< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/01/29

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان:
ثانياً : بالنسبة إلى نقطة الدم التي قد توجد في البيضة، فقد ذكرنا قبل عدّة وريقات (ص 213) عدم وجود قاعدة تفيد أصالة نجاسة الدم ليُرجَع إليها في مواضع الشكّ، وذلك لأنّ الدم نوعان نجس وطاهر، ولا معنى للقول بأصالة النجاسة في الدم، وإنّ الأصالات لا تجري إلاّ في موارد الشكّ البدْوي كالشكّ في طهارة ذرق الجوارح من الطير فنقول بأصالة الطهارة حتى تثبت النجاسة، وكالشكّ في نجاسة الجُبن الموجود في الأسواق، فنُجري أصالة الطهارة فيه، وهكذا .
فإن قلت : إنّ هذا الدم الذي في البيضة هو منشأٌ للدجاجة التي لها نفس سائلة، فيجب القولُ بنجاسة هذا الدم،
قلت : لا دليل على أنّ الدم الذي يكون منشأً للحيوان ذي النفس السائلة يجب أن يكون نجساً، لا شرعاً ولا عقلاً، وإنما الذي هو نجس هو الدم الخارج من الدجاجة التي هي فعلاً ذات نفس سائلة، وبينهما فرق واضح .
ولذلك يجب الرجوع إلى أصالة الطهارة في الدم الموجود في البيضة، ولا يوجد أيّ معارِض لهذا الأصل، أي لا يوجد عندنا آية أو رواية تقول الدم ـ بنحوٍ مطلق ـ نجس، ولا يوجد إجماع على نجاسته، فنرجع إلى هذه الأصالة للشكّ في حكم دم البيضة، على أنه لا يصحّ القول بنجاسة الدم ـ بنحو مطلق ـ واقعاً، وذلك لوجود منشأ للحكم بالطهارة والنجاسة وهو نوع الدم تكويناً .
لكن ـ رغم ذلك ـ لا بدّ من الإحتياط في نقطة الدم الموجودة في البيضة وفي العلقة التي قد توجد فيها أيضاً، وليس ذلك إلا لوجود ارتكاز واضح عند المتشرّعة بقذارتهما ونجاستهما، وإنهما منشأٌ لفرخ الدجاجة .
لكن بما أنّ نقطة الدم أو العلقة تكون منعزلة عمّا حولها ولا تسري نجاستها إلى غيرها من أجزاء البيضة فإنّه يجب القول بطهارة سائر أجزاء البيضة، وعلى الأقلّ ـ أي على فرض الوسوسة واحتمال السراية ـ إرجع إلى استصحاب طهارة سائر أجزاء البيضة، نعم إلاّ إذا تمزّقت وحصلت السراية بوضوح .

مسألة 2 : المتخلف في الذبيحة وإن كان طاهراً، لكنه حرام، إلا ما كان في اللحم مما يعد جزءً منه.[1]
ما ذكره هنا صحيح كلّه، بل واضح عند كلّ الناس، ولذا قد يُتَراءَى لك بداهة هذه المسألة للوهلة الاُولى، نعم قد كانت بديهية لا خلاف فيها في السابق، لكن حينما استشكل صاحب الحدائق فيها وادّعى عدم الخلاف على حلّيّة الدم المتخلّف في الذبيحة المأكولة اللحم وإن كثُر اضطرّ علماؤنا على الردّ عليه، فيمكن إذن أن تُعتبَرَ هذه المسألة ردّاً على صاحب الحدائق الذي يقول بأنّ الدمَ المتخلّف في الذبيحة المأكولة اللحم حلال الشرب وإن كثُر كما يلاحَظ في الكبد والقلب ! واستدلّ على ذلك بأنّ آية﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ..﴾[2]ظاهرة في حرمة خصوص الدم المسفوح، ممّا يعني ـ كمفهوم ـ أنّ الدم المتخلّف من مأكول اللحم ـ أي الغير مسفوح ـ يجب أن يكون حلالاً وإن كثُر ! وبالروايات الدالّة على عدّ محرّمات الذبيحة ولم تذكره منها، وادّعى على ذلك "إتفاق الأصحاب من غير خلاف ينقل" !
أقول : هو كلام غير صحيح، فإنّ آية﴿ أَوْ دَماً مَّسْفُوحاًلا تفيد حلّيّة مطلق الدم المتخلّف حتى وإن كثُر، وإنما تقول الدم المسفوح حرام الأكل، ويستفاد منها أنّ المتخلّف القليل الذي يأكله المتشرّعةُ عادةً هو حلال، أمّا غيره فيجب المراجعة فيه فقد يكون حلالاً وقد يكون حراماً، والآية لم تذكر كلّ المحرّمات، وإنما هناك محرّمات كثيرة لم تذكرها الآية من قبيل حرمة أكل السباع والمسوخ والمغصوب ووو .
ولعلّ أحسن وجه في الإستدلال على تحريم مطلق الدم حتى المتخلّف في الذبيحة هو عموم آيات تحريم الدم وهي﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ ..﴾[3] ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ ..﴾[4] ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ ..[5]، طبعاً إن كان الدمُ المتخلّفُ كثيراً، لا القليل المتعارف أكلُه عند المتشرّعة ضمن اللحم والذي يحتاج في تخليصه من اللحم إلى عمل وعناية، من غسل وعصر ونحوهما . وأمّا طهارة الدم المتخلّف في الذبيحة فيكفينا دليلاً عليها أنّ طهارته لازم عقلي لحليّة أكله .

مسألة 3 : الدم الأبيض ـ الذي قالوا بخروجه من الإمام العسكري (عليه السلام) عند فَصْدِه ـ طاهر، ويصعب ادّعاء العلم بأنه من الدم الوارد في الروايات بأنه نجس . نعم، إذا كان دماً ثم حينما صُبَّ عليه دواءٌ تغيَّرَ لونُه إلى البياض بقي على نجاسته .
ذكر لي الآن أحدُ الأطبّاء المتخصّصين أنّ هذا الدم إسمُه الليمْفْ، وهو نوع آخر غير الدم الأحمر وغير الكريات البيضاء . وهو موجود في كلّ الإنسان في عروق كعروق الوريد، ولكن إذا ضُغِط عليه فإنه يسبّب بعض الأمراض كداء الفِيَلَة، والتي يصير فيه العضو ـ كاليد مثلاً أو الساق ـ منتفخاً جداً كساق الفيل، فيفصدون هذا الشريان حتى يتحرّر من الضغط ويخرج منه هذا السائل الأبيض .
روى في الكافي عن علي بن محمد عن الحسن بن الحسين قال : حدثني محمد بن الحسن المكفوف قال : حدثني بعض أصحابنا عن بعض فصادي العسكر من النصارى أن أبا محمد (عليه السلام)بعث إليَّ يوماً في وقت صلاة الظهر، فقال لي :أفصد هذا العرق قال : وناولني عرقاً لم أفهمه من العروق التي تفصد، فقلت في نفسي : ما رأيت أمراً أعجب من هذا، يأمر لي أن أفصد في وقت الظهر وليس بوقت فصد ! والثانية عرق لا أفهمه ! ثم قال لي : اِنتظر وكن في الدار، فلما أمسى دعاني وقال لي : سرح الدم فسرحت ثم قال لي : أمسك فأمسكت، ثم قال لي : كن في الدار، فلما كان نصف الليل أرسل إليَّ وقال لي : سرح الدم، قال : فتعجبت أكثر من عجبي الأول وكرهت أن أسأله قال : فسرحت فخرج دم أبيض كأنه الملح، قال : ثم قال لي : اِحبس، قال : فحبست، قال ثم قال : كن في الدار، فلما أصبحت أمر قهرمانه أن يعطيني ثلاثة دنانير فأخذتها وخرجت حتى أتيت ابن بختيشوع النصراني فقصصت عليه القصة
قال : فقال لي واللهِ ما أفهم ما تقول ولا أعرفه في شيء من الطب ولا قرأته في كتاب ولا أعلم في دهرنا أعلم بكتب النصرانية من فلان الفارسي فاخرج إليه قال : فاكتريت زورقاً إلى البصرة وأتيت الأهواز ثم صرت إلى فارس إلى صاحبي فأخبرته الخبر قال وقال أنظرني أياماً فأنظرته ثم أتيته متقاضياً قال : فقال لي : (إن هذا الذي تحكيه عن هذا الرجل فعله المسيح في دهره مرة)[6] .
وروى في الخرائج والجرائح قال : "وفي الثاني :الباب الثاني عشر في معجزات الإمام الحسن بن علي العسكري عليهما السلام ـ إلى أن قال ـ 3 : ومنها : ما حَدَّثَ به نصراني متطبب بالريّ يقال له مرعبدا، وقد أتى عليه مئة سنة ونيف وقال : كنت تلميذ بختيشوع طبيب المتوكل، وكان يصطفيني ، فبعث إليه الحسن بن علي بن محمد بن الرضا عليهم السلام أن يبعث إليه بأخص أصحابه عنده ليفصده فاختارني
وقال : قد طلب مني ابن الرضا من يفصده فصر إليه، وهو أعلم في يومنا هذا بمن تحت السماء، فاحذر أن تعترض عليه فيما يأمرك به . فمضيت إليه فأمر بي إلى حجرة،
وقال : كن ههنا إلى أن أطلبك . قال : وكان الوقت الذي دخلت إليه فيه عندي جيداً محموداً للفصد، فدعاني في وقت غير محمود له، وأحضر طشتاً عظيماً ففصدت الأكحل، فلم يزل الدم يخرج حتى امتلأ الطشت . ثم قال لي : اِقْطَعْ، فقطعت، وغسل يده وشدها، وردني إلى الحجرة وقدم من الطعام الحار والبارد شيئاً كثيراً، وبقيت إلى العصر . ثم دعاني، فقال : سرح . ودعا بذلك الطشت، فسرحت، وخرج الدم إلى أن امتلأ الطشت، فقال : اِقْطَعْ . فقطعت وشد يده، وردني إلى الحجرة، فبت فيها . فلما أصبحت وظهرت الشمس دعاني وأحضر ذلك الطشت وقال : سرح . فسرحت، فخرج من يده مثل اللبن الحليب إلى أن امتلأ الطشت، ثم قال : اقطع . فقطعت، وشد يده، وقدم إلي تخت ثياب وخمسين ديناراً وقال : خذها، وأعذر وانصرف . فأخذت وقلت : يأمرني السيد بخدمة ؟
قال : نعم، تحسن صحبة من يصحبك من دير العاقول . فصرت إلى بختيشوع، وقلت له القصة .
فقال : أجمعت الحكماء على أن أكثر ما يكون في بدن الانسان سبعة أمنان من الدم، وهذا الذي حكيت لو خرج من عين ماء لكان عجبا، وأعجب ما فيه اللبن . ففكر ساعة، ثم مكثنا ثلاثة أيام بلياليها نقرأ الكتب على أن تجد لهذه الفصدة ذكراً في العالم فلم نجد،
ثم قال : لم تبق اليوم في النصرانية أعلم بالطب من راهب بدير العاقول . فكتب إليه كتابا يذكر فيه ما جرى، فخرجت وناديته، فأشرف علي فقال : من أنت ؟
قلت : صاحب بختيشوع .
قال : أمعك كتابه ؟
قلت : نعم . فأرخى لي زبيلاً فجعلت الكتاب فيه، فرفعه فقرأ الكتاب، ونزل من ساعته .
فقال : أنت الذي فصدت الرجل ؟
قلت : نعم، قال : طوبى لاُمِّكَ ! وركب بغلاً، وسرنا، فوافينا "سر من رأى" وقد بقي من الليل ثلثه، قلت : أين تحب : دار أستاذنا، أم دار الرجل ؟ قال : دار الرجل . فصرنا إلى بابه قبل الأذان الأول، ففتح الباب، وخرج إلينا خادم أسود،
وقال : أيكما راهب دير العاقول ؟
فقال : أنا جعلت فداك . فقال : اِنزلْ . وقال لي الخادم : اِحتفظْ بالبغلين . وأخذ بيده ودخلا، فأقمت إلى أن أصبحنا وارتفع النهار . ثم خرج الراهب وقد رمى بثياب الرهبانية، ولبس ثيابا بيضا، وأسلم،
فقال : خذني الآن إلى دار أستاذك . فصرنا إلى باب بختيشوع، فلما رآه بادر يعدو إليه ثم قال : ما الذي أزالك عن دينك ؟ قال : وجدت المسيح، وأسلمت على يده،
قال : وجدت المسيح ؟!
قال : أو نظيره، فإنّ هذه الفصدة لم يفعلها في العالَم إلا المسيح، وهذا نظيره في آياته وبراهينه . ثم انصرف إليه، ولزم خدمته إلى أن مات"(إنتهى ما في الخرائج والجرائح)[7] .
أقول : لكنْ في القول بنجاسته شكّ واضح، لانصراف الدم النجس إلى المتعارف الأحمر، ولم يُعلم أنّ هذا منه فيُرجع إلى أصالة الطهارة . فإن أطلق بعضهم عليه إسم الدم فللتساهل والتشبيه .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo