< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/02/22

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تصحيح في تعيين العصر الثالث من عصور علم الأصول

كنّا قد ذكرنا أنّ العصر الثالث يبدأ من سنة 985 هـ ... وتبيّن أن لا دليل للمدعي على ذلك، فقلنا اليوم :
(العصر الثالث من سنة 1031 هـ ـ وإلى يومنا هذا ) :
استمرّت مدرسة العَصْرِ الثاني إلى أن ظهر زلزالُ المدرسة الأخبارية سنة 1031 هـ ق، وقيل إنها ظهرت سنة 985 هـ، ولم يثبت عندي ذلك أصلاً، وإنما ثبت عندي أنّ المدرسة الأخباريّة ظهرت بظهور كتاب (الفوائد المدنية) كما يظهر ذلك بوضوح في مقدّمة هذا الكتاب، كما أنّي لم أرَ وُجوداً للمدرسة الأخباريّة قبل ذلك . ثم قال صاحب الفوائد المدنية في آخر كتابه هذا إنه ( وَقَعَ الفراغُ مِن تحريرِ الفوائد المدنية وحقائق قواعد الأُصول الدينيّة في شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وثلاثين بعد الألف من الهجرة النبويّةفي مكّة المعظّمة زادها الله شرفاً وتعظيماً) [1](إنتهى)، وبظهوره بدأ الأخْذُ والردّ بين المدرستين الاُصولية والأخبارية، وكَثُرَ الحديث يومها بلزوم كتابة أحاديث المعصومين (عليه السلام) ...

والآن نكمل بحث البراءة العقلية فنقول :
وقد تقول بوجوب الإحتياط وذلك لأنّ مولويّة المولى تعالى ليست محدودةً بالأمور المعلومة فقط، وإنما دائرتها شاملةٌ للمحتمَلات أيضاً . هذا أوّلاً،
وثانياً : بدليل أهميّة المحتمَل، فإنّ أمامنا يومَ القيامة وناراً وجحيماً، وأنت إذا احتملتَ أنّ في هذه الغابة أسداً فلن تدخلها، فكيف وأنت تعلم أنّ في القضيّة احتمالَ الخلود في النار ؟! فيجب دفْعُ هذا الضررِ المحتمَل عقلاً، قطعاً، وذلك بالإحتياط والعملِ بما يُعلم معه رضا الله سبحانه وتعالى .
خاصّةً وأنه كان يصف نفس الموضوعات بالوجوب أو الحرمة، فكان يقول بحرمة الخمر، لا بحرمة مقطوع الخمريّة، ممّا يستوجب ترك ما نحتمل خمريته، حِرْصاً على الملاكات الواقعية . هذا كلّ ما يمكن أن يقوله الشهيد السيد الصدر .
أقول : ما ذُكِرَ لا يستوجب لزومَ الإحتياط، فإنّ أهميّة المحتمل قد تستوجب الإحتياط في بعض الاُمور الخارجية ـ كما لو احتملنا وجودَ سمّ في الطعام أو أسد في الغابة ـ لا في الأحكام الكليّة، فلو احتملتَ نجاسةَ الخمر مثلاً ولم يبيّن ذلك الشرعُ، وكان الشارع المقدّس قادراً على بيان ذلك بسهولة، والفرض أنّ دور الأنبياء والأوصياء هو تبليغ أحكام الله إلى الناس، والفَرْضُ أيضاً أنك بحثتَ كثيراً في مظانّ الوجود فلم تجد دليلاً على النجاسة فإنّ عقلك ـ من حيث إنك عاقل وفقيهٌ خبير ـ يحكم بجواز أن تُجري أصالةَ الطهارة قطعاً، ولا تعودُ تَحتمل الضررَ والخطر يوم القيامة، لأنّ لك أن تقول لمولانا (عليه السلام) في الآخرة بأن يا ربّ لو شئتَ لبلّغْتَ بمئات الروايات، لا برواية وروايتين، وقد كنتَ قادراً على ذلك، فلم يَصِلْنا شيءٌ، حتى مع تلف بعض الروايات أو الكثير منها، لو شئتَ أن تُوصل هذه الأحكام الفلانية لأوصلتَ قطعاً، وأنت العالِم بالغَيب أنّ أيّ الروايات ستصل وأيّها لن يَصِلَ، ولو بسبب قلّة رواياتها أو احتمال ضياع بعضها .. كلّ هذا دليل عقلي قطعي على عدم النجاسة أو على الأقلّ على جواز التمسّك بحكم العقل بأصالة الطهارة، ولذلك فنحن ندّعي بأنّ من يتمسّك بأصالة الطهارة والبراءة والحلّيّة العقليّة لا يستحقّ العقاب ولا اللوم قطعاً .

والعلماءُ حينما يستدلّون بالمولى العرفي لا يقيسون المولى الحقيقي على المولى العرفي، معاذ الله، ولكنهم يريدون أن يبيّنوا وضوحَ هذا الأمر بأمثلة وجدانية، فقالوا : لو كان المولى أمامك، وكان قادراً على أن يأمرك أن تصنع له الشاي مثلاً، ومع ذلك لم يأمرك، فبالوجدان لا يجب على العبدِ الإحتياطُ وصناعةُ الشاي، حتى ولو احتمل أنه يريد ذلك ويوجبُه عليه .
ولله درّ المحقّق العراقي حينما قال : (الأمر الرابع : لا ريب في أن من القضايا المسلمة بين الأخباريين والأصوليين بل بين قاطبة العدلية هي قاعدة قبح العقاب بلا بيان وأنّه لا نزاع بينهم في أصل هذا الكبرى، إذ لا يتوهم اِنكارُها ممّن له أدنَى مِسْكَة ودراية فضلاً عن مثل هؤلاء الأجلاء)[2] (إنتهى) .
* * * * *
لا يزال الكلامُ في البراءة، وانتهى البحثُ في المقام الأوّل الذي كان في البراءة العقلية، وخرجنا بصحّة نظريّة قبح العقاب وخطأ نظريّة حقّ الطاعة، والآن نبحث عن البراءة الشرعية، وأنت تعلم أنّ الجميع قائلون بالبراءة الشرعية، وعليه فقد لا يكون هناك أثر للبحث في صحّة البراءة العقلية أو صحّة أصالة الإحتياط العقلي، وذلك لورود البراءة الشرعية على البراءة العقلية وعلى الإحتياط العقلي .
إذن كلامُنا الآن في المقام الثاني وهو في البراءة الشرعيّة .
* * * * *
2 ـ البراءةُ الشرعيّة
الموضوع : أدلَّة البراءة الشرعيّة
البراءة في الكتاب الكريم
من الأدلَّة التي استدلّ بها على البراءة الشرعيّةِ القرآنُ الكريم، وهي الآيات التالية :
1 ـ قوله تعالى﴿ لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ ما آتاها[3] [4]،
وتقريب الإستدلال بها أن يقال : إنّ اسم الموصول يحتمل فيه بدْواً عدّة احتمالات :
(1) ـ أن يكون المرادُ به (التكليف) أي لا يكلِّفُ اللهُ نفساً تكليفاً إلا التكليفَ الَّذي آتاها، ويكون إيتاء التكليف وإعطاؤه بمعنى إيصاله إلى المكلَّف خارجاً .
(2) ـ أن يكون المراد به (المال) وإيتاؤه عبارة عن الرزق، أي لا يكلِّفُ اللهُ نفساً مالاً إلا المالَ الَّذي رزقه إيّاه .
(3) ـ أن يكون المراد به (الفعل) وإيتاء الفعل وإعطاؤه عبارةٌ عن الإقدار عليه، أي لا يكلِّفُ اللهُ نفساً بفعلٍ إلا الفعلَ الَّذي أقدره عليه .
(4) ـ أنْ يكون المراد به (الشيء الجامع بين هذه الأمور) ويكون المراد بالإيتاء إعطاء كلّ بحسبه، فإعطاء التكليف إيصاله، وإعطاء المال رِزْقُه، وإعطاءُ الفِعل الإقدارُ عليه .

والآية الشريفة على الإحتمالَين الأوّل والرابع تدلّ على البراءة، وعلى الثاني والثالث أجنبية عنها .
يقول السيد الشهيد الصدر : ( والمتعيّنُ مِنَ الإحتمالات هو الرابع، فإنّ الإحتمال الأوّل وهو إرادة (التكليف) بالموصول لا يناسب مورد الآية، إذ في صدر الآية أمَرَ الأزواجَ أنْ يُنفقوا في العِدّة بمقدار قدرتهم وسَعَتهم المالية، ثمّ قال : لا يكلَّف اللهُ نفساً إلا ما آتاها، وأمّا الإحتمال الثاني، وهو أن يراد بالموصول (المال)، فهو : أوّلاً : خلاف إطلاق اسم الموصول في نفسه، ومجرّد خصوصيّة المورد لا توجب التقييد، غاية الأمر أنّها توجب كون المال قدراً متيقّناً في مقام التخاطب، والقدر المتيقن في مقام التخاطب لا يضرّ بالإطلاق . وثانياً : إنّنا يمكن أن نستشعر من سياق الآية أنّ هذه الجملة قد سيقت مساق بيان كبرى كلَّيّة للمورد، فهذا الظهور يناسب أوسعيّة الكبرى وعدمَ مطابقتها للصغرى في مدى سعة دائرة الموضوع . وأمّا الإحتمال الثالث وهو أن يراد بالموصول (الفعل)، فهو أيضا خلاف الإطلاق ومقدمات الحكمة، فيتعيّن الرابع، وبه يتمّ الإستدلال بإطلاق الآية الشريفة على البراءة)[5] (إنتهى) .


[3] قال الله تعالى(لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ، وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ، لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا، سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً .(7)) سورة الطلاق .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo