< قائمة الدروس

بحوث الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/02/17

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : آخر الكلام في تاريخ علم الأصول
تاريخ علم الاُصول :
مَرّ عِلْمُ الاُصولِ بثلاثة عصور :
(العصر الأوّل من سنة 329 ـ 436 هـ ق) : ...
(العصر الثاني من سنة 436 ـ 985 هـ ق) : ...
(العصر الثالث من سنة 985 هـ ـ وإلى يومنا هذا ) : ...

وقد اعتُبِرَتْ بدايةُ هذا العصر سنة 985 هـ لعدّة أسباب :
منها : زلزال المدرسة الأخبارية في الطائفة الشيعية في نفس تلك السنة، ممّا أثار العلماء الاُصوليين كثيراً، وبذلك تنقّح علم الاُصول بشكل غير مسبوق .
ومنها : ظهور مدرسة الإنسداديين، أيضاً في بداية العصر الثالث، خاصّةً على يد الوحيد البهبهاني وتلميذه المحقّق القمّي، ممّا زاد في كثرة الجدال والردّ والأخذ في مدى صحّة القول بالإنسداد، ممّا جعل علم الاُصول منقّحاً أجمل تنقيح .
ومنها : كتابة المجاميع الروائيّة الضخمة في أوائل هذا العصر الثالث أيضاً، ممّا أوجد الكثير من الكتب التي لم يكن قد كُشِفَ عنها الغِطاءُ وكثرت الروايات المتعارضة والأخبار الضعيفة والفروع الجديدة ممّا استدعى ضرورة التحقيق في المشاكل المستجدّة .. حتى وصل علم الاُصول إلى قمّة الجمال الفنّي .
ولا شكّ أنّ عامِلَ رَدّةِ فِعْل الاُصوليين الذي أوجدَتْ سببَه الحركةُ الأخبارية، وبخاصة حين جَمَعَ المدرسةَ الأخبارية والمدرسةَ الأصولية مكانٌ واحِدُ ـ ككربلاء ـ هو الذي أدّى إلى شدة الإحتكاك وإلى تضاعف ردّات الفعل بحيث طَفَرَت المدرسةُ الاُصوليةُ إلى مرحلة غير مسبوقة .
هذه الحركة الأخبارية لم تمتد في إيران كثيراً، وإنما تكرَّسَتْ وتوسَّعَتْ في البحرين، ثم انطلقت منها إلى كربلاء، وازدهرت هذه الحركة وانتعشت في كربلاء، ثم أخذت تنحسر بالتدريج بفعل المواجهة التي قام بها وصعَّدَها الوحيدُ البهبهاني في كربلاء ثم مِن بَعدِه تلامذتُه وتلامذتُهم في النجف الأشرف ..

وانهزم الخط الأخباري في هذا العصر الثالث في أواخر القرن الرابع، وكان من أهمّ عوامل انهزامهم عاملان :

الأوّل : عمَلُ الأخباريين بالروايات الضعيفة الغير حجّة شرعاً ولا عقلاً والذي يخالف الإحتياطَ قطعاً .
والثاني : عامل المكان، فإنّ مدرسة الأستاذ الوحيد البهبهاني نشأت على مقربة من المركز الرئيسي للحوزة وهو النجف، فكان قُرْبُها المكاني هذا من المركز العلمي سبباً لاستمرارها ومواصلةِ وجودها عبر طبقات متعاقبة من الأساتذة والتلامذة، الأمر الذي جعل بإمكانها أن تضاعف خبرتها باستمرار وتضيف خبرة رجالاتها إلى خبرة السابقين لهم، حتى استطاعت أن تقفز بالعِلم قفزة كبيرة وتعطيه ملامح عصر جديد . وبهذا كانت مدرسة البهبهاني تمتاز عن مدرسة الأخباريين التي كانت تقوم هنا وهناك بعيداً عن المركز وتتلاشى بموت رائدها .

ومن أكبر النِعَم على شيعة محمد وآل محمد أن ظهرت المدرسةُ الأخبارية، فإنها وإن كانت باطلة قطعاً ولكنها أثارت العلماءَ للدفاع عن المدرسة الاُصوليّة وأدلّةِ المسائل الاُصولية في كافّة الأبحاث، حتى تنقّحت وظهرت بأبهى صورها الإستدلالية .

ونلاحظ زعماء هذا العصر الثالث والذين أوصلوه إلى القمّة في عصرنا هذا هم الأركان الأربعة : الشيخ الأنصاري(توفّي 1281 هـ) وبعده الميرزا النائيني والآقا ضياء الدين العراقي والسيد الخوئي رحمهم الله جميعاً وحشرنا معهم .
ومِنَ الملفِتِ توجّهُ العلماء في أوائل العصر الثالث ـ ما بين سنة 1050 هـ إلى 1100 هـ ـ إلى جمْعِ أحاديث المعصومين (عليهم السلام)، فكَتَبَ الفيضُ محسن القاساني(توفي 1091 هـ)‌ كتابَ الوافي المشتمل على الأحاديث التي جاءت في الكتب الأربعة، ثم جاء بعده الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي(توفي 1104 هـ) فكتب كتاب الوسائل الذي جمع فيه عدداً كبيراً من الروايات المرتبطة بالفقه، ثم كتب بعدهما السيد هاشم البحراني(توفي 1107 ه‌) كتاب البرهان في تفسير القرآن، حيث جَمَعَ فيه المأثورَ من الروايات في تفسير القرآن، وأخيراً كتب العلاّمة الشيخ محمد باقر المجلسي(توفي 1110 ه‌) كتاب البحار وهو أكبر موسوعة للحديث عند الشيعة، ولك أن تقول كانوا يكتبون في نفس الوقت تقريباً .

والسبب في التوجّه إلى جمع الأحاديث بهذا الشكل في أوائل العصر الثالث هي ثلاثة اُمور :
الأوّل : زلزال الأخباريين، حيث كثر الكلام في أوائل العصر الثالث ـ أي من سنة 985 هـ حيث ظهرت المدرسة الأخبارية ـ عن لزوم الرجوع إلى الأحاديث وعدم جواز الإجتهاد وإعمال العقل في الإستنباط،
والثاني : راحة الشيعة في ظلّ الحكم الصفوي الشيعي (الذي بقي من سنة 905 إلى 1149 هـ ق)، فقد قام النظام الصفوي بإسم الدعوة إلى التشيع، واستفاد من هذه الدعوة واكتسب قوته من ذلك، وانتشر التشيُّعُ في إيران بسبب هذا النظام، واستقدم النظامُ فقهاءَ الشيعة من جبل عامل لنشر التشيع وتفقيهِ أجهزة الدولة وحركة المجتمع العامة ...
وبما أنّ كلّ هذه النهضة الشيعية الملفتة جداً، في كلّ الميادين، حصلت في العصر الصفوي ـ رغم قصر مدة حكمهم ـ كان لا بدّ من الإضاءة على هذا الحكم بعد قليل .

والثالث : اكتشاف كتب عديدة في الروايات خلال القرون التي أعقبت الشيخ الطوسي لم تكن مندرجة في كتب الحديث الأربعة عند الشيعة، ولهذا كان لا بد لهذه الكتب المتفرقة من موسوعات جديدة تضمها وتستوعب كل ما كَشَفَ عنه الفحصُ والبحثُ العلمي من روايات وكتب أحاديث، هذه الموسوعاتُ الكبيرة كانت نعمةَ الله على شيعة محمد وآل محمد، وكأنّ المعصومين (عليهم السلام) قد رجعوا إلى الظهور مرّة ثانية .

محاور الخلاف بين المدرستين أربعةُ اُمور :
الأوّل : قطعية صدور كل ما ورد في الكتب الحديثية الأربعة من الروايات لاهتمام أصحابها بتدوين الروايات التي يمكن العمل والاحتجاج بها، وعليه فلا يحتاج الفقيه إلى البحث عن أسانيد الروايات الواردة في الكتب الأربعة، ويصح له التمسك بما ورد فيها من الأحاديث . بل ذهب بعضهم إلى الإكتفاء بصرف نسبة القول لأحد المعصومين عليهم السّلام في قبوله، بل عدّوه بذلك قطعي الصدور ! ولذا أنكروا فائدة علم الرجال وثمرته وتبعاً لذلك أنكروا فائدة علم دراية الحديث بالمعنى المصطلح !!
أما الأصوليون فلهم رأي آخر فيما ورد في الكتب الأربعة ويقسمون الحديث إلى الأقسام الأربعة المشهورة : الصحيح والحسن والموثق والضعيف، ويأخذون بالثلاثة الأول دون الأخير .
الثاني : عدم جريان البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية، وهو رأي الأخباريين، أما الأصوليون فيذهبون إلى صحة جريان البراءة في الشبهات الحكمية الوجوبية والتحريمية بأصالة البراءة والحلّيّة العقليتين وبقاعدة البراءة والحليّة الشرعيّتين .
الثالث : نفي الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي، ونفي حجية حكم العقل لأنه لا يفيد إلاّ الظنّ، وعدم جواز الإعتماد على المقدمات العقلية لأنها أيضاً لا تفيد إلا الظن، وأنه لا ينبغي الإعتماد على غير الحديث . وقد يكون بينهم اختلاف في بعض ما ذكرنا، فتفهم من بعضهم أنّ خلافهم معنا إنما هو في حصول القطع ـ كصغرى ـ لا في حجيّة القطع ـ ككبرى ـ، وتفهم مِن آخرين أنهم يقولون بعدم حجيّة الكبرى حتى ولو حصلت الصغرى، ونسبوا ذلك إلى المحدث الاسترآبادي والسيد نعمة الله الجزائري والمحدث البحراني !! وهذا عجيب حقّاً .
والرابع : نفي حجيّة ظهورات الكتاب العزيز، وقد وقف الأخباريون عن العمل بظهورات القرآن الكريم، واعتبروا أنْ لا قيمة أصلاً لظهورات القرآن الكريم إلاّ بعد مراجعة الروايات، وذلك لاحتمال طُرُوّ مخصِّصات من السُّنَّة ومقيِّدات على عمومه ومطلقاته، ولما ورد من أحاديث ناهية عن تفسير القرآن بالرأي، وكانوا يقولون بأنّ القرآن لا يعرفه إلاّ مَن خوطب به، وأنّ ظهورات القرآن الكريم لا تورث إلاّ الظنّ، وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، واعتبروا أنّ العمل بالظهورات العرفية هو عمَلٌ بالرأي !!
والرأيُ المعروف عند الاُصوليين هو حجيّة ظواهر كتاب الله الكريم، فإنها حجّة من حيث الأصل، لكنْ لخصوص الخبراء باللغة العربية، وإلاّ ـ لو لم تكن ظهورات القرآن الكريم لنا حجّة ـ لبطلت الفائدة من قراءة القرآن الكريم لوحده ـ أي مجرّداً عن الروايات المفسّرة ـ وستبطل الفائدةُ من عَرْضِ الرواياتِ المتعارضة عليه، أو عرْضِ الحديثِ المخالف عليه، وح لن يكون نوراً وهدى وتبياناً لكلّ شيء . فالقرآن الذي هو العِدْلُ الأكبر والثقل الأعظم للشريعة يجرّد مِن دلالاته الظاهرة ويقلَّل من حجّيته وهو الحجّة الكبرى ؟! وهذا عملياً يسقط القرآن من الإفادة، أمر غريب حقّاً، أن يَحصروا فهْم القرآنِ الكريم بالمعصومين (عليهم السلام)، وبذلك أسقطوا الإستفادة منه عملياً من حيث لا يشعرون !! لا ينكر واحد من الاُصوليين أنّ الفهم التامّ منحصر في المعصومين، فهم خلفاء الله الكاملون، خاصّةً في متشابهاته، لكنْ هذا لا ينفي فهْمَه بمقدارٍ للناس، بل لكلّ الناس، وإلاّ لبطلت الفائدةُ منه .
وقال لهم الاُصوليون بأنّ كلامكم هذا يخالف السنّة القطعيّة التي منها قوله (عليه السلام)( إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن )[1] وقوله (عليه السلام)( فما وافق كتاب الله فخذوه )[2].
أقول : لعلّ الخلاف بينهم في هذه النقطة نظريّ فقط، فالاُصولي حينما يقول بأنّ ظهورات الآيات الكريمة حجّة من حيث الأصل، لا ينفي لزومَ الرجوعِ إلى الروايات والبحثِ فيها لتُفهم على ضوئها الآياتُ القرآنية بشكل كامل وصحيح ..

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo