< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/07/12

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: وهنا ملاحظة مهمّة وهي :
إنك تلاحظ في كلّ الروايات أنها تقول بأنّ ثمن الكلب سحت، ولا تقول بيعُه حرام ! أي ليس بيع الكلب محرّماً كبيع الخمر والسلاح لأعداء الدين ونحو ذلك، وإنما يعني أنّه لا قيمة له عند الشارع المقدّس، ولا ملازمة بين كون ثمن الكلب سحتاً ـ أي بيعه باطل ـ وبين حرمة بيعه، فإنْ صار مدرّباً ونافعاً صار له قيمة، ولم يَعُدْ بيعُه باطلاً .
توضيح ذلك : مثلاً : بيعُ الزبالة الغير مفيدة أصلاً، باطلٌ، لأنه لا معنى له، أو قُلْ لأنّ دفْع المالِ بإزائها إتلافٌ محضٌ للمال، ولذلك لا يصدر من العقلاء، ويعدّونه بيعاً باطلاً، ولكنْ إن صار للبيع وجهٌ عقلائي ـ أي صار للمبيع فائدةٌ ما ـ لم يَعُدِ البيعُ باطلاً، وبالتالي لم يَعُدْ محرّماً قطعاً، ولذلك كان بيعُ القَلَم ـ مثلاً ـ الذي قيمتُه ألف ليرة بمليون ليرة لفائدةٍ ما كالتهرّب من الفائدة الربوية مثلاً ـ طبعاً مع عِلْمِ المتبايعين بالقيمة السوقية للقلم ـ ليس محرّماً قطعاً، وذلك لأنّ هذا الأكْلَ للمال ليس أكلاً للمال بالباطل، وإنما كان هذا البيع للقَلَم وسيلةً عقلائية للتهرّب من الفائدة الربوية، فمعنى باطل في اللغة العربية واضح جداً، يستعمله كلّ الناس دائماً، يقولون (كلامُك حَقٌ) أو (كلامُك باطِلٌ) وهكذا، فهو ضد الحقّ، قال الله تعالى[ وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ، إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ][1] وقال تعالى [ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ ][2] .
وعليه إنْ كان في نفس البيع والمعاملة ـ أي النقل والإنتقال ـ فسادٌ ـ كبيع الخمر والصليب وكتب الضلال وكبيع السلاح لأعداء الدين وأخذ المال بسبب القمار أو الربا أو الزنا أو السرقة ـ حَرُمَ البيعُ والمعاملةُ، ولا يبعد أن يكون هذا هو المراد من قوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ][3] .
من كلّ ما أفدناه تعرف أنه إن صار للكلب قيمةٌ عقلائية ـ كما لو صار مدرّباً وينفع البشرية كثيراً ـ لما بقِيَ فاقدَ القيمةِ شرعاً، ولما كان بيعُه باطلاً، وإنما يصير له قيمة عقلائية وشرعية بوضوح .
وهنا لا بأس بأن تلاحِظَ بعضَ كلمات علمائنا :
قال الشهيد الثاني : ( لا خلاف في عدم صحة بيع كلب الهراش، وهو ما خرج عن الكلاب الأربعة ولم يكن جَرْواً، والأصح جواز بيع الكلاب الثلاثة، لمشاركتها لكلب الصيد في المعنى المسوِّغِ لبيعه، ودليلُ المنعِ ضعيف السند قاصر الدلالة . وفي حكمها الجرو القابل للتعليم . ولا يشترط في جواز اقتنائها وجود ما اُضِيفت إليه، فلو هلكت الماشية أو باعها، وحصد الزرع، وانتقل الحائط لم يزل ملكه عنها . وكلب الدار ملحق بكلب الحائط) (إنتهى)[4].
وقال في الحدائق : (لا خلاف بين الأصحاب في جواز بيع كلب الصيد وعدم جواز بيع ما عداه، وعدا كلب الماشية والزرع والحائط، وإنما الخلاف في هذه الثلاثة، فقال الشيخ في النهاية : ثمنُ الكلب سحت إلا إذا كان سلوقياً للصيد، فإنه يجوز بيعه وشراؤه وأكل ثمنه والتكسب به، وكذا قال المفيد . وقال في المبسوط : الكلاب ضربان، أحدهما لا يجوز بيعه بحال، والآخر يجوز ذلك فيه، فما يجوز بيعه : ما كان معلَّماً للصيد، وروي أن كلب الماشية
والحايط مثل ذلك، وما عدا ذلك كلّه لا يجوز بيعه ولا الإنتفاع به . وقال في الخلاف : يجوز بيع كلاب الصيد، ويجب على قاتلها قيمتها إذا كانت معلمة، ولا يجوز بيع غير الكلب المعلم على حال . قال في المنتهى بعد نقل عبارة الشيخ في النهاية وكذا الشيخ المفيد ( وعنى بالسلوقي كلب الصيد، لأن سلوق قرية باليمن أكثر كلابها معلمة فنُسِب الكلب إليها" انتهى . ومنه يظهر مراد الشيخ بهذه العبارة، وأنها خرجت مخرج التجويز والكناية عن كلب الصيد، لا تخصيص الحكم بما كان من كلاب تلك القرية، وبنحو ما عبر به الشيخ وقع التعبير في الأخبار أيضاً، كما في جملة منها "دية الكلب السلوقي أربعون درهماً " والمراد كلب الصيد، سواء كان من هذه القرية أو من غيرها . وقال ابن الجنيد : ولا بأس بشراء الكلب الصائد والحارس للماشية والزرع . وقال ابن البراج : يجوز بيع كلب الصيد دون غيره من الكلاب . وقال ابن إدريس : ويجوز بيع كلب الصيد، سواء كان سلوقياً وهو المنسوب إلى "سلوق" قرية باليمن، أو غير سلوقي وكلب الزرع والماشية وكلب الحايط، وبه قال ابن حمزة، قال في المختلف : وهو الأقرب عندي، ونحو ذلك في المنتهى أيضاً، واختاره في المسالك أيضاً . وألحق بكلب الحائط كلب الدار أيضاً . وتردد المحقق في الشرايع ثم قال : والأشبه المنع . ونقل في المنتهى عن الشيخ في باب الإجارة من المبسوط أنه سوغ بيعها، وحينئذ فيكون كلامه في الكتاب المذكور مختلفاً . أقول : والذي وصل إلينا من الأخبار المتعلقة بالكلب في هذا الباب متفق الدلالة متعاضد المقالة : على تخصيص الجواز بكلب الصيد خاصة، وأن ما عداه ثمنُه سحت، وهذه الأخبار كلها ـ كما ترى ـ متفقة على ما ذكرناه من أن ما عدا كلب الصيد لا يجوز بيعه ولا شراؤه، ولم أقف على خبر يتضمن استثناء غيره، سوى ما في عبارة المبسوط من قوله "وروي أن كلب الماشية والحائط مثل ذلك" وفي الإعتماد على مثل هذه الرواية في تخصيص هذه الأخبار اشكال .وأصحابنا القائلون باستثناء الثلاثة المذكورة إنما استندوا إلى مشاركة هذه الثلاثة لكلب الصيد في المنفعة التي يترتب عليها استثناؤه، وهو من حيث العقل قريب، إلا أن ظواهر النصوص المذكورة ـ كما ترى ـ تدفعه . قال في المسالك : والأصح جواز بيع الكلاب الثلاثة لمشاركتها كلب الصيد في المعنى المسوغ لبيعه، ودليل المنع ضعيف السند وقاصر الدلالة . وفيه : أنه يجوز أن يكون المسوغ شرعاً إنما هو هذه المنفعة الخاصة بكلب الصيد، فمن ثم اقتصروا عليهم السلام في هذه الأخبار عليها، لا كل منفعة . وبالجملة فالظاهر هو الإقتصار على ما دلت عليه الأخبار المذكورة والله العالم)(إنتهى)[5] .
وقال الصيمري في كتابه : (والمعتمَدُ جوازُ بيع الصائد من الكلاب، سلوقياً كان أو غير سلوقي، وكلب الماشية والزرع والحائط، وعدم جواز ما عدا ذلك)(إنتهى)[6] .

وكذلك الكلام في بيع الخنزير،
فقد روى (1) في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد(بن عيسى) عن حريز عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام)في رجل كان له على رجل دراهم فباع خمراً وخنازير وهو ينظر فقضاه ؟ فقال : ( لا بأس به، أما للمقتضَى فحلال، وأما للبايع فحرام ) صحيحة السند، ورواها في يب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان وفضالة عن العلا عن محمد بن مسلم، وعن حماد عن حريز عن محمد بن مسلم، وهي تعني أنّ البيع حرام تكليفاً، لا وضعاً، وذلك للتصريح بصحّة البيع، وقوله ـ في السؤال ـ "رجل" مطلق، يشمل المسلم والكافر .
(2) وفي يب عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن (عمر)ابن أذينة عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام)في الرجل يكون لي عليه الدراهم فيبيع بها خمراً وخنزيراً ثم يقضي منها ؟ قال : ( لا بأس )، أو قال : ( خُذْها ) صحيحة السند، وهي تفيد صحّة البيع حتى ولو كان البائع مسلماً .
(3) وفي يب أيضاً بإسناده عن الحسين بن سعيد عن القاسم بن محمد(الجوهري واقفي)[7] عن محمد بن يحيى الخثعمي قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون لنا عليه الدين فيبيع الخمر والخنازير فيقضينا ؟ فقال : (فلا بأس به، ليس عليك من ذلك شيء)، ويمكن تصحيح السند من باب أنّ الخثعمي يروي عنه ابنُ أبي عمير كتابَه ويروي عنه في الفقيه مباشرةً، وهي كسابقاتها في الدلالة .
(4) وأيضاً في يب عن الحسين بن سعيد عن عبد الله بن بحر(كوفي ضعيف مرتفع القول ط جواد) عن (عبد الله)ابن مسكان(فقيه ثقة) عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام)عن الرجل يكون له على الرجل مال فيبيع بين يديه خمراً وخنازير يأخذ ثمنه ؟ قال : ( لا بأس ) ضعيفة السند، وهي أيضاً كسابقاتها في الدلالة .
(5) وروى عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد قال : حدّثنا عبد الله بن الحسن العلوي عن جده علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليها السلام) قال : سألته عن رجلين نصرانيين باع أحدهما خمراً أو خنزيراً إلى أجل، فأسلما قبل أن يقبضا الثمن، هل يحلُّ له ثمنُه بعد الإسلام ؟ قال : ( إنما له الثمن، فلا بأس أن يأخذه )[8]، ورواها علي بن جعفر في كتابه .
(6) وروى في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن (عبد الرحمن)ابن أبي نجران عن بعض أصحابنا عن الرضا قال : سألته عن نصراني أسلم وعنده خمر وخنازير، وعليه دَين، هل يبيع خمره وخنازيره، ويقضي دَينه ؟ قال : ( لا )[9]، وعنه عن أبيه عن ابن أبي نجران عن محمد بن سنان عن معاوية بن سعيد(مجهول، وفي نسخة : معاوية بن سعد وهو مهمل) عن الرضا (عليه السلام)مثله، ضعيفة السند .
و(7) في الكافي أيضاً عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن إسماعيل بن مَرّار(مهمل) عن يونس(بن عبد الرحمن) في مجوسي باع خمراً أو خنازير إلى أجل مسمى ثم أسلم قبل أن يحل المال ؟ قال : ( له دراهمه )، وقال : أسلم رجل وله خمر أو خنازير ثم مات وهي في ملكه وعليه دين ؟ قال : (يبيع دُيّانُه أو ولِيٌّ له غير مسلم خمرَه وخنازيره ويقضي دَينَه، وليس له أن يبيعه وهو حي ولا يمسكه )[10] ضعيفة السند، ورواها الشيخ باسناده عن علي بن إبراهيم .
(8) وأيضاً في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد(بن خالد) عن (الحسن بن علي) ابن فضّال(ثقة فقيه قال بالحق قبيل موته)[11] عن يونس بن يعقوب عن منصور قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لي على رجل ذميّ دراهم فيبيع الخمر والخنزير وأنا حاضر، فيَحِلُّ لي أخْذُها ؟ فقال : ( إنما لك عليه دراهم فقضاك دراهمك)، وهي تعني وضوح أنّ الله تعالى لا يحب لعباده المسلمين أن يتاجروا بالخمر والخنازير .

ولم أجد غير هذه الروايات تتعرض لحكم بيع الخنزير، هذا على فرض أنّ الرواية السابعة هي عن المعصوم عليهم سلام الله .
وإنك ترى باُمّ العين الصحاح الاُولى والثانية والثالثة والضعيفة الرابعة تصرّح بصحّة البيع ـ رغم حرمته تكليفاً ـ وهذا يوافق العقل تماماً،


[4] المسالك ج 3 ص 137 . .
[5] الحدائق الناضرة 18 في حرمة المايعات المتنجسة ص 86 ..
[6] تلخيص الخلاف ج 2 ص 79 . .
[7] ثقة لرواية صفوان وابن أبي عمير عنه بأسانيد صحيحة .
[11] ويحتمل ضعيفاً أن يكون أحمد بن الحسن بن علي بن محمد بن فضّال وهو ثقة فطحيّ . .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo