٍ مزعومٍ في حجّيّة خبر الواحد؛ إذ يُدّعى ـ بعد الفراغ عن كبرى حجّيّة خبر الواحد ـ أنّه يشترط في حجّيّته أن لا يكون مخالفاً لدليلٍ قطعيّ الصدور. وهو تفصيل من التفصيلات التي تُذكر في محلّها.
فالمحلّ المناسب للحديث عن هذا البحث هو مباحث حجّيّة خبر الواحد، عندما نبحث في تحديد دائرة حجّيّة الخبر الثابت بالأدلّة يُبحث هنالك عن المقدار الذي تقتضيه أدلّة حجّيّة الخبر، ويُبحث كذلك عن وجود مقيِّدٍ أو مخصّص لهذه الأدلّة. أي: تارةً يُبحث في مرتبة المقتضي، وأُخرى في مرتبة المانع.
كما أنّ من المحالّ التي يناسب بحث التخصيص المذكور فيه هو مبحث قواعد الجمع العرفيّ، من مباحث تنقيح العلاقة بين الأدلّة اللّفظيّة، وهو المعبَّر عنه اصطلاحاً بـ تعارض الأدلّة الشرعيّة، أو مبحث التعادل والترجيح (التعادل والترجيح إنّما يكون في التعارض المستقرّ).
والسبب في هذه المناسبة أنّ إحدى الشبهات التي تُثار في المقام لمنع تخصيص الدليل القطعيّ بخبر الواحد هي الروايات الواردة في ما وافق أو خالف الكتاب الكريم والسنّة النبويّة المطهّرة، بعد حمل السنّة على الدليل القطعيّ؛ إذ لا خصوصيّة لها سوى ذلك، وكيف كان، فقد جرت عادة المحقّقين من علماء الأصول على أن يبحثوا هذا البحث في المقام؛ فإنّه أيضاً من المحالّ المناسبة لعقده، ولو كان أقلّ مناسبةً من الموردين السابقين.
وقد بات واضحاً أنّه لا بدّ من الحديث فيه في مقامين:
المقام الأوّل: في أنّ أدلّة حجّيّة الخبر هل تنهض دليلاً عليه حتّى لو خالف دليلاً قطعيّاً بنحو العموم والخصوص المطلق، ومعنى: نهوض الدليل، بضميمة كبرى التخصيص عرفاً، هو القول بالتخصيص لو لم يمنع مانع.
من هنا، أُثيرت شبهة ذكرها صاحب المعالم رحمه‌الله، خلاصتها: أنّ دليل حجّيّة الخبر هو الإجماع، وهو دليل لبّيّ يقتصر فيه على القدر المتيقّن، وربما أمكن الاستظهار من عبارته أنّ المراد من الإجماع أعمّ من الإجماع القوليّ، أي: فتاوى الأصحاب، والإجماع العمليّ، أي: سيرة المتشرّعة. وحينئذٍ: فلا دليل على الحجّيّة مطلقاً بحيث يُدّعى شموله لمحلّ الكلام.
وهذا البحث كما ترى بحث مبنائيّ؛ إذ هذا الإشكال إنّما يتمّ عند من لا يرى قيام دليل لفظيّ أو ارتكازيّ عامّ على حجّيّة خبر الواحد. وأمّا لو آمنّا بدلالة الأدلّة اللّفظيّة على حجّيّة خبر الواحد كمفهوم آية النبأ أو آية النفر أو غيرهما، فإنّ من الواضح عدم الاختصاص بغير هذا المورد، أي: مورد التعارض غير المستقرّ بنحو العموم والخصوص؛ إذ ليس في هذه الأدلّة دليل يَقصر من حيث الدلالة ـ على تقدير تسليمها ـ عن الشمول لمحلّ الكلام.
وكذلك الحديث فيما لو آمنّا بتواتر الروايات على حجّيّة خبر الواحد مطلقاً، كما زعم غير واحدٍ من المحقّقين، وشيّد هذه الدعوى السيّد البروجرديّ رحمه‌الله حيث جمع أكثر من مائة ونيّف من الروايات في المجلّد الأوّل من كتاب جامع أحاديث الشيعة زعم دلالتها من حيث المجموع على كبرى حجّيّة خبر الواحد من غير تفصيل.
ونحن قد بحثنا ذلك مفصّلاً، وقسّمنا الروايات إلى طوائف تبعاً للشهيد الصدر رحمه‌الله، ولم ننتهِ إلى طائفة متواترة دالّة على حجّيّة الخبر على إطلاقه. نعم، تدلّ الطوائف بنحو العموم الإجماليّ، والقضيّة المهملة، على الفراغ عن حجّيّة خبر الواحد جزماً في الجملة. وإلّا، فإنّ ما كان منها ظاهر الدلالة على الكبرى على إطلاقها ليست سوى أخبار آحاد، ولم ترقَ إلى مستوى التواتر، وإن اشتهرت، ولا نستطيع الاستدلال بخبر الواحد على حجّيّة خبر الواحد؛ لدوريّة الاستدلال كما هو واضح.
وكذلك الكلام فيما لو استدللنا على حجّيّة خبر الواحد بالسيرة والارتكاز العقلائيّين؛ فإنّ هذه السيرة ـ وهي العمدة في حجّيّة خبر الواحد ـ لا شكّ في أنّها بمقتضى الارتكاز العقلائيّ لا تفرّق ولا تفصّل بين التنافي العرفيّ لخبر الواحد مع دليلٍ قطعيّ الصدور ظنّيّ الدلالة، وبين ما لو كان الدليل غير قطعيّ الصدور؛ إذ العقلاء بارتكازهم لا يعملون بخبر الواحد إلّا من باب كاشفيّته النوعيّة، وإيجابه الوثوق النوعيّ لديهم. وأمّا الوثوق الشخصيّ، فهو لا ينضبط، بل يختلف باختلاف الحالات النفسيّة للأشخاص، كما هو واضح. وهذا بحث تقدّم مفصّلاً في محلّه.
على أنّنا نشكّك فيما ورد في الشبهة؛ ذلك أنّ الإجماع المزعوم دليلاً على حجّيّة الخبر، لو تمّ (لم يتمّ كإجماع تعبّديّ)، فهو ليس سوى دعوى الشيخ الطوسيّ رحمه‌الله إجماع الطائفة على العمل بهذه الأخبار، وإلّا، فإنّ الشيخ المفيد والسيّد الرتضى يُستشفّ منهما الإجماع على عدم العمل وجواز العمل بخبر الواحد، فلو سُلّم هذا الإجماع، فإنّ معقده في كلام الشيخ رحمه‌الله إنّما هو هذه الأخبار المودعة في الكتب، ولا شكّ في أنّ جلّ هذه الأخبار هي في حقيقتها تقييد لعمومات ومطلقات في الكتاب، أو كثير منها على أقلّ تقدير؛ إذ من الوضوح بمكان، أنّنا لو كنّا ومطلقات التشريع الواردة في الكتاب، ولم نقيّدها بأخبار الآحاد، لما أمكننا تقييد قانون النكاح والبيع والربا والصلاة والصوم و... بالروايات الكثيرة الواردة في إثبات شرائط أو موانع للعبادات والمعاملات. ففي مثل: وحرّم الربا، ـ مثلاً ـ، لم يمكن تقييد الآية بمثل الأحاديث الدالّة على جواز الربا بين الوالد والولد أو بين الزوج والزوجة. وفي مثل: حل نساء أهل الكتاب، لم يمكن التقييد بالمنقطع دون الدائم، وهكذا.
ولا شكّ في أنّ إجماع الشيخ رحمه‌الله ناتج من كشف عمل الأصحاب، كما هو صريح عبارته في العدّة، وليس شيئاً في مقابل السيرة المتشرّعيّة والإجماع العمليّ، بل هو ادّعى ذلك في مقابل أستاذه المفيد وغيره والقاضي ابن البرّاج، الذين نُقل عنهم (وإن يشكل هنا كون نظر الشيخ إلى ابن البرّاج، بل وإلى السيّد المرتضى)، فهو إنّما ادّعى الإجماع من جهة وجدانه عمل الطائفة بهذه الروايات، ولا شكّ في أنّ من سبر عمل الطائفة وجدها عاملةً بأكثر ومعظم هذه الأخبار، بمعزل عن خبرٍ معيّن ضمن شرائط خاصّة، وخصوصاً على ما جروا عليه من مصطلح الصحّة عندهم، من العمل بموثوق الصدور وإن لم يكن رواته ثقات.
وعلى هذا الأساس، فحتّى لو تنزّلنا وقصرنا الدليل على حجّيّة خبر الواحد بهذا الإجماع القوليّ أو العمليّ، وهما شيء واحد؛ لأنّ مآلهما إلى شيء واحد، فإنّه يمكننا أن نزعم بأنّ هذا العمل شامل للأخبار المقيّدة والمخصّصة والحاكمة على عمومات ومطلقات الكتاب أو الأدلّة القطعيّة.
وحاول السيّد الخوئي رحمه‌الله الذي آمن بمجرى البحث وقَبِل نتائجه أن يناقش في تفصيلٍ واحد ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله، وهو دعوى: أنّ جلّ هذه الأخبار هي مخصّصات ومقيّدات لعمومات الكتاب ومطلقاته، بأنّ الأمر ليس كذلك؛ إذ كلّ من سبر الفقه وأبوابه فهو لا يرى أنّ معظم هذه الأخبار هي كذلك، بل في بعض الحالات يوجد تقييد، كما في باب الربا، وهو قد مثّل بالربا، ذلك أنّه لا يوجد في الكتاب ما يدلّ على مثل هذه الإطلاقات في أبواب المعاملات والعبادات. ولم يبيّن أكثر من هذا.
وهذا الكلام حتّى تُدفع غرابته لا بدّ وأن يكون ناظراً إلى ما لم يُصرَّح به في التقرير، وهو دعوى أنّ التشريعات الواردة في الكتاب، مثل أحلّ الله البيع، أو أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، أو كتب عليكم الصيام، أنّها مهملات، لا مطلقات. ذلك أنّ وجود مثل هذه الأدلّة في الكتاب وجدانيّ لا شكّ فيه، بأن يُقال: إنّ القرآن الكريم ليس في مقام البيان من جهة ما هو الواجب من الصلاة، أو من الصوم، أو الزكاة، أو..، فتكون الروايات التي وردت لبيان الشرائط والضوابط والموانع ليست مقيِّدات لإطلاقات وعمومات؛ ذلك أنّه لا يوجد إطلاق وعموم يُتمسّك به في مواردها، فتكون معظم الروايات مضيفةً أمراً لم يتعرّض له التشريع في الكتاب. وإلّا، فلولا كون مراده هو هذا، لما صحّت دعواه بوجه. وإذا كان الأمر كذلك، يمكن أن يقال: إنّ هذا خلاف ظاهر هذه الموارد من الآيات والروايات؛ إذ لا شكّ في أنّ الأساس في التشريع هو القرآن الكريم، ولولا البيانات الواردة في السنّة المطهّرة في التقييدات وبيان الشرائط والموانع لكنّا وهذه الإطلاقات، واستفدنا منها حلّيّة كلّ ما يسمّى بيعاً ونكاحاً في العرف، وإلى ما هنالك، ودعوى أنّ الكتاب مجملات أو مهملات، لا ينبغي المصير إليها بوجه، وهي في قوّة إسقاط دلالة الكتاب بنحوٍ من الأنحاء.
نعم، في بعض الحالات الخاصّة، لاكتناف الأمر بملابساته الخاصّة، ربما يُقال بعدم حجّيّة عموم من العمومات أو مطلق من المطلقات، لكن لا ينبغي تصيير ذلك قاعدةً عامّة؛ إذ حلّيّة النكاح المشروعة في الكتاب تُحمل على أنّه هو المتعارف ممّا يُسمّى نكاحاً عند العرف، جاءت بعد ذلك الروايات وقيّدت الزوج بقيود، والزوجة بقيود، وعقد الزواج بقيود، وكذلك حرمة الربا وحلّيّة البيع، وهكذا. فكلّ الروايات التي تتعرّض لما لم يتعرّض له الكتاب هي في الحقيقة تقييدات لهذه الإطلاقات.
وعليه: فمدّعى صاحب الكفاية رحمه‌الله من أنّ جلّ الروايات هي من قبيل المقيِّدات لعمومات ومطلقات الكتاب، ممّا لا شكّ فيه. فالروايات المتواترة إجمالاً الداعية إلى العمل بخبر الواحد، ولو في الجملة، لا تنفكّ عن الفرار عن دعوى حجّيّة ما كان مخالفاً للكتاب بهذا النحو من أنحاء المخالفة، وإلّا، للزم أن لا يبقى مورد معتدّ به لهذه الروايات الداعية والنادبة للعمل بأخبار مرويّة عنهم(.
ودعوى أنّ هذه الروايات ناظرة إلى الروايات من دون واسطة، أي: في حقّ المتلقّي مباشرةً من المعصوم، وهي قطعيّة الصدور.
فيها ما لا ينبغي؛ إذ جملة كبيرة من هذه الروايات صدرت عن الأئمّة المتأخّرين(، وكانت الروايات مع واسطةٍ ووسائطين شائعين.
إذاً، فلا ينبغي الشكّ في المقام الأوّل في أنّ أدلّة حجّيّة خبر الواحد ناهضة للدلالة على حجّيّة كلّ خبرٍ حتّى لو نافى الكتاب بنحو العموم والخصوص المطلق. وكذلك الخبر القطعيّ الصدور.
على أنّ جملة من المحقّقين إنّما أثاروا هذا البحث في تخصيص وتقييد الكتاب، مع أنّهم متّفقون على جواز تخصيص الخبر المتواتر بخبر الواحد، مع أنّهما من وادٍ واحد، لا أقلّ على مستوى الاقتضاء، بعض الروايات على مستوى المانع اختصّت بالكتاب.
يأتي الحديث في المقام الثاني.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo