< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/03/13

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : هناك بعضُ الروايات تؤيّد البراءة الشرعية

ذكرنا في السابق بعض الروايات التي تؤيّد البراءةَ الشرعية، ووصلنا إلى روايات الحلّ فنقول :

3 ـ ولك أن تستدلّ بـ أحاديث الحِلّ، لكنها تفيدُنا في خصوص موارد الشكّ في الحليّة والحرمة، من هذه الروايات :
(أ) ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة(عامّي بتري) عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال سمعته يقول : ( كل شيء هو لك حلالٌ حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه مِن قِبَلِ نفسِك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعله حُرٌّ قد باع نفسَه، أو خُدِعَ فَبِيعَ قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غيرُ ذلك، أو تقومَ به البيِّنَةُ )[1]، ورواها الشيخ في يب بإسناده عن علي بن إبراهيم، وهي موثّقة السند، وتَثبت وثاقةُ مسعدة بن صدقة برواية الصدوق عنه في فقيهه مباشرةً وقد شهد أنه قد أخذ رواياته عن المصنّفات والاُصول التي عليها المعوّل وإليها المرجع، ممّا يعني وثاقةَ أصحابها على الأقلّ، وهذه الطريقة معروفة ومشهورة بين علماء الحديث والرجال، ولذلك وصفها جملةٌ من الأعلام بالموثّقة كالشيخ الأنصاري وصاحب الحدائق وغيرهما .
تقريب الحديث : أوّلاً : لا شكّ أن سياق الحديث ناظر إلى الشبهات التحريمية، وثانياً : قولُه (عليه السلام)(بِعَينِهِ ) ظاهرٌ في النظر إلى خصوص الشبهات الموضوعيّة، وذلك لأنّ معنى ( بِعَينِهِ ) أنه يوجد شيئان أو أكثر، فيها حلال وحرام، كما لو كان يوجد إناء طاهر وإناء متنجّس، والحديثُ يفيدُ حلّيّةَ كلا الطرفين !! وهو قول لا يقول به فقيه قط . فيجب إذَنْ أن تكون كلمة (بِعَينِهِ ) زائدة، وح يجب أن نقول بأنّ المرادَ من الرواية غيرُ مواردِ العِلم الإجمالي، يؤيّد ذلك المواردُ المذكورةُ فيها، فإنه ليس فيها علم إجمالي . إذَنْ هذه الروايةُ تكونُ مؤيّدةً ـ بوضوح ـ لقاعدة البراءة .
(ب) وما رواه في الكافي أيضاً عن أحمد بن محمد الكوفي عن محمد بن أحمد النهدي(هو محمد بن أحمد بن خاقان المعروف بـ حمدان القلانسي كوفيّ فقيه ثقة خيّر) عن محمد بن الوليد عن أبان بن عبد الرحمن(مهمل جداً) عن عبد الله بن سليمان(الصيرفي له أصل لم يوثّقوه) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الجبن قال : ( كلُّ شيءٍ لك حلالٌ حتى يجيئَك شاهدان يشهدانِ عندك أنّ فيه مَيتةً )[2] . قال السيد الخوئي في معجمه ج 10 في عبد الله بن سليمان ص 199 : ( كذا في يب، لكن في الفقيه (عبد الله بن سنان) بدل (عبد الله بن سليمان) وهو الصحيح بقرينة سائر الروايات) (إنتهى) .
أقول : لكن في الكافي أيضاً ـ باب الجبن ـ قال : محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان عن عبد الله بن سليمان قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن، فقال لي : ( لقد سألتني عن طعام يعجبني ) ثم أعطى الغلام درهماً فقال : ( يا غلام اِبْتَعْ لنا جبناً )، ودعا بالغداء فتغدينا معه وأتي بالجبن فأكل وأكلنا معه فلما فرغنا من الغداء قلت له : ما تقول في الجبن ؟ فقال لي : ( أوَ لم ترني أكلتُه ؟ ) قلت : بلى، ولكني أحب أن أسمعه منك، فقال : ( سأخبرك عن الجبن وغيره، كلُّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه )[3] .
وكذا رواها بعينها في المحاسن ـ للبرقي ـ عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان عن عبد الله بن سليمان قال : سألتُ أبا جعفر (عليه السلام) . على أيّ حال هي ضعيفة السند .
أقول : لا شكّ أنّ متن الرواية التي يمكن الإعتماد عليها ـ وهي نصّا روايتَي الكافي ـ هما (كلُّ شيءٍ لك حلالٌ حتى يجيئَك شاهدان يشهدانِ عندك أنّ فيه مَيتةً ) و ( كلُّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرفَ الحرامَ بعينه فتدعه ) فالنصّ الأوّل ممكنٌ جداً شرعاً، لأنّ الأصل أن لا يكون فيه ميتةً، والنصّ الثاني ناظر إلى العلم الإجمالي، فأنت إن كنت تعلم بوجود جبن حلال وجبن حرام في دكّانَين فَلَكَ أن تأكلَ مِن أحدِهما طالما لم تعرف الحرام بعينه !! وبما أنّ هذا المعنى بعيد، فلا بدّ من الجمع بين الروايات بأن نقول "طالما كنت شاكّاً في أصل وجود ميتة إلاّ في دكّان واحد في المدينة، فلا بأس بالأكل مِن كلّ الدكاكين، وهذا يعني عدم منجّزيّة العلم الإجمالي في هكذا حالة .
وهذا يعني أنّ هذه الرواية أيضاً، تؤيّد قاعدةَ البراءة .
* * * * *
وخلاصةُ البحث الروائي هو : ثبوت قاعدة البراءة الشرعية في الشبهات الحكمية والموضوعية والوجوبية والتحريمية، وفي القيود الزائدة المشكوكة، ولك أن تعيد النظر في الروايات السابقة ( رُفِعَ عن أمتي ما لا يعلمون )[4] ( أيُّ رَجُلٍ رَكِبَ أمْراً بجهالةٍ فلا شَيءَ عليه)[5](ما حَجَبَ اللهُ عِلْمَهُ عن العِباد، فهو موضوعٌ عنهم )[6] ( إنّ الله احتجَّ على الناس بما آتاهم وعَرَّفَهُم)[7] وكلّها واضحةٌ فيما نقول .
* * * * *
لا يزال الكلامُ في الإستدلال على البراءةِ الشرعيّة، وقد انتهى الكلامُ في الإستدلال على البراءة الشرعية من خلال القرآن الكريم ومن خلال الروايات الشريفة، والآن يقعُ الكلامُ في :

الدليل على البراءة الشرعية من خلال استصحاب عدم التكليف

سبق وذكرنا ـ عند الكلام عن البراءة العقلية ـ كلامَ بعضِ العلماء من قبيل المحقّق الحلّي حيث قال : ( وأما الإستصحاب : فأقسامه ثلاثة : استصحاب حال العقل وهو التمسك بالبراءة الأصلية كما تقول : ليس الوتر واجباً لأن الأصل براءة العهدة، ومنه أن يختلف الفقهاء في الحكم بالأقل أو الأكثر فتقتصر على الأقل، كما يقول بعض الأصحاب في عين الدابة نصف قيمتها، ويقول الآخر ربع قيمتها، فيقول المستدل ثبت الربع إجماعاً، فينتفي الزايد نظراً إلى البراءة الأصلية) (إنتهى)[8] . والظاهر أنه يقصد أننا نستصحب براءةَ الذمّة، وأنّ العقل يحكم بأصالة براءة الذمّة .
أقول : لا شكّ في صحّة هذا الكلام، ولكن لا يصحّ أن نقول بأنّ الأصل هو عدم وجوب جلسة الإستراحة والقنوت والسورة مثلاً ... وبين الأصلين فرقٌ، فالأوّل يعني البراءة العقلية، والثاني يعني استصحاب العدم الأزلي، واستصحابُ العدم الأزلي لا يجري لأنّ الموضوعات الكليّة كلّها أخَذَتْ أحكامَها المناسبةَ في عهد رسول الله (ص)، فلم يَبْقَ موضوعٌ كُلّيٌّ إلاّ وقد أخَذَ حُكْماً، فلا يمكن شرعاً أن تقول الأصلُ عدمُ وجوب هذا الفعل أو عدمُ حرمة ذاك الفعل .. وذلك لأنك إن أردت أن تَنفي وجوبَه مثلاً فللخصمِ أن يقول لك الأصلُ عدمُ استحبابه أيضاً وعدمُ حرمته وعدم إباحته وعدم كراهته !! فتتعارض الإستصحابات وتتساقط .
كما ليس لك أن تقول أصالةُ العدم الأزلي تقتضي عدمَ أصل الجعل أي الأصلُ عدمُ تشريع هذه الأحكام المشكوكة العناوين ـ مع غضّ النظر عن الوجوب أو غير الوجوب ـ وذلك أيضاً لِعِلْمِنا بتمامية الرسالة الإسلامية، قال الله تعالى﴿ اليومَ اَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ ..﴾[9]، وللهِ في كلّ واقعة حُكْمٌ حتى الأرش في الخدش .. كما في الروايات .
ولذلك كان المعروفُ جداً عند العلماء عدمَ صحّةِ جريان استصحاب العدم الأزلي في الأحكام الكليّة، ولعلّه مجمَعٌ عليه .
نعم، يجري الإستصحاب في عدم تماميّة مقدّمات الحكم الإلزامي، بأنْ نقولَ مثلاً : الاصلُ عدمُ تحقّق البلوغ، والأصلُ عدم تحقّق الزوال، والأصلُ عدم تحقّق الإستطاعة إلى الحجّ .. وهكذا .. وبكلمةٍ : لك أنْ تقولَ : الأصلُ عدمُ تحقّقِ فعليّة التكليف .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo