< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/04/08

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : دوران الأمر بين المحذورَين

( دوران الأمر بين المحذورَين )

لا شكّ أنك تعلم أنّ العلم الإجمالي بوجوب فعل أو بحرمته هو ـ عَمَلِيّاً ـ غير منجّز، وذلك لعدم إمكان الإحتياط عقلاً، هذا أوّلاً .
ثانياً : كما أنه لا شكّ عندنا أنّ البراءتين العقليّة والشرعيّة تجريان في كلّ طرف، وذلك للجهل بوجوب الفعلِ أو بحرمته، فالمقتضي لجريان كلتا البراءتين موجود، لكنْ لو جرت البراءةُ فيهما لوقعنا في المخالفة، وذلك لِعِلْمِنا بوجوب الأمر أو بحرمته، فتتساقطان لهذا السبب .
مثالُ ذلك : لو شككنا في وجوب قراءة السورة بعد الفاتحة في ضيق الوقت أو في حرمتها، فهل تقرؤها أم تتركُ قراءتَها ؟
كنّا نقول في السابق بعدم وجود المقتضي لجريان البراءة في موارد العلم الإجمالي المنجّز، وذلك وفاقاً للمحقّقين النائيني والعراقي والسيد الشهيد الصدر، وذلك لأنّا كنّا ننظر إلى كلّ طرف بما هو طرف للعلم الإجمالي المنجّز، فكنّا نقول بالنسبة إلى البراءة العقلية بعدم حكم العقل في موارد العلم الإجمالي بالبراءة من الأصل، وبالنسبة إلى البراءة الشرعيّة كنّا نقول بالإنصراف عن أصل جريانها في موارد العلم الإجمالي، وأنّ الباري تعالى إنما يقول بالبراءة للتسهيل على الناس، ولا يتصوّرُ التسهيل في دوران الحكم بين المحذورين، فهناك إذن قصور ذاتي في جريان البراءتين في هكذا حالة ... والخلاصةُ : إنّ تنجيز العلم الإجمالي المذكور يمنع من جريان البراءتين العقليّة والشرعيّة، فيحكم العقل ح بالتخيير مع عدم ترجيح أحد الطرفين على الآخر، وبتقديم مراعات جانب الحرمة مع ترجيح جانب دفْع المفسدةِ واعتباره اَولَى مِن جلْبِ المصلحة، فيُلزِمُ العقلُ ح بتركِ قراءة السورة، بل لك أن تُجريَ البراءةَ الشرعيّة أيضاً في كلا الإلزامَين المحتمَلَين والحكم بالبراءة منهما معاً، وبالتالي الحكم بالتخيير الشرعي الظاهري بينهما . نعم، إذا خرجت بعضُ أطراف العلم الإجمالي من الإبتلاء ـ كما في حالة سوق المسلمين ـ فلا شكّ في جريان الاُصول المؤمّنة في الأطراف الواقعة تحت الإبتلاء .
ولكننا رأينا بعد ذلك أنّ كلّ طرف من الأطراف ـ ومع غضّ النظر عن العلم الإجمالي ـ بما أنه مجهول الحكم، فح يجب أن يجري حديث الرفع في كلّ احتمال من المحذورين، بل ليس هناك قصور ذاتي البتّةَ في جريان كلتا البراءتين العقلية والشرعية في كلّ طرف، وح نقول لا بأس بالقول بجريانهما في كلّ طرف، أي أنّ المقتضي لجريانهما موجود، وذلك للجهل بالوجوب وللجهل بالحرمة، وهذا هو المقتضي للجريان، نعم بسبب مخالفة جريان هتين البراءتين للعلم الإجمالي فإنهما يتساقطان، أي أنه بسبب علمنا بكذب أحد الترخيصين واقعاً فإنّ البراءتين تتساقطان قطعاً، حتى ولو علمنا بعدم منجّزيّة هذا العلم الإجمالي . والنتيجة هي أنهما إثباتاً ـ أي عمَليّاً ـ كأنهما لا يجريان من الأصل . ويقول السيد الخوئي بجريان البراءة الشرعيّة في كلا المحذورَين .
ولو أجرينا البراءةَ عن الوجوب تعييناً دون الحرمة أو عن الحرمة تعييناً دون الوجوب، لكان إجراؤنا لهذه البراءة بلا وجه عقلي ولا شرعي أيضاً، أمّا بالنسبة إلى البراءة العقليّة فواضح أنّ العقل لا يجري البراءة في أحدهما المعيّن دون الآخر، وأمّا بالنسبة إلى البراءة الشرعيّة فلعدم وضوح الإطلاق في أدلّة البراءة الشرعيّة لمثل هكذا حالة، ولذلك ينصرف ذهنُ المتشرّعة إلى حالة الشبهات البدويّة الغير مقترنة بالعلم الإجمالي، خاصةً العلم الإجمالي المردّد بين المحذورين .
والخلاصة هي أنّ البراءة الشرعيّة ترفع التنجيزَ عن كلٍّ مِنَ الإلزامين المتضادّين، ولا ترفع الفعليّةَ ـ كما قلنا مراراً ـ والنتيجة هي إمّا التخيير مع التساوي من جميع الجهات، وإمّا ترجيح أحد الطرفين، إمّا لقوّة الإحتمال ـ أي مع الظنّ بأحدهما المعيّن ـ أو لأهميّة المحتمل ـ الذي هو مراعاة جانب الحرمة ـ فيحكم العقلُ بالترجيح، وذلك لأنه في هكذا حالةٍ القدرُ المتيقّنُ هو اتّباع جانب ذي المزيّة، أو قلْ : مع عدم إمكان الموافقة القطعيّة يحكم العقلُ بالتنزّل إلى أقرب مستوى من الموافقة القطعيّة، وهي الموافقة الظنيّة، ومراعاة الأخطر ملاكاً، وهذا من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير ـ كما لو تردّدنا بين وجوب تقليد خصوص الأعلم شرعاً أو التخيير شرعاً بينه وبين العالم المفضول ولم يوجد إطلاق لنتمسّك به لإثبات كفاية تقليد أيّ مجتهد، كما لو ثبت كلا الإحتمالَين بالإجماع المركّب أو بادّعاء السيرة من بعض العلماء على تقليد خصوص الأعلم وادّعائها من البعض الآخر على تقليد مطلق المجتهد ـ، ولا دليل ـ في هكذا حالة ـ على جواز التخيير بينهما . وقلنا (من قبيل) لأنّ التردّد بين وجوب تقليد خصوص الأعلم وتقليد مطلق المجتهد ليس من باب دوران الحكم بين المحذورين، وإنما هو دوران الحكم بين الواجبَين .
وهكذا الأمر فيما لو كان أحد الطرفين أهمّ من حيث المحتمل ولكن الطرف الآخر أقوى احتمالاً فإنّ علينا أن نقدّم الأهمّ بعد الكسر والإنكسار، وإن لم نعرف الأهمّ فنحن بالخيار عقلاً .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo