< فهرست دروس

الأستاذ السيد ابوالفضل الطباطبائي

بحث الفقه

37/12/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: البحث في معني كلمة الفقه

قبل الدخول في بحث كتاب النكاح من "تحرير الوسيلة" للإمام الخميني + علينا أن نبحث ونحقق في المعني المراد من كلمة >الفقه<، وذلك لأن الفقيه يهدف في جميع بحوثه ودراساته إلى التفقه في الدين.

مع أن هذا البحث ليس بحثاً لغوياً فقط بل هو بحث لغوي وفقهي وأخلاقي، كما إن هذا اللفظ >الفقه< ببعض مشتقاته لفظ قرآني.

وفي هذا البحث عدة أقوال سنتعرض لها ونُحرِّرُ رأينا في المقام، ثم نبحث في فروع ومسائل مرتبطة بالبحث، فنقول:

في هذه المسألة أقوال، وأهل اللغة ذکروا لهذا اللفظ ثلاثة معانٍ نذكرها تباعاً:

المعنى الأول: مطلق الفهم:

ذكر بعض اللغويين أن معني الفقه عبارة عن مطلق الفهم، ويشمل جميع مراتب الفهم من جهة، كما يشمل جميع الأفراد من جهة ثانية، وجميع الموضوعات والأحكام من جهة ثالثة، فإذا قلنا >فقيه< فهو لفظ يشمل [المجتهد المطلق] و[المجتهد المتجزئ]، ويشمل من يعرف الأحكام الشرعية بلا فرق بين مراتبها ودرجاتها، کصاحب [صحاح اللغة] حيث قال:

>الفقه، الفهم. قال أعرابي لعيسي بن عمر: شهدت عليك بالفقه.....أي شهدت عليك بالفهم<[1] .

وكذا قال صاحب[قاموس اللغة]: >الفقه، بالکسر العلم بالشيء، والفهم له والفطنة له<[2] .

والفيومي الذي يعدُّ من أقدم اللغويين يقول: >الفقه، فهم الشيء<[3] .

المعنى الثاني: مطلق العلم بالشيء.

والفرق بين العلم والفهم هو: إن من اطلع على شيء فقد علم به، وهو لا يدل على الفهم ولا يشمله.

والبعض الآخر فسّروا الفقه بمطلق العلم بالشيء کما ذكر ابن فارس في مقاييس اللغة: >يدلُّ على إدراكِ الشَّي‌ء والعِلْمِ به. تقول: فَقِهْتُ‌ الحديث‌ أفْقَهُه‌. وكلُّ عِلْمٍ بشيءٍ فهو فِقْه‌. يقولون: لا يَفْقَه‌ و لا يَنْقَه. ثم اختُصَّ بذلك علمُ الشَّريعة، فقيل لكلِّ عالم بالحلال و الحرام: فقيه‌. وأَفْقَهْتُك‌ الشَّي‌ء، إذا بَيّنْتُه لك<[4] .

والمصادر اللغوية على أنواع، فبعض المصادر اللغوية تبحث في أصل المادة لغةً، والبعض الآخر يبحث في موارد استعمالها، وثالث في معاني مشتقاتها، والذي يستفاد من المقاييس أن هذه الكلمة "الفقه" لم تكن في بداية استعمالها تختص بالعلوم الشرعية، بل استعملت في المباحث العقائدية كما في الكتاب المنسوب لأبي حنيفة: "الفقه الأكبر" وهو يشمل الأحكام وغير الأحكام كالمسائل العقائدية.

ولم يصرح صاحب المقاييس بهذا المعنى في بداية کلامه، ولكنه صرح بعد هذا بكلام آخر في الذيل وأورد تعريفاً آخر بعبارة أخرى، وکأنه أعرض عن تعريفه السابق وقال: "أفهمتك الشيء : بيَنته لك".

وهذا يناقض كلامه الأول، لأن من يتأمل في هذا الكلام يظهر له أن مطلق العلم بالشيء غير التفهيم والتبيين، لأن الأخيرين يزيدان علي العلم فمن الممكن أن يعلم الإنسان بشيء ما ولکن من دون تبيين بل يعلم بواسطة الفطرة.

وهذا المعني الذي قاله ابن فارس في ذيل کلامه يناسب المعني الذي سيأتي لاحقاً إن شاء الله، و لا يناسب ما قاله في مقدمة کلامه.

 

المعنى الثالث: الفهم الدقيق والفهم الاستدلالي:

وليس المقصود مطلق الفهم ولا مطلق العلم بالشيء بل الفهم الدقيق والفهم الاستدلالي للعبارة، وهذا المعني هو ما قاله الراغب الأصفهاني في مفرداته وهو خرِّيت هذا الفن والمتخصص في المفردات القرآنية، ويمكن القول أنه أحسن تعريف في بيان كلمات القرآن ومفرداته، يقول في كتابه: "الفقه هو التوصل إلي علم غائب بعلم شاهد، فهو أخص من العلم"[5] ،واستند في كلامه إلى آيتين من آيات القرآن الكريم وهما قوله تعالى: { فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ‌ يَفْقَهُونَ‌ حَدِيثاً}[6] فقوله: لا يفقهون حديثاً أي لا يقنعون بشيء ولا يفهمون فهْمَ تأمّلٍ ودقةٍ واستدلالٍ. وقوله تعالى في سورة >المنافقون<{وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُون‌}[7] وقوله (لا يفقهون) ليس معناه لا يعلمون.

وقال الراغب: "والْفِقْهُ‌: العلم بأحكام الشريعة، يقال: فَقُهَ‌ الرّجل‌ فَقَاهَةً: إذا صار فَقِيهاً"[8] .

 

و قال أبو هلال العسکري المتوفى سنة 395هـ صاحب کتاب الفروق في اللغة: >الفقه هو العلم بمقتضى الكلام على تأمله و لهذا لا يقال ان الله يفقه لأنه لا يوصف بالتأمل، وتقول لمن تخاطبه تفقه ما أقوله يعني تأمل في ما أقوله لک حتي توصلک الي معناه<[9] ‌.

أما الكتاب الأكثر فائدة في بيان لغة القرآن الكريم ومفرداته فهو: كتاب "التحقيق في كلمات القران الكريم" للمصطفوي، وفي موضوع بحثنا يقول المصطفوي:

>التحقيق<: أنّ الأصل الواحد في المادّة: هو فهم على دقّة وتأمّل، وبهذا القيد يفترق عن موادّ العلم والمعرفة والفهم وغيرها. فَالتَّفَقُّهُ‌ تفعل، ويدلّ على اختيار الفهم والدقّة. والفِقْهُ‌ غير مخصوص بالكلام، بل في كلّ موضوع يقتضى الفهم والدقّة والتأمّل فيه يصدق فيه التفقّه"[10] .

و هذا الذي أوردناه هنا هو القول الثالث من الأقوال في معني الفقه، وهو التفصيل بين القول الأول و الثاني.

القول المختار و الدليل عليه:

الذي ظهر لنا و لکل من تأمل في هذا البحث أن الصحيح من الأقوال هو القول الثالث والذي قال به الراغب الأصفهاني، أي إن معنى الفقه هو الفهم الدّقيق مع التأمل والدقة.

وذلك للتّفصيل بين الفهم والعلم والفقه، فالفقيه يصل إلى الحكم والفتوى بعد التأمل في الأدلة، لا بالنظر البدوي من دون النظر إلى الأدلة والتفحص فيها، ومن دون تأمّل في كيفية الاستدلال بها.

و يؤيّد ما اخترناه من الأقوال في معني الفقه أمور:

المؤيد الأول: کلمات أهل الدقة من اللغويين الذين كانوا في مقام التفسير الحقيقي لهذه الكلمة، لأن الآخرين كانوا في مقام شرح المعنى اللفظي للكلمة، والذي نظنه أنهم لم يکونوا في مقام تحديد التعريف الحقيقي لهذا الموضوع، بل كما قال الآخوند صاحب الكفاية في مقام تعريف شرح الاسم فقط، وهذا دأب أكثر العلماء.

المؤيّد الثّاني: شهادة المتّشرعين من أهل العرف بذلك؛ لأن الذي يفهمونه من "الفقه" و"الفقيه" حسب التبادر وتطور تاريخ الفقه أن الفقه ليس الاطلاع والعلم فقط، بل هو العلم و الفهم مع الاستدلال، لأنهم إذا طالعوا رسالة عملية لا يقولون هذا ما قاله العالم بعد مطالعة ابتدائية، بل يقولون إن هذا الكتاب نتيجة عمره وحصيلة تحقيقاته وسعيه العلمي.

المؤيّد الثالث: الاستعمالات القرآنية ومنها:

{قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ‌ كَثيراً مِمَّا تَقُول}‌[11] ، {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ‌ تَسْبيحَهُم‌}[12] .{فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَديثاً }[13] .

ونسجل هنا تعجبنا من بعض المفسرين الذين قالوا في ذيل هذه الآية إن المخاطبين في هذه الآية ليسوا على حال لا يفقهون معه شيئا أصلاً.

و يمکن تطبيق ما قلناه علي جميع الآيات القرآنية الواردة في هذا المعني كقوله تعالى: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين‌، لَعَلَّهُمْ‌ يَفْقَهُون‌، يَفْقَهُوا قَوْلي‌.

ويضاف إلى ذلك أن بعض الآيات قد فرقت بين أقسام الفهم، وبين العلم والفهم، كقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }[14]

{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}[15]

فإذا كان محور الكلام في الفهم الظاهري فيعبر عنه بالعلم، وإذا كان الكلام يدور حول الفهم العميق فيعبر عنه بالفقه.

المؤيد الرابع: وهو تقسيمات الفقه، حيث يقسم الفقيهُ الأحكامَ والفقهَ إلى العبادات والمعاملات، وهو يتطلب فهماً دقيقاً.

المؤيد الخامس: تجلي هذا المعنى في الأحاديث الواردة في بيان أوصاف الفقيه، فقد ذكرت صفات متعددة للفقيه وهي جميعاً تدل على أن الفقيه هو المتأمل في الموضوعات والأحكام الفقهية منها:

    1. عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ× قَالَ: إِنَّ أَبَا جَعْفَر ٍ× سُئِلَ مِنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ فِيهَا فَقَالَ الرَّجُلُ إِنَّ الْفُقَهَاءَ لَا يَقُولُونَ هَذَا فَقَالَ لَهُ أَبِي وَيْحَكَ إِنَّ الْفَقِيهَ‌ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ ‘[16] [17] .

    2. قَالَ×‌ الْفَقِيهُ كُلُ‌ الْفَقِيهِ‌ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ‌ اللَّهِ وَ لَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْره[18] .

    3. عن علي×: الْفِقْهَ‌ ثُمَ‌ الْمَتْجَرَ فَإِنَّهُ مَنْ‌ بَاعَ‌ وَ اشْتَرَى وَ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ حَرَامٍ وَ لَا حَلَالٍ ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا ثُمَّ ارْتَطَمَ[19] .

 


[1] صحاح اللغة، ج6، ص224.
[2] قاموس اللغة، ج4، ص289.
[3] المصباح المنیر، ص479.
[5] مفردات ألفاظ القرآن، ص642.
[8] مفردات ألفاظ القرآن، ص642.
[9] الفروق في اللغة، ص80.
[16] المحاسن، ج1، ص223، . سنن الدارمي، ج1، ص89

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo