< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/03/14

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الدليل على البراءة الشرعية من خلال استصحاب عدم التكليف

لا يزال الكلامُ في الإستدلال على البراءةِ الشرعيّة، وقد انتهى الكلامُ في الإستدلال على البراءة الشرعية من خلال القرآن الكريم ومن خلال الروايات الشريفة، والآن يقعُ الكلامُ في : الدليل على البراءة الشرعية من خلال استصحاب عدم التكليف

سبق وذكرنا ـ عند الكلام عن البراءة العقلية ـ كلامَ بعضِ العلماء من قبيل المحقّق الحلّي حيث قال : (وأما الإستصحاب : فأقسامه ثلاثة : استصحاب حال العقل وهو التمسك بالبراءة الأصلية كما تقول : ليس الوتر واجباً لأن الأصل براءة العهدة، ومنه أن يختلف الفقهاء في الحكم بالأقل أو الأكثر فتقتصر على الأقل، كما يقول بعض الأصحاب في عين الدابة نصف قيمتها، ويقول الآخر ربع قيمتها، فيقول المستدل ثبت الربع إجماعاً، فينتفي الزايد نظراً إلى البراءة الأصلية) (إنتهى)[1] . والظاهر أنه يقصد أننا نستصحب براءةَ الذمّة، وأنّ العقل يحكم بأصالة براءة الذمّة .
أقول : لا شكّ في صحّة هذا الكلام، ولكن لا يصحّ أن نقول بأنّ الأصل هو عدم وجوب جلسة الإستراحة والقنوت والسورة مثلاً ... وبين الأصلين فرقٌ، فالأوّل يعني البراءة العقلية، والثاني يعني استصحاب العدم الأزلي، واستصحابُ العدم الأزلي لا يجري لأنّ الموضوعات الكليّة كلّها أخَذَتْ أحكامَها المناسبةَ في عهد رسول الله (ص)، فلم يَبْقَ موضوعٌ كُلّيٌّ إلاّ وقد أخَذَ حُكْماً، فلا يمكن شرعاً أن تقول الأصلُ عدمُ وجوب هذا الفعل أو عدمُ حرمة ذاك الفعل .. وذلك لأنك إن أردت أن تَنفي وجوبَه مثلاً فللخصمِ أن يقول لك الأصلُ عدمُ استحبابه أيضاً وعدمُ حرمته وعدم إباحته وعدم كراهته !! فتتعارض الإستصحابات وتتساقط .
كما ليس لك أن تقول أصالةُ العدم الأزلي تقتضي عدمَ أصل الجعل أي الأصلُ عدمُ تشريع هذه الأحكام المشكوكة العناوين ـ مع غضّ النظر عن الوجوب أو غير الوجوب ـ وذلك أيضاً لِعِلْمِنا بتمامية الرسالة الإسلامية، قال الله تعالى ( اليومَ اَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ ..)، وللهِ في كلّ واقعة حُكْمٌ حتى الأرش في الخدش .. كما في الروايات .
ولذلك كان المعروفُ جداً عند العلماء عدمَ صحّةِ جريان استصحاب العدم الأزلي في الأحكام الكليّة، ولعلّه مجمَعٌ عليه .
نعم، يجري الإستصحاب في عدم تماميّة مقدّمات الحكم الإلزامي، بأنْ نقولَ مثلاً : الاصلُ عدمُ تحقّق البلوغ، والأصلُ عدم تحقّق الزوال، والأصلُ عدم تحقّق الإستطاعة إلى الحجّ .. وهكذا .. وبكلمةٍ : لك أنْ تقولَ : الأصلُ عدمُ تحقّقِ فعليّة التكليف .
* * * * *
الإعتراضات على البراءة الشرعية

يُعترَضُ على أدلّة البراءة الشرعية بإعتراضين أساسيين :
أحدهما : هي معارَضةٌ بأدلّة وجوب الإحتياط،
والثاني : هي مخالِفةٌ لحكم العقل بلزوم الإحتياط في موارد العلم الإجمالي .
أمّا الإعتراض الأوّل : فقد يُقال بوجود أدلّة تدلّ على وجوب الإحتياط في موارد الجهل بالحكم الشرعي سواء في الشبهات الحكمية أو في الشبهات الموضوعيّة، بل حتى رغم البحث في المجامع الروائية وعدم وجود أدلّة إلزامية على المسألة يجب عليك الإحتياط بمجرّد احتمال الإلزام شرعاً .
نعم هناك موردان واضحان وهما :
ـ الجاهل القاصر، فهو بريءُ الذمّة قطعاً، ذلك لأنه غيرُ قابل لتوجيه الإحتياط له، لأنه غير ملتفت أصلاً لاحتمال وجود إلزام في المسألة .
ـ الجاهل قبل الفحص في الأدلّة الشرعية، فهو غيرُ بريء الذمّة قطعاً، خاصةً مع علمه الإجمالي بوجود بعض التكاليف الإلزامية ضمن محتملاته . هكذا إنسان لو قلنا هو أيضاً بريءُ الذمّة لتَرَك الناسُ تعلّمَ الشريعةِ الإسلامية ولتَرَكُوا الفحصَ في الأدلّة الشرعيّة، ولاَجْرَوا في كلّ المحتملاتِ قاعدةَ البراءة، وبعد سنين تُنسَى كلّ الشريعة الإلهية بين الناس، وهذا واضح القبح والفساد، ولهذا السبب وغيرِه أوجَبَ جميعُ العلماء قاطبةً الإحتياطَ في هكذا حالة .

الأدلّةُ النقليّة على وجوب الإحتياط
وَرَدَ طائفتان في الروايات قد تفيد وجوب الإحتياط وهما :
1 روايات التثليث : وهي أربع روايات تقريباً، ومُفادُها ـ كما في مقبولة عمر بن حنظلة ـ ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعةٌ في دَين أو ميراث فتحاكما .. إلى أن قال (عليه السلام) : ( يُنظَرُ إلى ما كان مِن روايتهما عنّا في ذلك الذي حَكَما به المجمعِ عليه عند أصحابك فيُؤخَذُ به مِن حُكْمِنا، ويُترَكُ الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمعَ عليه لا ريبَ فيه، وإنما الاُمورُ ثلاثةٌ : أمْرٌ بيِّنٌ رُشْدُهُ فيُتَّبَعُ، وأمْرٌ بيِّنٌ غَيُّهُ فيُجتنَبُ، وأمْرٌ مشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (حلالٌ بيِّنٌ، وحرامٌ بيِّنٌ، وشبُهاتٌ بين ذلك، فمَن ترَكَ الشبهاتِ نجا من المحرمات، ومَن أخَذَ بالشبهات ارتكب المحرمات وهَلَكَ مِن حيثُ لا يَعلم .. )[2] وهي مقبولة السند .
والجوابُ عليها هو أنه بعد ثبوت قاعدة البراءة الشرعية من القرآن والسنّة بوضوح، لا يقال بأنّ هذا الأمْرَ مُشْكِلٌ أو أنه شُبْهَة، بل الترخيصُ أمْرٌ بيّنٌ لنا رُشْدُه عقلاً ونقلاً، وعليه لن نَهْلَكَ إن شاء الله تعالى .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo