< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/04/20

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : هل يقتضي العلمُ الإجمالي لزومَ الموافقة القطعيّة أم لا ؟
المسألة الثالثة : بناءً على ما وصلنا إليه من نتيجة في النقطة الثانية ـ وهي أنّ العلم الإجمالي متعلّق بالواقع وليس بالجامع ـ يتحتّم علينا القولُ بأنّ العلم الإجمالي منجّزٌ بمقدار وجوب الموافقة القطعيّة ـ وليس فقط بمقدار الجامع المعلوم ـ أي أنّ العلم الإجمالي يقتضي لزوم الموافقة القطعيّة ـ وليس فقط حرمة المخالفة القطعيّة ـ وذلك بسبب علمنا بوجود فرد نجس واقعي بين الأطراف، ولذلك لا تجوز المخالفة الإحتماليّة عقلاً، وإلى هذا ذهب أيضاً المحقّقان العراقي والإصفهاني ونسب إلى المشهور، وذهب إليه المحقّق النائيني أيضاً، لكن في تقرير الشيخ الكاظمي[1]، وكذلك هي النتيجة على مسلك حقّ الطاعة أيضاً .
أعود واُكرّر : كلامُنا في اقتضاء نفس العلم الإجمالي للزوم الإحتياط عقلاً، أي في اقتضاء العلم الإجمالي للزوم الموافقة القطعيّة، أي قبل أن نصل إلى مرحلة جريان الاُصول المؤمّنة وتعارضها وتساقطها .
وعن المحقّق النائيني ـ كما في تقرير السيد الخوئي[2] ـ أنّ العلم الإجمالي لا يقتضي بنفسه لزومَ الموافقة القطعيّة، فلو تعلّق العلم الإجمالي بين وجوب إحدى صلاتَين إمّا الجمعة وإمّا الظهر يوم الجمعة فعند المحقّق النائينيلا تجب الموافقة القطعيّة، لأنّ المعلوم هو فقط (الجامع)، فيكفي الإتيان بإحدى الصلاتين!!
نعم، هو يوجب الإحتياطَ أخيراً، أي في مرحلة ثانية، وذلك مِن بابٍ أنّ البراءتين العقليّة والشرعيّة في أحد الطرفين معارَضتان بالبراءتين العقليّة والشرعيّة في الطرف الآخر، بسبب عِلْمِنا بحرمة المخالفة القطعيّة، فتتساقط كلتا البراءتين، لعدم إمكان الترجيح بلا مرجّح، وح تبقى الأطراف بلا اُصول مؤمّنة، فيجب ح الإحتياطُ من هذا الباب، ولولا هذا التعارض والتساقط لما وجب الإحتياط . ولهذا تراه يُكْثِرُ مِن قولِه ـ في حالات الإضطرار إلى بعض الأطراف أو خروج بعض الأطراف من محلّ الإبتلاء ـ بأنه تجري في بقيّة الأطراف الاُصولُ المؤمّنة من دون معارِض . وكلامُنا معه إنما هو في المرحلة الاُولى ـ وهو في اقتضاء نفس العلم الإجمالي للزوم الموافقة القطعيّة ـ قبل أن نصل إلى مرحلة التعارض والتساقط، ولذلك قلنا بأنّ البراءتين العقليّة والشرعيّة لا تجريان مِنَ الأصل ـ أي في المرحلة الاُولى ـ في موارد العِلم الإجمالي .
ويرد عليه بأنّ المكلّف يعلم أنّ إحدى الصلاتين واجبةٌ عليه واقعاً، فكيف يُكتفَى ـ عقلاً أو شرعاً ـ بإحدى الصلاتين، حتى ولو احتملنا أن لا تكون هي الواجبة شرعاً ؟!
وأين هذا مِن قول المولى لعبده "اَكرِمْ أحدَ هذين الشخصين" ؟ ففي قولنا الثاني يُكتفَى بإكرام أحدهما، لأنه لم يتنجّز أكثرُ مِن وجوب إكرام أحدهما فقط، أمّا في المثال الأوّل فلا يُكتفَى بإحدى الصلاتين عقلاً ولا شرعاً، بعد تنجيز الصلاة الواقعيّة المعيّنة عليه، وذلك لِعِلْمِنا بوجوب أحديهما المعيّنة عند الله تعالى، ولذلك تجب الموافقة القطعيّة ـ عقلاً وشرعاً ـ بالإتيان بكلتا الصلاتين، ليعلم بالإتيان بالفرد الواقعي، أو قُل (الإشتغالُ اليقيني يستدعي عقلاً الفراغَ اليقيني) . والردُّ عليه أكثرَ من هذا مَضْيَعَةٌ للوقت لكون الأمرِ أكثرَ مِن بديهي .
وما كنت أظنّ أنّ السيد الشهيد أيضاً، يرى أنه على مبنى تعلّق العلم الإجمالي بالواقع ـ فضلاً عن تعلّقه بالجامع ـ يجب القول بعدم لزوم الموافقة القطعيّة . لا، بل والأفظع من هذا أنه قال بعد ذلك : ( والإنصاف : أنّ هذا من فضائح القول بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) بحرفيّتها، إذ كيف يقبل الوجدان أن يقال بجواز المخالفة الإحتماليّة لحكمٍ عُلِمَ إجمالاً مِن قِبَلِ المولى تعالى من دون جعلِ براءةٍ شرعيّة في المقام، وأنّه ليس له حقّ الطاعة أزيد من الموافقة الإحتماليّة لذلك ؟!)(إنتهى)[3] . فأنا ممّن يقول بقاعدة قبح العقاب ولا أرى ما ألزمنا به السيد الشهيد !! ولم يلتفت السيد الشهيد إلى الفرق السالف الذكر بين ما لو عَلِمْنا بوجوب إحدى الصلاتين إمّا الظهر وإمّا الجمعة وبين ما لو وجب إكرام أحد شخصين ـ على نحو التخيير ـ إمّا زيد وإمّا عَمْرو !! فإنّ في مثال التردّد في الصلاة الواجبة بين الظهر والجمعة يرى العقلُ لزومَ الإمتثال القطعي للحكم المعلوم .
وبكلمة واحدة : إنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تشمل موارد العلم الإجمالي أصلاً، ذلك لأنّ موارد العلم الإجمالي خارجةٌ تخصّصاً من قاعدة قبح العقاب، لأنه يوجد في العلم الإجمالي بيان . وبتعبير أوضح : البيانُ في العلم الإجمالي تامّ وهو من وجهٍ علمٌ تفصيلي، وهو أنّنا نعلم بأنّ نجاسة الدم قد وقعت في أحد هذين الإناءين ـ لا في ذَينك الإناءين ـ وهي نجاسة دم أوقعها الشخصُ الفلاني ... يعرفه الله وملائكته ونحن لا نعرفه، هذا المقدار من عدم المعرفة لا يُدخِلُ ما نحن فيه في قاعدة قبح العقاب بلا بيان أصلاً، وإنما يوجد بيان ووضوح .
وهنا يأتي السؤالُ التالي : لو فرضنا أنّ أنساناً خالف وظيفتَه ولم يُصَلّ كلتا الصلاتين، وإنما اكتفى بصلاة واحدة فقط، فهل يستحقّ العقاب عقلاً أم لا ؟
الجواب : على فرض أنه صادف أنه أتَى بالصلاة الواجبة واقعاً فهو قد أتى بما عليه واقعاً، ولكنه مع ذلك يستحقّ الملامة على هذا التجرّؤ، لا بل قد يستحقّ العقابَ عقلاً أيضاً، بدليل أنّه خالف حقّ المولى عليه من لزوم تعظيمة وعدم التجرّؤ عليه بعمل فيه احتمال المعصية المقرون بالعلم الإجمالي .. وأمّا إن لم يأتِ بالصلاة الواجبة واقعاً صدفةً، فإنه يستحقّ العقاب قطعاً على المخالفة، بعدما أوجب عليه العقلُ الإحتياطَ .

المسألة الرابعة : هل يمكن الترخيصُ في تمام الأطراف عقلاً أم لا ؟
لا شكّ أنه يمكن ثبوتاً ـ أي عقلاً ـ الترخيصُ الشرعي في تمام الأطراف، فلو فرضنا أننا نعلم بنجاسة إناء من بين إناءين أو مئة إناء أو ألف إناء لأمكن للباري تعالى أن يرخّصنا بارتكاب كلّ الأطراف، تقديماً لمصلحة التسهيل على مصلحة أدراك الواقع . وعلى هذا لا يلزم من كلامنا اجتماع حكمين واقعيين فعليّين متضادّين، وذلك لأننا ندّعي أنّ الترخيص حكم ظاهري، لا حكماً واقعيّاً كي يلزم من ذلك التضادّ .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo