< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/02/21

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الكلام في بحث القطع

* بدأ الشيخ الأعظم الأنصاري رحمة الله عليه في أوّل فرائده بقوله : " اِعلمْ أن المكلَّف إذا التفت إلى حكم شرعي فإمّا أن يحصل له الشّك فيه أو القطع أو الظنّ"[1] (إنتهى) .
ولا شكّ في أنّ مراده من المكلّف هو البالغ العاقل، سواء كان مجتهداً أم غير مجتهد، مع غضّ النظر عن فعليّة مقدّمات الحكم كالزوال بالنسبة إلى فعليّة وجوب الصلاة وكالإستطاعة بالنسبة إلى فعليّة وجوب الحجّ .
ويقع الكلام هنا في عدّة جهات :
* الجهة الأولى في موضوع التقسيم، وهو في كلام الشيخ عبارة عن ( المكلَّف ) . والعمدة في المقام البحث عن أمرين :
الأمر الأوّل : إنّ الموضوع لهذا التقسيم هل ينبغي أن يكون خصوص البالغ ـ كما قال الشيخ الأنصاري ـ أو ينبغي أن يكون شاملاً للصبيّ المميّز أيضاً ؟
الصّحيح هو أنّ هذا التقسيم ينبغي أن يكون شاملاً للصبيّ المميّز أيضاً، فإنه قد يشكّ الصبيّ في بعض الموضوعات الشرعية، وقد يشكّ في بعض الأحكام الشرعية أيضاً، وقد يعلم ببعضها كما في ضروريات الدين . أمّا في حال شكّه في الموضوعات الخارجية فيجب عليه أن يعمل بما يمليه عليه مرجعه، كما لو شكّ في تغيّر الحالة السابقة لشيء خارجيّ يترتّب عليه أثرٌ شرعي، فيوجب عليه مرجعه في هكذا حالة أن يستصحب الحالة السابقة، وكما لو شكّ بعد الفراغ من العمل فيوجب عليه مرجعه أن يرجع إلى قاعدة الفراغ أو التجاوز ..

أمّا في الشبهات الحكمية فإن كان الصبيُّ مجتهداً فعليه أن يعمل باجتهاده، ولا شكّ في أن كلّ أو جلّ الأحكام الشرعية شاملة للصبيان أيضاً، إنما رفعها الله تعالى عنهم منّاً عليهم، ترى ذلك واضحاً من خلال كثرة أمر الأولياء بأمر الصبيان بالصلاة والصيام وغيرهما .

أمّا كيف يشكّ غيرُ البالغ في الحكم ؟ فهذا ما يمكن تصوّره بعدّة أنحاء :
1 ـ أن يشكّ فيما جعل حدّاً عمريّاً للبلوغ ـ مثلاً لمن لم يحتلم أو يشعر ـ : هل هو الثلاث عشرة سنة أم الدّخول في الخامسة عشرة ؟
2 ـ أن يشكّ في مفهوم ما جعل حدّا للبلوغ كما لو شكّ في مفهوم الإنبات سعة وضيقاً .
3 ـ أن يحتمل ثبوت بعض الأحكام على غير البالغ، أعني الأحكام الناشئة من حكم العقل، كحرمة الظّلم والسرقة فلا بدّ له من تحصيل مؤمّن من قطع أو ظنّ معتبر أو العمل بوظيفة الشّاكّ الشّرعيّة أو العقليّة .

أمّا في النحو الأوّل فيجب عليه أن يرجع إلى أصالة البراءة وقاعدتها، وليس له أن يرجع إلى عموم الإنسان في أدلّة الأحكام كـ [ أَقيموا الصلاةَ وآتوا الزكاة ][2] و[كُتِبَ عليكُمُ الصيامُ ] و[ للهِ على الناس حِجُّ البيتِ ] [3]، وذلك لأنّ هذه الأدلّة ناظرة من الأصل وبالتسالم بين المسلمين إلى خصوص البالغ العاقل، وذلك بدليل "رّفع القلم عن الصبيّ حتى يحتلم"، كما أنّه ليس له أن يرجع إلى أصالة عدم الجعل، وذلك لتماميّة الجعل عند نزول قولِه تعالى[ اليَومَ أَكمَلْتُ لكُمْ دِينَكُم][4] وأنه "في الجامعة كلّ حلال وحرام حتى الأرش في الخدش" وهذا أمرٌ مسلّم بين الشيعة أيضاً , وليس له أن يرجع إلى أصالة عدم البلوغ، وذلك لفرض شكّه في البلوغ وعدمه حين بلوغه ثلاث عشرة سنة، وأنّ شكّه حكمي وليس موضوعياً، والإستصحاب في الشبهات الحكمية لا يجري في حال كون المستصحب أمراً بسيطاً، وهو الآن شاكّ في كونه بالغاً أو لا، فالمستصحبُ إذن بسيط، ولا يمكن الإستصحاب في عالم الجعل في الاُمور البسيطة، لأنّه في عالم الجعل يوجد طفرية فقط، بمعنى أنه في سنّ الثلاثة عشر حكمه كذا، وفي سنّ الحامسة عشر حكمه كذا، فعالم الجعل إذن عالم الطفرات، وليس فيه البناء على البقاء على الحالة السابقة، وإنما لكلّ واقعة حكم، إذن هذا الصبيّ الآن ـ حين صار عمره ثلاث عشرة سنة ـ إمّا بالغ في عالم الجعل وإمّا لا، فكيف يتصوّر في حقّه استصحاب عدم البلوغ ؟! وكما لو ارتكب المؤمنُ الصغائرَ وشككنا في بقائه ـ رغم ذلك ـ على العدالة، فهنا لا يجوز لنا استصحابُ بقاء الموضوع، لأنه بسيط، بمعنى أنه الآن ـ في عالم الجعل ـ إمّا عادل وإمّا فاسق، فلا يجوز الإئتمامُ به .
نعم الإستصحابُ يجري فيما لو كان المستصحبُ أمراً مركّباً، كما فيما لو غلينا الزبيب فحصل عندنا شكّ في حرمته، فهل نستصحبُ الحكم المعلّق السابق الذي هو عبارة عن "إذا غلى العصير العنبي فإنه يحرم" أم أننا نستصحبُ طهارة الزبيب المغلي من قَبْلِ غليانه إلى ما بعد الغليان ؟! الصحيح أنه يجب استصحابُ بقاء موضوع الحكم، أي أننا نستصحبُ بقاء موضوع الحرمة، وذلك لاحتمال عدم مقوّمية العنبيّة للحرمة، وكما فيما لو أغمي على المرجع وشككنا في مقوّمية إفاقته ووعيه لجواز تقليده، فهنا نستصحب بقاء موضوع الحكم ونبقى على تقليده، وكذا لو مات وشككنا في جواز البقاء على تقليده، فإننا يجب علينا أن نبقى على تقليده، وذلك لاحتمال كفاية بقاء علمه في عقله الذي لا يتعطّل لا في حال الإغماء ولا في حال الموت .
وكذلك الأمر في النحو الثّاني فإنه أيضاً يجب على هذا الصبيّ المميّز المجتهد أن يرجع إلى البراءة من التكاليف الإلزامية المحتملة، وليس له الرجوع إلى استصحاب عدم البلوغ، لأنه الآن بعد هذه المرحلة من الإنبات إمّا أنه بالغ في عالم الجعل وإمّا لا، فكيف نستصحب في عالم الجعل عدمَ بلوغه ؟!
مثال آخر في الإستصحاب في الشبهات الحكمية :
جرى البحث بين العلماء في فرض حصول شك في مقدار الذراع وهل هو 45 سنتم أو 46 أو 47 سنتم مثلاً لمعرفة مسافة التقصير، فالشبهة مفهومية ـ في مفهوم الذراع ـ أي أنّ الشبهة حكميّة، فهل يجري استصحاب عدم بلوغ المسافة أم لا ؟ أم نرجع إلى أصالة التمام ـ الذي هو العموم الفوقاني في مثل هذه الحالة ـ حتى تثبت المسافة الشرعية فأقول :
لو قُدِّرَ لنا أن ننظر إلى عالم الجعل لوجدنا جواباً لا محالة، وهو إمّا أنه يتمّ وإمّا يقصّر، فلا استصحاب في ذلك العالَم، لأنّ الموضوع بسيط، ولا وجه للتقصير مهما قلتَ وفكّرتَ، ولو لعدم ثبوت بلوغ المسافة الشرعية خارجاً، أمّا ما هو الدليل على وجوب الإتمام ؟ لا شكّ أنه الرجوع إلى العمومات الفوقانية وهو وجوب التمام وهو ما يعبّرون عنه بأصالة التمام حتى يُعلم بحصول السفر .
وأمّا في مجال العقليّاتوهو النحو الثالث فإنّ كان الحكم العقلي لهذا الصبيّ المميّز المجتهد واضحاً وجب عليه اتّباع عقله، كما في وضوح قبح الظلم والسرقة والزنا، والمجتهد يعلم أنّ الشارع المقدّس لا يخالف هكذا أحكام واضحة، وإلاّ فمع عدم وضوح حكم العقل فيه يرجع أيضاً إلى براءة الذمّة شرعاً وعقلاً .



[1] يجب القول هنا بأنّنا يجب أن نسمّي هذا الكتابَ (مباحث الاُصول بثوبه الجديد) فإنه أكثر ما ينظر إلى ما في كتاب (مباحث الأصول) لاُستاذنا المرجع السيد كاظم الحائري حفظه الله تعالى ورعاه، وهو تقرير لدروس اُستاذه الشهيد السيد محمد باقر الصدر وتعليقة السيد الحائري عليه، وإنّ أكثر نظرنا إلى كلّ ما في هذا الكتاب وتعليقته من آراء ونظريات، وهو تحقيق وتصحيح للآراء الموجودة في الكتاب، وقد حاولتُ أن ألتزم بفهرست كتاب (مباحث الأصول) وبالكلمات الاُولى الواقعة بعد العناوين مباشرةً كي يسهل على المقارِن الرجوعُ إلى آرائنا .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo