< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/27

بسم الله الرحمن الرحیم

انتهينا إلى المقام الثاني، حيث ثبت في المقام الأوّل أنّه ليس في دليل حجّيّة خبر الواحد قصور في العموم والشمول لما لو كان خبر الواحد على خلاف عمومٍ أو إطلاق قرآنيّ أو دليل قطعيّ.
وفي المقام الثاني قد يُدّعى وجود مانع يمنع من إتمام هذا المقتضي الموجود، وهذا المانع قد يُدّعى على مستوى قاعدة، وقد يُدّعى على مستوى دليل خاصّ.
أمّا على مستوى القاعدة، فهناك طريقان للاستدلال:
الطريق الأوّل: القول بأنّ خبر الواحد إذا خالف عموماً أو إطلاقاً قرآنيّاً، فإنّ المخالفة في الحقيقة هي بين دليل قطعيّ ودليل ظنّيّ، ومن الواضح: أنّ الدليل الظنّيّ الصدور لا يصمد أمام الدليل القطعيّ؛ ذلك أنّ حجّيّة القطعيّ ذاتيّة، كما هو واضح.
وهذا النمط من الاستدلال يحتاج إلى شرح، قبل مناقشته، وخلاصة شرحه: أنّ التنافي تنافٍ بين دلالتين، إحداهما: دلالة العامّ أو المطلق القرآنيّ، والأُخرى: دلالة الخبر الذي هو من أخبار الآحاد. ولا يخفى: أنّ هذا التنافي بين الدلالتين قد تكون الدلالة القطعيّة فيه، كما هي العادة، في طرف الخاصّ، لا العامّ؛ إذ لا ملازمة غالباً بين كون الدليل قطعيّاً على مستوى الإسناد، وبين كونه قطعيّاً على مستوى الدلالة، كما أنّه لا ملازمة بين كون الدليل ظنّيّاً على مستوى الإسناد، وبين كونه كذلك على مستوى الدلالة، فلا بدّ أن يكون مراد المستدلّ في المقام منافاة الدليل القطعيّ سنداً بالدليل الظنّيّ على مستوى الصدور والسند.
فيُقال: إنّ الدليل الظنّيّ سنداً لا يعارض ولا يقاوم الدليل القطعيّ سنداً؛ إذ ذاك مقطوع الصدور من الشارع، وهذا مظنون الصدور، وإن قام دليل على حجّيّته، لكنّ حجّيّته لا تقلبه وجداناً عمّا هو عليه من كونه ظنّيّ الصدور.
هذا الاستدلال، بهذا القدر من البيان، واضح الإشكال؛ إذ من الواضح أنّ التنافي ـ وسيأتي شرح هذا الأمر في بحث التعادل والترجيح ـ الذي مركزه بالذات عالم الدلالة، لا يُنتقل منه إلى السند، ولا يسري التنافي إلى السند ما دام هناك مجال لحجّيّة السند، كما هو واضح. وإنّما يسري التنافي فيما لو كان علاج الأمر على مستوى الدلالة غير ممكن مع حفظ حجّيّة السند؛ لأنّ السريان من عالم الدلالة على مستوى التنافي إلى عالم السند يحتاج إلى دليل، إمّا لفظيّ وإمّا لبّيّ، ففي حالاتٍ يلزم منها سقوط دليل حجّيّة السند في المورد؛ إذ يصبح التعبّد به لغويّاً، يُقال: إنّ دليل السند بذاته شامل للرواية الأُولى ـ مثلاً ـ، وحيث إنّ هناك رواية أقوى منها، أو دليل قطعيّ ينافيها ويعارضها بالتباين، فيسقطها عن الحجّيّة، يصبح التعبّد بالسند لغويّاً، فلا يمكن شمول دليل التعبّد بالسند لروايةٍ لا تنتهي إلى حجّيّة في مقام العمل.
ففي محلّ الكلام، من الواضح: أنّ الدليلين إذا عُرضا على العرف، وكان أحدهما عامّاً والآخر خاصّاً، لا يفهم العرف منهما إلّا أنّ الخاصّ أو المقيِّد قرينة أعدّها المتكلّم إعداداً متعارفاً عند أهل المحاورة لبيان مراده الجدّيّ من الشمول والعموم، وأنّه ليس هو المراد بعرضه العريض، كما كان يظهر من الدليل الأوّل، ومن هنا، لا يتردّد العرف في الجمع بين الكلامين؛ لأنّهما كلامان لمتكلّم واحد حكيم، وخصوصاً إذا كان هذا المتكلّم هو المشرّع.
ومن هنا، فإنّ العرف يعالج التنافي بين الدليلين على مستوى الدلالة، ومع المعالجة على مستوى الدلالة، يبقى سند الخاصّ حجّة؛ لأنّ النتيجة قد حُسمت في مورد المنافاة لصالحه، وحجّيّته سالمة بالكامل، وعلى مستوى العامّ، فهو يبقى حجّةً أيضاً؛ ذلك أنّ العرف وإن رأى منافاة بدويّة، لكنّها منافاة غير مستقرّة، بل المخرج منها هو اعتقاد عقلائيّة الحكيم المشرّع المتكلّم واعتماده أسلوباً يعتمده أبناء العرف لنكتةٍ، ودليله العامّ وإن لم يبقَ على عمومه، لكنّه سلِمت دلالته حجّيّةً في غالبها؛ إذ لا يكون التخصيص كثيراً ولا أكثريّاً، وعليه: فهذا التخصيص ليس من سنخ التخصيص القبيح.
يبقى تساؤل، ليس هنا محلّ بحثه، وهو أنّه لماذا يعتمد الشارع في كلماته أسلوب التعميم ثمّ التخصيص؟ كما أنّه لماذا يعتمد شارعنا كثيراً على التخصيص بالقرائن المنفصلة؟ كما أنّه لماذا يعتمد كثيراً على المخصّصات المنفصلة بعد حضور وقت العمل بالعمومات والمطلقات، والذي سُلّم عند العقلاء أنّه من القبائح؛ إذ يقبح التخصيص بعد حضور وقت العمل. وسيأتي الكلام فيه في الموقف الآتي.
وعلى هذا الأساس، يتّضح أنّه في باب الجمع العرفيّ لا يسري التنافي من الدلالة إلى السند، ومعه: فالمنافاة لدليل ظنّيّ الصدور مع دليل قطعيّ الصدور لا مانع منها، ما دام مركز المنافاة ليس جهة الظنّيّة وجهة القطعيّة المرتبطة بالسند. وهذا هو الحلّ الحقيقيّ لهذه المنافاة.
ولا يُصغى إلى ما هو موجود في كلمات بعض الأعاظم من أنّه لا منافاة هنا؛ إذ لو كان مرادهم أنّه لا منافاة بين الدلالتين، فهذا خلاف الوجدان، ومن الواضح: أنّ التعميم ينافي التخصيص. وإن كان مرادهم أنّه لا منافاة مستقرّة، فلا بأس. لكنّ ظاهر كلماتهم هو الأوّل. ولا شكّ في أنّ مرادهم من هذا ليس هو إنكار المنافاة البدويّة؛ إذ هذا لا ينكره ذو مسكة، كما هو واضح، بل المراد إنكار المنافاة بالحمل الشائع الصناعيّ، أي: المنافاة المستمرّة المستقرّة. وعليه: فلا منازعة في التعبير.
نعم، حاولت مدرسة المحقّق النائيني رحمه‌الله أن تجرّ المنافاة إلى كونها منافاة بين دليلين قطعيّين، لا بين دليل ظنّيّ وآخر قطعيّ، ببيان: أنّ دليل حجّيّة السند دليل قطعيّ، ودليل حجّيّة الكتاب دليل قطعيّ أيضاً، فقطعيّة دليل حجّيّة السند تصبح هي مركز المنافاة مع دليل حجّيّة الكتاب (وهو القطع). وعليه: يُقال: إنّ المنافاة بين دليل حجّيّة السند، الذي هو قطعيّ (كالسيرة العقلائيّة أو الإجماع)، وبين دليل حجّيّة الصدور في القرآن، والذي هو دليل قطعيّ أيضاً، هو تنافٍ بين دليل قطعيّ ودليل آخر قطعيّ، والنسبة بينهما وإن كانت العموم والخصوص من وجه؛ إذ هنالك دلالات قرآنيّة ليس على منافاتها أخبار، وهناك أخبار ليست تخصيصات ولا تقييدات لدلالات قرآنيّة، وهناك دلالات قرآنيّة وأخبار آحاد تتنافى بنحو العموم والخصوص المطلق، وهي مادّة الالتقاء، وإن كانت المنافاة بنحو العموم والخصوص من وجه، لكنّ النتيجة لا بدّ أن تكون لصالح الدليل الدالّ على حجّيّة خبر الواحد؛ لأنّنا نعلم بصدور معظم الأخبار، أو كثيرٍ منها، وهي على خلافها عمومات أو إطلاقات قرآنيّة.
وهذا الكلام الأخير، وإن لم يرتضه السيّد الخوئي رحمه‌الله، وقد تقدّم الكلام فيه، لكنّه رحمه‌الله ذكر أنّ معقد سيرة الأصحاب التي هي الدليل القطعيّ؛ إذ لا شكّ في أنّ مورد عملهم في كثيرٍ منه أخبار هي تقييدات لعمومات ومطلقات، بحيث لو لم تكن هذه الأخبار حجّةً لكَثُر البيان والسؤال، مع أنّ المقطوع هو العكس.
عموماً، لسنا بحاجةٍ إلى هذا الوجه النائيني؛ لأنّ هذا الوجه فرع سريان التنافي والتعارض إلى السند، ولا شكّ في أنّ التنافي الذي يُحلّ على مستوى الجمع العرفيّ والقرينيّة الدلاليّة لا يسري إلى السند ليضيق الأمر بنا إلى مثل هذه البيانات.
الطريق الثاني: أن يُدّعى أنّه لو جاز تخصيص عموم أو إطلاق الكتاب بأخبار الآحاد لجاز نسخه بها، والثاني باطل، فالأوّل مثله. وجه الملازمة: أنّهما من وادٍ واحد؛ إذ كما أنّه يمكن رفع الدلالة القرآنيّة تخصيصاً بدليل حجّيّة السند، يمكن رفع الحكم القرآنيّ من أساسه أزمانيّاً؛ إذ هذا هو معنى النسخ، أن يكون الدليل بتمامه حجّةً إلى أمدٍ معيّن، على خلاف ظاهره بدلالة الدليل الناسخ، وهو تخصيص أزمانيّ في الحقيقة؛ إذ يرفعه من أساسه من حينه فصاعداً، بينما التخصيص يرفع بعض مدلوله من الأوّل، أفراديّاً أو أحواليّاً. وعليه: فهما من وادٍ واحد، فهذا ليس قياساً، يعني: دليل حجّيّة السند يشمل خبر الواحد الثقة، سواء كان مخصّصاً أم ناسخاً في حدّ نفسه، والتخصيص والنسخ كلاهما تقييد، فالنسخ تقييد أزمانيّ، والتخصيص تقييد أفراديّ أو أحواليّ، فالنتيجة واحدة، فبطلان نسخ الكتاب بخبر الواحد يُفضي إلى بطلان تخصيصه بخبر الواحد.
والجواب: أنّنا على مستوى القاعدة نسلّم بذلك، لكنّ النتيجة بالعكس؛ إذ لا شكّ في أنّه على مستوى الصناعة والدليل فإنّ الأدلّة تنهض لحجّيّة خبر الواحد نسخاً وتخصيصاً معاً، لا العكس، غاية الأمر: أنّ من المقطوع به عدم وقوع النسخ لأحكام قرآنيّة في دائرة السنّة المطهّرة. وهو ما تجلّى في كلماتٍ جملةٍ بأنّه إجماع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، وإلّا، فلا توجد مشكلة في التخصيص أو التقييد الأزمانيّ للأدلّة القرآنيّة.
هذا على مستوى القاعدة.
وأمّا على مستوى الدليل الخاصّ، فالدليل الخاصّ ليس شيئاً سوى ما سيأتي بحثه في مبحث تعارض الأدلّة؛ إذ يُدّعى هناك وجود روايات دلّت على عدم حجّيّة ما خالف الكتاب.
وهذه الروايات البحث فيها طويل الذيل، وهي على طوائف. الواضح منها هناك أربع طوائف. وأصرحها دلالةً ومدلولاً الروايات التي وصفت المخالف للكتاب بأنّه زخرف، أو أنّه يُضرب به عرض الجدار، أو لم نقله، فمن الواضح أنّ هذه الروايات بعضها روايات علاج وبعضها روايات عرض وبعضها روايات طرح، وسيأتي بحثها مفصّلاً.
لكنّ المسلّم في محلّه أنّ مثل هذه الروايات بعضها وارد في ترجيح إحدى الحجّتين على الأُخرى، وهي على الخلاف أدلّ؛ إذ تدلّ على أنّ المخالف في حدّ نفسه حجّة لولا منافاته بنحو التباين أو العموم والخصوص من وجه لروايةٍ أُخرى، كما هو مضمون مقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبي خديجة.
وبعضها وارد في لغة التحاشي، وهذا من المقطوع به أنّه لا يُراد منه المخالفة بالعموم والخصوص، بعد شيوع المخالفة بالعموم والخصوص في الروايات وشيوع العمل بما كان مخالفاً بهذا النحو من أنحاء المخالفة، فيشكّل هذا قرينة قطعيّة على أنّ المراد من المخالفة السنّة أو الرواية التي تكون قاطعة لدلالة قرآنيّة، لا للرواية التي تكون مشذِّبةً مخصِّصةً أو مقيِّدة لدلالة قرآنيّة.
وتمام هذا البحث في محلّه.
فيبقى لهذه الروايات ما كان التنافي فيه من قبيل التباين أو العموم والخصوص من وجه في مادّة الالتقاء، أو ما كان بحكمهما، مثل تخصيص الأكثر.
هذا تمام الكلام في الموقف الثالث عشر.
وهنا موقف رابع عشر، وهو دوران الأمر بين النسخ والتخصيص.
وقد تردّدنا في عقد هذا البحث، ولذا نعقده موجزاً؛ لأنّ البحث فيه لطيف علميّاً، لكن ليس هناك ثمرة له، فليس هناك مورد في الروايات نشكّ في أنّ الرواية فيه ناسخة أو مخصّصة؛ إذ واضح أنّ كلّ الروايات الواردة عنهم( حيث تكون على خلاف عمومات فهي مخصّصات. وما ورد في بعض الروايات من أنّ في حديثنا ناسخاً ومنسوخاً حُمل على الأعمّ.
فالبحث هنا ثبوتيّ، لا إثباتيّ.
فأصل هذا البحث ليس له ثمرة، ولم نعلم إلى الآن فقيهاً تردّد في روايةٍ في أنّها مخصّصة أو ناسخة لروايةٍ أُخرى، فضلاً عن القرآن الكريم؛ إذ الواضح أنّه لم يُنسخ الكتاب بشيءٍ من الروايات، لا القطعيّة ولا غيرها.
وللأسف، فقد جرّ صاحب الكفاية رحمه‌الله البحث هنا إلى النسخ والبداء، وما يتّفقان ويفترقان به من أحكام، مع أنّه بحث خارج عن علم الأصول جملةً وتفصيلاً.
وعليه: فنجاري صاحب الكفاية رحمه‌الله والمحقّقين في الشقّ الأوّل من البحث، دون الثاني.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo