< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/04/06

بسم الله الرحمن الرحیم

انتهينا إلى أنّ التعريف المشهور لا يصمد أمام النقد، حيث تتوجّه إليه عدّة ملاحظات.
ولا يعنينا كثيراً كما أسلفنا الخوض في بحث مفصّل للوصول إلى تعريفٍ يكون بمثابة الحدّ أو الرسم؛ إذ لا طائل تحت ذلك. لكن ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك مزايا تحدّثنا عنها لا بدّ من توفّرها.
نضيف إلى ذلك بعض النقاط المهمّة:
النقطة الأُولى: أنّ المطلق بالاصطلاح الأصوليّ ليس هو اعتبار من اعتبارات الماهيّة وحدها، بل الإطلاق الأصوليّ هو الماهيّة الملحوظة متعلَّقاً لحكمٍ من الأحكام، أو موضوعاً لحكمٍ من الأحكام؛ إذ يُراد من الإطلاق في علم الأصول الإطلاق في سياق الحكم، إمّا التكليفيّ أو الوضعيّ.
صحيح أنّ الأصوليّ ـ كما سيأتي ـ يتحدّث، وربما يُطيل، في اعتبارات الماهيّة، نتيجة دخول الفلسفة في الأصول، لكن أينما ذهب يبقى بحثه في الإطلاق بحثاً عن الماهيّة التي تقع في حيّز حكمٍ من الأحكام الشرعيّة. فلا يصف ـ بما هو أصوليّ ـ ماهيّةً من دون كونها متعلّقاً لحكم بالإطلاق أو بالتقييد. صحيح أنّها نظريّاً وبالمعنى اللّغويّ أو العرفيّ تُوصف بأنّها مطلقة، فيُقال ـ مثلاً ـ : ماهيّة الإنسان من دون لحاظ شيء معها مطلقة، لكن ليس هذا هو الإطلاق في علم الأصول، وخصوصاً الإطلاق عند المتأخّرين.. وهذه نقطة مهمّة جدّاً.
النقطة الثانية: أنّ الإطلاق اختلف الطريق إلى إثباته بين ما قبل سلطان العلماء، (وهذا يُستفاد من طريقة وطرز أبحاثهم وإن لم يصرّحوا به في كلماتهم)، أنّ الإطلاق دلالة لفظيّة، من نفس اللّفظ. بينما من زمن سلطان العلماء فما بعد هو نتيجة أنّ اللّفظ له قابليّة مع ضمّ ظهور حال المتكلّم في أنّه لا يريد ما لا يذكره، أي: مع ضمّ مقدّمات الحكمة. ومن دون ضمّ هذه المقدّمات لا يمكن الحصول على إطلاق فعليّ بالاصطلاح الأصوليّ، على مبنى عموم متأخّري المتأخّرين من الأصوليّين من زمن سلطان العلماء وحتّى يومنا هذا.
وعلى أساس هذه النقطة قد يصعب صياغة تعريفٍ يكون جامعاً بين مبنى ما قبل السلطان ومبنى ما بعد السلطان، إلّا إذا أتينا به مهملاً شيئاً ما.
النقطة الثالثة: أنّ الإطلاق عند الأصوليّ له مصطلح سعيّ منتشر؛ إذ تارةً يُطلق ويُراد منه الشمول للأفراد، من دون ارتباط لأحدها بالآخر، وهو ما ينتج لنا حكماً انحلاليّاً، وأُخرى: يُراد منه صرف الوجود وفرد شائع في جنسه، غاية الأمر: صرف الوجود من الطبيعة، من غير ضميمة. وثالثة: بتعمّل تحويل الأفراد إلى أجزاء، أي: تعمّل إضافة شيء إلى نفس الموضوع له. وفي جميع هذه الحالات الثلاث تكون الدلالة دلالةً بالتحليل العقليّ، وإلّا، فإنّ دلالة اللّفظ لا تكون إلّا على الطبيعة. وأمّا كيفيّة الانطباق، من كونها فعليّةً أو شأنيّة، بنحوٍ من الأنحاء، فهي من التعمّل العقليّ.
نعم، يدخل في الدلالة اللّفظيّة أمر وضعيّ يشكّل قرينة داخليّة أو خارجيّة على أحد النحوين، أي: البدليّ والمجموعيّ. وأمّا الشموليّ، فلا يحتاج إلى قرينة خاصّة. وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على أنّه بأصل الوضع للطبيعة قد يُقال: إنّ اللّفظ موضوع للطبيعة الدالّة على الانطباق على كلّ فردٍ ومصداقٍ من مصاديقها وأفرادها. وأمّا إرادة الوحدة، التي تنتج لنا إطلاقاً بدليّاً، فتحتاج إلى دالٍّ، ولو كان هو التنوين ـ مثلاً ـ، وقد يُقال في قبال ذلك: إنّ الشمول أيضاً يحتاج إلى دالّ، كالألف واللّام؛ فإنّ (عالم) ـ مثلاً ـ في سياق جملة الحكم تنتهي بنا إلى التنوين أو الإضافة أدبيّاً إن لم ندخل عليها الألف واللّام، فتتقيّد بلحاظ إضافتها.
ومن جهةٍ أُخرى، فإنّ الأصوليّ يعنيه فيما يعنيه كثيراً، النظر إلى الأحوال، لا إلى الأفراد فحسب. وهذا الإطلاق الأحواليّ يدخل حتّى فيما لا يُتصوّر فيه الإطلاق الأفراديّ بنحوٍ من الأنحاء الثلاثة، كما في متعلَّقات وموضوعات الأحكام التي تكون شخصيّة، كما لو قال: أكرم زيداً. لا شكّ في أنّ الأصوليّ يبحث هنا عن إطلاق أحواليّ، أي: سواء كان طويلاً أم قصيراً، مستيقظاً أم نائماً، مصلّياً أم غير مصلٍّ، وهكذا..
وعلى هذا الأساس، فمن الصعوبة بمكانٍ أن نصوغ تعريفاً جامعاً لكلّ هذه المزايا. كما هو واضح. فلا بدّ من نأخذ في التعريف عدم الدلالة على الأفراد بشكلٍ مباشر، بل الدلالة لا تكون إلّا على الطبيعة، وعلى عموم أحوال أفراد الطبيعة، بمعنى: قابليّة الانطباق، لا الدلالة الفعليّة. وتكون نتاج الوضع وظهور حال المتكلّم.
فلا بدّ حينئذٍ من صياغة التعريف إمّا لكلّ قسمٍ بحياله، وإمّا بصياغة تعريفٍ عامّ ينطبق على الجميع بنحوٍ من الأنحاء، ويكون عمدة ما يُلحظ فيه هو الخصوصيّات والمزايا الأصليّة، كما لو قيل: المطلق هو الطبيعة التي تُلحظ عند تعلّق الحكم بها من دون إضافة قيدٍ لها بنحوٍ من الأنحاء. ويُراد من القيد: التحصيص.
فالطبيعة تشمل الطبيعة التي تدلّ على شخص، أو تدلّ على جماعة وأفراد كثيرين. فزيد طبيعة من الطبائع (في الإطلاق الأحواليّ). (معظم من عرّف الإطلاق عرّفوه من جهة الإطلاق الأفراديّ، دون الأحواليّ، وكأنّ الأحواليّ ليس ممّا يهمّ الأصوليّ، مع أنّ الأصوليّ كثيراً ما يستخدم الإطلاق الأحواليّ في الاستنباط كما هو واضح).
ولم نأخذ في الطبيعة في مقام الدلالة جهة التكثّر الفرديّ، ولا جهة الوحدة الفرديّة، ولذلك بقيت جامعة. فإذا أردنا أن نعرّف الأقسام، من شموليّ وبدليّ ومجموعيّ، فلا بدّ لنا من إضافة قيود.
ولا غرو فإنّ التعريف لا بدّ وأن لا يُلحظ فيه قيد يُخرج بعض الأقسام، فتكون الطبيعة هي موضوع الحكم. ولمّا اشترطنا فيها أن تكون ملحوظةً حين تعلّق الحكم بها، فقد دللنا على اشتراط وجود حاكم، والحاكم مشرّع عقلائيّ، يجري مجرى العقلاء، فإذا لم يذكر قيداً يقرن به الطبيعة، فهذا يعني أنّه لا يريده. فقد أدخلنا في الحقيقة قرينة الحكمة.
ومن لا يريد إدخال قرينة الحكمة، كالذين قبل سلطان العلماء، فيناسبهم هذا التعريف أيضاً.
وقد فررنا به من كون الإطلاق دلالة لفظيّة، كالقول بأنّ المطلق هو ما دلّ على شائع في جنسه؛ إذ لم نأتِ هنا على ذكر اللّفظ أصلاً، بل وصفناه بما هو معنىً، وتحدّثنا عن الجانب المعنويّ في الموضوع.
وبيّنّا فيه مزيّة ـ سيأتي توضيحها ـ وهي أنّ الإطلاق ليس من قبيل جمع القيود، بل هو من قبيل رفض القيود، وهو مبنىً مهمّ، ويترتّب عليه نتائج مهمّة في مقام إجراء الأصول العمليّة، حيث نشكّ في قيدٍ من القيود. وعلى هذا الأساس، فعندما قلنا في التعريف: من دون لحاظ القيد، فهو للإشارة إلى أنّ الإطلاق ليس من قبيل جمع القيود، بل من قبيل رفض القيود. أي: أنّ الذي يُطلق لا يلحظ كلّ التقسيمات بتمامها فيرفضها جميعاً، بل إنّما يلحظ الموضوع من دون لحاظ شيءٍ من هذه التقسيمات، فنكتشف نحن في عالم الإثبات أنّه لا يريدها، وأنّه لو أرادها لذكرها.
وبهذا التعريف نكون قد جمعنا المزايا المهمّة المطلوبة لجمع أقسام المطلق الثلاثة، في باب الإطلاق الأفراديّ، مضافاً إلى قسيمه، وهو الإطلاق الأحواليّ.
كما أنّ من المزايا المهمّة لهذا التعريف أنّه قد ميّز بشكلٍ واضح بين العموم الاصطلاحيّ والإطلاق الاصطلاحيّ، ففي العموم نفس الأفراد تكون ملحوظةً حين جعل الحكم، وأمّا هنا، فإنّ الطبيعة هي التي تُلحظ، والانتهاء إلى الأفراد لا يكون إلّا بالتطبيق العقليّ؛ لأنّ الطبيعة لا تدلّ على الأفراد بوجهٍ، بل إنّما يصحّ انطباقها عليها، كما يُقال: الكلّيّ الطبيعيّ يوجد بوجود فرده في الخارج.
فيكون هذا التعريف مستوفياً لأهمّ المزايا المطلوبة في الإطلاق.
وإذا ما وُجد إشكال في هذا التعريف، فهو غير مهمّ، بل المهمّ هو كون التعريف مستوعباً للمزايا الأساسيّة، والتمييز بينه وبين ما قد يلتبس به، وهو العموم الاصطلاحيّ، وهذا التعريف وافٍ بهذين الغرضين. فلا حاجة للإطالة في التعريف أكثر من ذلك.
وبهذا تمام الكلام في الموقف الأوّل.

الموقف الثاني: في اسم الجنس وأنّه لأيّ شيءٍ هو موضوع.
وقد عرفت أنّ اسم الجنس هو بمعنى: اسم الطبيعة، والسنخ، لا الجنس بمعناه المنطقيّ أو الفلسفيّ. واسم الجنس بهذا المعنى هو عمدة ما نُبتلى به من الموضوع للأحكام. لذا جعل الأصوليّ جلّ بحثه في الإطلاق في اسم الجنس والطبيعة.
وبهذه المناسبة وفي هذا الموقف جرت عادة الأصوليّ على التعرّض لأكثر من مقدّمة أو بحث في المقام. وهذا البحث هو من الأبحاث الأصوليّة الاكتشافيّة، التي لا يُعتنى بها في العرف كثيراً، لكن تترتّب عليها آثار أصوليّة في علم الأصول. نتعرّض لها من دون تطويلٍ بما لا طائل أصوليّ تحتها.
فنقول:
عمدة هذه الأبحاث التي تعرّضوا لها في المقام: البحث في اعتبارات الماهيّة.
وهذا الكلام قصَرَ الحديثَ فيه بعضهم، كصاحب الكفاية رحمه‌الله، الذي لم يُشر إلّا إلى العناوين الرئيسة فيه. وتوسّط البحث فيه آخرون. فيما أطال فيه آخرون.
ونحن لا نبحث فعلاً في الاعتبارات الفلسفيّة، من المعقولات الأوّليّة والثانويّة، وأيّ منها معقول أوّليّ وأيّ منها معقول ثانويّ. فهذه أبحاث فلسفيّة، وليست أصوليّة. فلا ينبغي الإطالة فيها هنا. نعم، لا ينبغي إهمال هذا البحث؛ لأنّ فيه نقطتين أو ثلاث هي مدّ نظرنا بشكلٍ أساسيّ من هذا البحث، وهي التي تجعلنا مضطرّين إلى التعرّض له.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo