< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/04/19

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : دوران الأمر بين المتباينَين

( دوران الأمر بين المتباينَين ) أو ( أصالة الإحتياط )

في هذا البحثِ عِدّةُ مسائل نذكرها بالترتيب :
المسألة الاُولى : لا شكّ أنه على مسلك حقّ الطاعة ـ أي على مسلك تنجيز مطلق الإحتمال ـ يكون العلم الإجمالي منجّزاً لكلّ طرف، لأنّ نفس احتمال مصادفة الواقع يقتضي لزوم الإحتياط، ولذلك كان الذي يرتكبُ أحدَ الأطرافِ يستحقُّ العقابَ ـ وهذا بالنظرة البدْويّة الإجماليّة ـ .
المسألة الثانية : وأمّا على مسلك قبح العقاب بلا بيان وجريان البراءة في موارد الإحتمال :
ـ فهل تقول بأنّ المنجَّز في العلم الإجمالي هو الواقع الذي نجهله ولا نعرفه، لأنه هو السبب في تنجّز جميع أطراف العلم الإجمالي، وهذا هو المنقول عن المحقّق الخراساني في دورته الاُولى ـ التي كتبها المحقّق الشيخ الكاظمي ـ . وبتعبير آخر : أنا أعلم بأنّ بين هذه الآنية إناء متنجّساً، فالبيان تامّ، وليس ناقصاً، والفرقُ بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي هو أنه في العلم الإجمالي لا أعرف خصوص الإناء المتنجّس، وفي العلم التفصيلي أعرفه بعينه، لكنْ هذا المقدار من الفرق لا يمنعنا من القول بأننا نعلم قطعاً بنجاسة أحدهما، وأنّ البيان تامّ، أو قُلْ العلم تامّ وإن كان خصوص المعلوم مردّداً، هذا الجهلُ بخصوص المتنجّس لا يؤثّر على علمنا بوجود نجس واقعي بين الآنية . ولذلك ترى العقلَ يَحكُمُ بوجوب الإجتنابِ عن جميع الأطراف إحتياطاً، تجنّباً عن الوقوع في مخالفة الواقع، وهذا يعني أنّ مخالفة بعض أطراف العلم الإجمالي توجب استحقاق العقاب أيضاً، لأنه تجرّؤٌ وإقدام على احتمال المعصية، وهو قبيح ومنكَر عقلاً، وبالتالي يكون اقتضاء العلم الإجمالي للزوم الموافقة القطعيّة بنحو العِليّة التامّة، وذلك لأنّ الواقع المجهول علّةٌ تامّة لوجوب اجتناب كلّ الأطراف . المهم هو أننا هل يجب أن ننظر إلى كلّ طرف بما هو طرف للعلم الإجمالي، وليس بحدّ ذاته ومع غضّ النظر إلى اقترانه بالعلم الإجمالي ؟
ـ أم تقول : أنا أعلم بنجاسة (أحدهما) فقط ـ ونعني بقولنا (أحدهما) هو أحدهما الخارجي لا الذهني ـ هذا الجامع هو المقدار المبيّن فقط، وبالتالي يكون العلم الإجمالي مقتضياً للتنجيز بقدر الجامع فقط، وبما أنّي لا أعلم بنجاسة هذا الطرف بالذات ولا بذاك، إذن فَعَلَيّ أن اُجريَ الاُصولَ المؤمّنة العقليّة والشرعيّة في كلّ طرف مع غضّ النظر عن اقترانه بالعلم الإجمالي، ثم لأجل عِلْمِنا بكذب النتيجة ـ وهي تحليل كلا الطرفين ـ تتساقط الاُصول المؤمّنة، وذلك لعدم الترجيح بلا مرجّح، فنبقى بغير أصل مؤمّن، وهذا ما نسب إلى المحقّق النائيني، فنرجع إلى حكم العقل بقبح الإقدام على المعصية المحتملة، فالعقلُ يرى أنّ ارتكاب الطرف المحتمل الحرمة في الشبهات المحصورة هو منكر، ويستحق الإنسان عليه العقاب .
الصحيح هو الإحتمال الأوّل، وذلك لسببين :
الأوّل : إنّ علينا أن ننظر إلى كلّ طرف مع الأخذ بعين الإعتبار كلّ متعلّقاته، كتعلّقه بالعلم الإجمالي، ثم نعطي الحكمَ على الطرف .
فإذا علمتَ هذا فاعلم أنّ ما ندّعيه من كون متعلّق العلم هو الواقع هو أمر بديهي، وكذا الكثير من مسائل العلم الإجمالي هي بديهيّة، فمثلاً لو سألنا المتشرّعة العوام ـ على فرض فهْمِ لغتنا الاُصوليّة ـ هل يشربون أحدَ إناءين إذا كانوا يعلمون بنجاسة أحدهما ؟ فسيجيبون بالنفي، فنعود ونسألهم : لماذا لا تشربون أحدَ الإناءين ؟ فسيجيبون : لأنّ بين الآنية إناءً نجساً . ولو فهّمناهم بعدئذ على البراءة والطهارة والحليّة الشرعيّة، ثم سألناهم مرّةً ثالثة : لو طهّرنا أحدَ الآنية وبقيت بقيّةُ الآنية، هل تشربون من بقيّة الآنية مع احتمال بقاء النجاسة في أحدها ؟ لأجابوا أيضاً بالنفي، ولو سألناهم عن سبب ذلك لأجابوا بأنّ هذه الاُصول ناظرة إلى الشبهات البدويّة، لا إلى الشبهات المقترنة بالعلم الإجمالي، أي لأننا نعلم بأنّ أحد هذه الآنية بما فيها الإناء الذي طهّرناه هو نجس حتماً، فالإناء الذي طهّرناه لا يرفع عِلْمَنا بنجاسة أحد (كلّ الآنية) بما فيها الذي طهّرناه ... ما اُريد أن أقوله هو أنّ هذه الاُمور، بل الأعمّ الأغلب من مباحث العلم الإجمالي هي اُمور بديهيّة جداً، لا تحتاج إلى بحث أو تحقيق ..
المهم هو أنه يترتّب على قولنا بتعلّق العلم بالواقعِ عدمُ صحّة جريان الاُصول المؤمّنة في أيّ طرف من الأطراف بذريعة غضّ النظر عن اقترانه بالعلم الإجمالي، وإنما يجب أن ننظر إلى أطراف العلم الإجمالي بما أنها مقترنة بالعلم الإجمالي . وح يكون مجرّدُ احتمالِ إصابة الواقع مقتضياً للزوم الموافقة القطعيّة وموجباً لاستحقاق العقاب عقلاً، وهذا أمْرٌ يدركه كلّ عاقل .
والثاني : إنّ قولهم بأنّ المعلوم هو (أحدهما الخارجي) لا معنى له إلاّ الواقعَ الخارجي المجهول، ولا يمكن غير هذا، إذ لا يمكن أن يكون هو (أحدهما الذهني) لأنّ المنجّز هو النجس الخارجي وليس النجس الذهني، كما لا يمكن أن يكون (أحدهما) هو (الفرد المردّد) لأنه لا وجود له أصلاً، لا في الذهن ولا في الخارج . مثلاً : إذا سمعنا صوتَ إنسان في المسجد، وعرفتَ مِن صوته أنه إمّا زيد وإمّا عمرو، فأنت تعلم بوجود (أحدهما الخارجي)، (أحدُهما الخارجي) هذا لا ينبغي أن تطلق عليه إسمَ (الجامع)، لأنّ مفهوم (الجامع) هو مفهوم كلّي ذهني محض، لا يوجد إلاّ في الذهن فقط، ولا يمكن أن يوجد في الخارج، حتى وإن سمّيتَه (كلّي طبيعي) . وأنت إذا علمت بوجوب إمّا صلاة الظهر يوم الجمعة وإمّا صلاة الجمعة، وبإكرام إمّا زيد وإمّا عمرو فأنت تعلم بـ (وجوب إحدى الصلاتين واقعاً ) وبإكرام أحد الشخصين الخارجيين إمّا زيد وإمّا عمرو، ولذلك يحكم العقل بالإتيان بكلتا الصلاتين، لا بإحدى الصلاتين، وبإكرام كلا الرجلين، ولا يكتفى بإكرام أحدهما .. وليس ذلك إلاّ لأنّ متعلّقَ هذا الوجوب هو العنوان الذهني الناظر إلى المعَنْوَن الخارجي، وليس جامعاً كلّياً ذهنيّاً، لأنّ الجامع الكلّي الذهني لا مصداق له في الخارج، حتى ولو سمّيته (كلّي طبيعي) .وأمّا قولهم بأنّ "الكلي الطبيعي موجود في الخارج بعين وجود أفراده" فهذا لا نوافق عليه، بمعنى أننا لا نوافق على تسميته بالكُلّي، لأنّ كلّ ما يسمّى بالكلّي هو ذهنيّ محض ولا مصداق له في الخارج، وإنما الذي يوجد في الخارج هو الطبيعة ـ كالإنسانية ـ ويجب أن يسمّى بالطبيعة، فإنها هي الموجودة في الخارج، ولا يصحّ أن تقول "الكلّيّ الطبيعي للإنسان موجود في الخارج بوجود أفراده"، فإنّ الكلّي الطبيعي هو إمّا جنس ـ كالحيوان ـ وإمّا نوع ـ كالإنسان ـ وكلاهما مفاهيم ذهنيّة كليّة لا مصداق لها في الخارج .
وأغلب الظنّ أنّ مَن قال بأنّ العلم الإجمالي متعلّق بالفرد المردّد ومن قال بأنه متعلّق بالجامع أي (أحدهما) ومن قال بأنه متعلّق بالواقع نظرهم واحد وهو إلى الواقع .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo