< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الفقه

38/02/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : آخر بحث حلق اللحية

(على) أن كثرة النواهي الواردة في النهي عن التشبّه بالكافرين تجعلنا نطمئن بصدور بعضها ولو كان بعضها ضعيف السند ، أذكر بعضها :

في الكافي : الحسين بن محمد عن أحمد بن اسحاق عن سعدان بن مسلم عن اسحاق بن عمّار قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( اِكنِسوا أفنيتكم ولا تشبّهوا باليهود )[1] .

وفي الخصال : عن محمد بن جعفر البندار عن مسعدة بن أسمع عن أحمد بن حازم عن محمد بن كناسة عن هشام بن عروة عن عثمان بن عروة عن أبـيه عن الزبـير بن العوام قال قال رسول الله (ص) : ( غيّروا الشيـب ، ولا تشبّهوا باليهود والنّصارى )[2] .

وفي الخصال أيضاً : عن أبـي محمد عبد الله الشافعي عن محمد بن جعفر الأشعث عن محمد بن إدريس عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبـي سلمة عن أبـي هريرة قال قال رسول الله (ص) : ( غيّروا الشيـب ، ولا تشبّهوا باليهود والنّصارى )[3] .

(وأمّا) دلالة ، فقد يُقال بأنه يُحتمل إرادة استحباب إعفاء اللحى بقرينة الأمر بإحفاء الشارب الذي هو مستحب بالعَرض لا بالذات ، إذ ليس الشارب في الرجل كالشعر الزائد في البدن ليكون شأنه الحلق ، وإنما خلقه الله تعالى زينة وكمالاً للرجال ، لكن ابتعاداً عن التشبّه بالكفّار أمرنا رسول الله (ص) بنحو الإستحباب بحفّ الشوارب ممّا يفهم منها ـ بقرينة السياق ـ استحباب إعفاء اللحية أيضاً . ونحن امتـثالاً لأمر رسول الله (ص) وجمعاً بـين حديثه هذا وبـين الرواية الثالثة التالية التي تعتبر أن جزّ الشوارب وإعفاء اللحى هي الفطرة ، نقصّ الشوارب الواقعة على الشفة استحباباً لأن ذلك هو مقتضى الفطرة التي نبّهنا عليها رسول الله (ص) ، وكذلك نعفي اللحى استحباباً .

وعنه في الفقيه أيضاً قال : قال رسول الله (ص) : ( إن المجوس جزّوا لحاهم ووفروا شواربهم ، وإنّا نحن نجزّ الشوارب ونعفي اللحَى ، وهي الفطرة ) معتبرة السند بالتقريـب السابق .

وهي كسابقتها في احتمال إرادة استحباب إعفاء اللحى بقرينة السياق ، لا سيّما وأنها تقول ( وإنّا نحن نجزّ الشوارب ) إذا فسّرنا جز الشوارب بأنه الإستقصاء في الحلق ، وهو قطعاً غير واجب .

والظاهر من الرواية أنها تريد أن تقول بأن المجوس وفّروا شواربهم بمعنى أطالوها أي تركوها تسقط على شفاههم ، وإنّا نحن نجزّ الشوارب عن الشفاه وهذا مقتضى الفطرة ، ولذلك قال ( نجزّ ) ولم يقل نحفّ ، وللتأكيد على إرادة جزّ الشوارب الساقطة على الشفة قال (ص) ( وهي الفطرة ) .

ـ وفي معاني الأخبار للصدوق : عن الحسين بن إبراهيم المكتِّب (بن أحمد بن هشام المؤدِّب) عن محمد بن جعفر الأسدي عن موسى بن عمران النخعي عن عمّه الحسين بن يزيد (النوفلي) عن علي بن غراب عن جعفر بن محمد عن أبـيه عن جدّه (ص) قال : قال رسول الله (ص) : ( حفّوا الشوارب واعفوا اللحَى ولا تشبّهوا بالمجوس ) ضعيفة السند لجهالة موسى بن عمران النخعي وعمّه الحسين وعلي بن غراب ، وهي كالرواية الثانية السابقة .

الفضل بن الحسن الطبرسي في مجمع البـيان نقلاً من تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ[4] قال : إنه ما (حينما ـ ظ) ابتلاه الله به في نومه من ذبح ولده اسماعيل فأتمّها[5] إبراهيم وعزم عليها وسلّم لأمر الله ، فلمّا عزم قال الله تعالى له ثواباً له ـ إلى أن قال ـ ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَــاماً )[6] ، ثــم أنـــزل الله عـليــــه الحنيفيــةَ وهــي عــشــرة أشـيــاء : خـمـســة مــنهــا في الرأس ، وخمسةٌ منها في البدن ، فأمّا التي في الرأس : فأخذُ الشـارب وإعفـاء اللحى وطمّ الشعر والسـواك والخلال ، وأمّا التي في البدن : فحلق الشعر من البدن ، والخِتان ، وتقليم الأظفار ، والغسل من الجنابة ، والطهور بالماء ، فهذه الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم (عليه السلام) ، فلم تـنسخ ولا تـنسخ إلى يوم القيامة ، وهو قوله ﴿ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً[7] مرسلة السند .

وأمّا دلالة ، فهي تؤكد ما ذكرناه سابقاً بالنسبة إلى الشارب من إرادة استحباب قطع الشارب الساقط على الشفة ، فإنه هو مقتضى الفطرة .

وأمّا بالنسبة إلى إعفاء اللحى في هذه الرواية فالسياق لا يساعد على إرادة وجوب إعفاء اللحية .

ـ محمد بن يعقوب في الكافي : علي بن محمد[8] عن محمد بن اسماعيل بن موسى بن جعفر عن أحمد بن القاسم العجلي عن أحمد بن يحيى المعروف بكرد (برد ـ كمال الدين وإتمام النعمة) عن محمد بن خداهي عن عبد الله بن أيوب عن عبد الله بن هاشم (هشام ـ خ) عن عبد الكريم بن عمرو الخثعمي عن حبابة الوالبـية قالت: رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرطة الخميس ومعة دِرّة لها سبّابتان يضرب بها بـياعي الجِرّي[9] والمارماهي والزِّمار ويقول لهم : ( يا بـياعي مسوخ بني إسرائيل وجند بني مروان ) ، فقام إليه فرات بن أحنف فقال : يا أمير المؤمنين ، وما جند بني مروان ؟ قال فقال له : ( أقوام حلقوا اللحى وفتلوا الشوارب فمُسخوا ) ضعيفة السند لجهالة محمد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر وأحمد بن القاسم العجلي وأحمد بن يحيى بن حداهي وعبد الله بن هاشم (هشام ـ خ) ، على أن الموجود في كتب الرجال محمد بن خداهي عن عبد الله بن أيوب وليس أحمد بن يحيى بن حداهي ، وهي تدل على حرمة حلق اللحى وفتل الشوارب .

(هذا) ولكن روى محمد بن الحسين الرضيّ الموسوي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه سُئل عن قول رسول الله (عليه السلام) : ( غيّروا الشيـب ، ولا تشبّهوا باليهود ) ، فقال : ( إنّما قال النبـيُّ (ص) ذلك والدّينُ قُلُّ ، وأما الآن وقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤٌ وما اختار )[10] مرسلة السند ، ولكن لا يـبعد دعوى الإطمئنان بصدور هذه الرواية بعد كون الروايات الناهية عن حلق اللحية والتشبّه باليهود فعلاً عن رسول الله (ص) ، ولذلك هذه الرواية تردد الفقيه في الإفتاء بتحريم حلق اللحية .

نظرةٌ إلى الروايات بشكل إجمالي :

يلاحِظ المتأمِّلُ في مجمل هذه الروايات أن رسول الله (ص) كان يريد من خلال تكرار النهي عن التشبّه بالكافرين الوارد في الكثير من الروايات[11] أن يخلق مجتمعاً مستقلاً عن أدنى تبعية للكفّار حتى في أقل مراتب التشبّه بهم ، حتى ولو اقتضى الأمر أن نحفّ الشوارب تماماً ، ليخلق في أنفسنا ملكةَ الإعتزاز بالإسلام وملكة رفض كل مظاهر الكافرين ، طبعاً على أن يؤخذ من اللحية ما جاوز القبضة ـ كما قال ابن سعيد الحلّي في جامع الشرائع وصاحب الوافي ـ لأن ذلك مقتضى الفطرة الواردة في آية ﴿ فِطْرَةَ اللهِ[12] ، والواردة أيضاً في معتبرة الفقيه ( وإنا نحن نجزّ الشوارب ونعفي اللحى وهي الفطرة ) بل يمكن أن تفهم ذلك من آية ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ[13] أيضاً ، إذ أن اللحية الطويلة جداً تخرج عن الزينة ، إضافة إلى الروايات المصرّحة بالنهي عن تطويلها أكثر من قبضة[14] .

وكذلك الأمر في الشوارب ، فإنه ينبغي أن يؤخذ منها إلى أعلى الشفة على ما هو مقتضى الفطرة والزينة ، بل ورد التصريح بذلك في بعض الروايات من قبـيل ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبـيه عن النوفلي عن السكوني عن أبـي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (ص) : ( مِنَ السُنّة أن تأخذ من الشارب حتى يـبلغ الإطارَ )[15] ، وليس الأمر واجباً وإلاّ لبان كالشمس في رائعة النهار .

على أي حال لا مناص من الإحتياط الوجوبـي في مسألة حلق اللحية ـ رغم الإشكال في المسألة ـ بعد أن صار حلق اللحية تشبّهاً بالكفار والفاسقين وهو ما يرفضه نبـي الإسلام (ص) قطعاً لكثرة ما ورد من النواهي عن التشبّه بالكافرين في كل خصوصياتهم ، نعم يصعب الإفتاء بحرمة حلق اللحية لما أوردناه سابقاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من أنّ حرمة التشبّه باليهود كان في زمن النبـيّ (ص) ... إلاّ أنه لا يمكن الإعتماد كثيراً على هذه الرواية لإرسالها أوَّلاً ولمخالفتها ـ ثانياً ـ لما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) في الرواية السابقة من أن الله تعالى مسخ قوماً كانوا يحلقون اللحى ويفتلون الشوارب ، مع كون هذه الرواية في أواخر عهد الإمام علي (عليه السلام) .

بل إن سياق (حفوا الشوارب واعفوا اللحى )[16] قد لا يمنع من لزوم الأخذ بالأمر بإعفاء اللحى حتى وإن علمنا بأنَّ الأمر في حف الشوارب استحبابـي ، فظاهر الأمر هو الوجوب ، ولا أقلّ من احتمال ذلك .

على أنه لا شك في مبغوضية حلق اللحية لأنه خلاف الفطرة على ما أشارت إلى ذلك الآية الكريمة ومعتبرة الفقيه السابقة ، ولأنّه ـ كما في معتبرة البزنطي ـ لا يصلح أن يأخذ الرجل من مقدّم لحيته فكيف بأن يحفّها تماماً ! ...

والخلاصة هي أنه يحتمل حرمة حلق اللحية واقعاً ، هذا الإحتمال ـ كما أسلفنا سابقاً ـ ناشئ من :

ـ الأمر بإعفاء اللحى في عدّة روايات .

ـ النهي عن التشبّه بالكافرين، وبتـنقيح المناط يكون النهي عن التشبّه بمطلق الفاسقين .

ـ خروج حلق اللحية عن خلق الله وفطرة الله ، وهذا يعني أنّ حلق اللحية إمّا مكروه وإمّا حرام واقعاً .

ـ دعوى الإجماع ـ من قِبل السيد الخوئي[17] ـ عند الشيعة والسنّة على حرمة حلق اللحية ، هذا الإجماع وإن كان محتمل المدركية أو معلوم المدركية إلاّ أنه ـ منضمّاً إلى النقاط السابقة ـ يردد الفقيه في التمسّك بأصالة البراءة .

بل إنّ سكوت المعصومين (عليهم السلام) على تحريم أكثر العامّة لحلق اللحية يجعلنا نظنّ بالحرمة الواقعيّة ، لأنّهم (عليهم السلام) لا يقبلون أن تَشِيْعَ بـين المسلمين فتوىً بخلاف الحكم الشرعي الواقعي ، فلو كانـت الكراهةُ هي الحكم الواقعي لذكروا ذلك في عشرات الروايات ، فسكوتُهم (عليهم السلام) عن التحريم علامةُ القبول والرضا ، وهذا عندي أقوى دليل على وجوب الإحتياط إن لم يكن تحريمُ حلق اللحية هو الأقوى .

وإنما قلت بالإحتياط الوجوبـي ـ دون الإفتاء بالحرمة القطعية ـ لسبـب عدم ذِكْرِ أئمّتـنا (عليهم السلام) لحرمة حلق اللحية ولو في رواية واحدة ، ولو كان حلق اللحية حراماً ـ كحرمة شرب الخمر مثلاً ـ لاقتضى الأمرُ ـ من باب وجوب تبليغ الرسالة عليهم ـ ذِكْرَ ذلك في الكثير من الروايات ولم يعتمدوا في بـيان الحكم على أحاديث رسول الله (ص) المعلّلة للتحريم بالتشبّه بالكفّار ، ممّا يوحي بعدم التحريم النفسي ، وإنما التحريم لعنوانٍ ثانوي .

إضافةً إلى أنه يمكن أن يكون سكوتُ أئمّتـنا (عليهم السلام) عن حكم اللحية لشدّة كراهة حلقها ـ لا لحرمته ـ فلم يذكروا حِلّيّة حلْقِها أو كراهيّتَه كيلا يتّخذَ المسلمون ذلك ذريعةً لحلْقِها .

ولن نجعلَ سيرةَ المتشرّعة من جملة الأدلّة ، وذلك لأنّ سيرتهم لا تكشف عن وجوب إعفاء اللحية ، فلعلها ناشئةٌ من استحباب إعفائها أو كراهةِ حلقها أو من العادة الفطرية على إعفاء اللحى .

فالأحوط وجوباً عدمُ حلقِ اللحية إلاّ عند الضرورة ، نعم يستحبّ تطويلُها إلى درجةٍ عقلائية فلا تزيد عن القبضة كما ورد في الروايات، بمعنى أنك إذا مددت الشعرة لا تصل إلى 8 سنـتم الذي هو ارتفاع القبضة وهذا هو الذي يناسب الفِطرة الإنسانية أيضاً .

أمّا الشوارب فلا شكّ في كراهة حلْقِها لما رويناه قبل قليل مِن أنّ ( مِنَ السُّنَّةِ أنْ تأخذَ من الشارب حتى يـبلغَ الإطار ) أي الحافّة العليا للشفة العليا ، وهذا ما يناسب آيةَ الفطرةِ أيضاً ، واللهُ العالم ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمين .

 


[5] أي فأتم التوسل بالكلمات، والكلمات هي محمد وآل محمد (ص)، وفي الرواية نقص يتضح من السياق.
[7] سورة النساء، آية 125. تجد هذه الروايات في الوسائل، باب67 من أبواب آداب الحمّام
[8] علي بن محمد هذا هو أبو الحسن (ثقة فاضل أديـب، وهو شيخ الكليني) وهو ابن محمد ماجيلويه، وجدّه لأمّه أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ومحمد ماجيلويه يكون ابن أبـي القاسم (عبد الله أو عبـيد الله) الملقّب بـبندار وماجيلويه، وأبو القاسم يكون ابن عمران البرقي .وقد رزق الله تعالى أبا القاسم هذا ولداً آخر أسماه علياً ولقبه أيضاً ماجيلويه، ورُزق عليٌّ هذا ولداً أسماه محمداً ولُقِّب أيضاً بمحمد ماجيلويه، محمد الأخير هذا يروي عن عمه محمد وعن ابن عمّه علي، ومحمد بن علي بن أبـي القاسم هو شيخ الصدوق .
[9] الجِرّي : هو في عرفنا سمك الحنكليس.
[14] راجع وسائل الشعة، الحر العاملي، ج1، ص420، أبواب آداب الحمام، ب65، ح5.. من قبـيل ما رواه معلى بن خنيس عن أبـي عبد الله (عليه السلام) قال : (ما زاد من اللحية عن القبضة فهو في النار)، ومحمد بن أبـي حمزة عمن أخبره عن أبـي عبد الله (عليه السلام) أنه قال : (ما زاد على القبضة ففي النار) يعني اللحية، ويونس عن بعض أصحابه عن أبـي عبد الله (عليه السلام) أنه قال ( تقبض بـيدك على اللحية وتجز ما فضل)

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo