< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/05/04

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تنبيهات العلم الإجمالي
إنتهى الكلام حول التنبيهات الثلاثة للعلم الإجمالي ووصلنا إلى الصورة الثالثة من التنبيه الثاني الذي هو في : اختصاص الأصل المؤمّنِ ببعض الأطراف
قال السيد الشهيد في هذا التنبيه ما يلي : إنّه رتّب على القول بكون العلم الإجماليّ علَّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة ـ كما قال به المحقّق العراقي ـ أو كون تأثيره في ذلك بمجرد الإقتضاء ـ كما اخترناه ـ أنّه على الأوّل لا يجري الأصل في بعض أطراف العلم الإجماليّ وإنْ لم يكن معارض، وعلى الثاني يجري الأصل عند عدم المعارض، والمحقّق النائيني ذَكَرَ على ما في تقرير بحثه[1] أنّ هذه الثمرة مجرّد ثمرة فرضيّة، ولا تتّفق بحسب الخارج، ونحن عقدنا هذا التنبيه هنا لنذكر أوّلاً ما هو التحقيق في مسألة جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض في الصور المختلفة التي يتصوّر فيها ذلك، ونتعرّض بعد ذلك لكلام المحقّق النائينيّ رحمه الله ومناقشته، فنقول :
إنّ اختصاص الأصل ببعض أطراف العلم الإجماليّ يكون في ثلاث صور :
الصورة الثالثة : وجود المؤمّن الطولي في بعض الأطراف
قال السيد الشهيد : ( لو عَلِمْنا إمّا بوجوب شرب الإناء الأوّل وإمّا بحرمة شرب الإناء الثاني، وكانت حالتهما السابقة عدم الوجوب وعدم الحرمة، فهنا إذا أجرينا كلا الإستصحابين فسوف يتكاذبان فإذن هما متعارضان فيتساقطان، فتجري أصالةُ الحِلّ في الإناء الثاني بلا معارض، وذلك لعدم جريانها في الإناء الأوّل) .
ثم قال[2] بأنه قال بعضُهم إنّه في كلّ طرف يوجد أصلُ البراءة، فيحصل التساقط بينهما أيضاً، بعد تساقط الإستصحابين .
وأجابهم بأنّ البراءة لا تجري في أطراف العلم الإجمالي من الأصل، قبل الوصول إلى مرحلة التساقط .
أقول : لا شكّ في صحّة قوله بأنّ البراءة لا تجري في أطراف العلم الإجمالي من الأصل، أمّا كيف مع ذلك يصحّحُ جريانَ الإستصحابين ثم تساقطهما ؟!!
والصحيح هو أنه لا شكّ في عدم صحّة ما ذهب إليه السيد الشهيد من حيث جواز شرب الإناء الثاني، بل الصحيح هو عدم جريان الإستصحابين من الأصل، لاقترانهما بالعلم الإجمالي، فلا نصل إلى مرحلة التساقط . وأمّا قاعدة الحِلّ فموردها الشبهات البدويّة ونحوها كسوق المسلمين، لا هذه الحالة المقترنة بالعلم الإجمالي إمّا بوجوب شرب الإناء الأوّل وإمّا بحرمة شرب الإناء الثاني . فمثلاً لو كان الإناء الأوّل غير واجب الشرب، والإناء الثاني غير حرام الشرب، ثم طرأ شيء عليهما بحيث شككنا في تغيّر حالتهما إلى العكس، فجاءنا بيّنة عادلة خبراء وقالا لنا : إمّا هذا الإناء الأوّل واجب الشرب وإمّا الإناء الثاني حرام الشرب، وسافرا، فهل أحدٌ من المتشرّعة المؤمنين يشرب الثاني بذريعة أنّ كلا الإستصحابَين يتساقطان فنرجع إلى أصالة الحِلّ في الإناء الثاني ؟!!
إذن حتى في هذه الصورة الثالثة النتيجة واحدة سواءً على القولين : العليّة والإقتضاء، فلم أرَ ثمرةً بين القولين .
هذا، ثم يقول السيد الشهيد ما يلي : (الجهة الثالثة : في تحقيق الحال في فرض عدم تسانخ الأصلين، لنرى أنّه هل يتساقط الأصل الطوليّ مع العرْضيين، كما ذهب إليه السيّد الأستاذ أو لا ؟ والصحيح هو التساقط[3] حيث إنّه بعد فرض عدم الترخيص في المخالفة القطعية يقع التكاذب بين الأصل الطولي في هذا الطرف، والأصل العرْضي في الطرف الآخر، فلا محالة يتعارضان ويتساقطان، إذ ليس في المقام ما يسقط ذلك الأصل العرضي عن صلاحية المعارضة لهذا الأصل الطولي أيضاً، عدا وجوه كلُّها مخدوشة، وقد عرض سيّدنا الشهيد خمسة وجوه ثم خدش فيها، وعلّقنا عليها .
ثم قال السيد الشهيد بعد عَرْضِ تمامِ الوجوه الخمسة وردّها، قال : (وقد تحصل من جميع ما ذكرناه أنّ الأخذ بالأصل الطولي بعد رفع اليد عن الأصلين العرضيين إذا لم يكونا متسانخين، ممّا لا أساس له لبطلان جميع الوجوه في المقام) .
أقول : كان يمكن اختصارُ المطلب كلّه بأن يقال بأنّ الأصل الطولي غيرُ ناظر لهكذا حالات مقترنة بالعلم الإجمالي ـ سواءً كان أصالة الحلّ أو الطهارة ـ، بل إنّ جريانه مستبعَدٌ جداً عند العرف، فلا يجري أصلاً .
مثال ذلك أن يُعلم اِجمالاً بنجاسة اِناءٍ مردَّدٍ بين إناءين، الأوّلُ مجرى لأصالة الطهارة فقط، والثاني مجرى لاستصحاب الطهارة وأصالتها معاً، فقد يقال في مثل ذلك : اِنّ أصالة الطهارة في الطرف الأول تعارض استصحاب الطهارة في الطرف الثاني، ولا تَدخل أصالةُ الطهارة للطرف الثاني في هذا التعارض لأنها متأخرة رتبةً عن الإستصحاب، فكيف تقع طرفاً للمعارضة ؟ وبكلمة أخرى : اِنّ الأصل الطولي ـ الذي هو أصالة الطهارة في الطرف الثاني ـ لا يجري اِلاّ بعد سقوط الأصلين العرْضيين، فيجري بلا مزاحم .
والصحيح هو عدم جريان الأصل الطولي (أي أصالة الطهارة في الطرف الثاني) عرفاً، لما يراه جميع العقلاء من وجود علم إجمالي بالنجاسة بين الإناء الأوّل والإناء الثاني ممّا يقف مانعاً أمامنا مِن فهْمِ جريان الأصل الطولي المؤمّن في الطرف الثاني . وبتعبير آخر : لا يمكن لمتشرّع متديّن واحد في العالَم أن يشرب الإناء الثاني .
* * * * *
التنبيه الثالث من تنبيهات العلم الإجمالي : الشبهة غير المحصورة
والمثال البارز للشبهة الغير محصورة هو سوق المسلمين .
وهنا يبرز السؤال التالي : ما هو الوجه والسبب في إعطاء الشارع المقدّس إذْناً في الأكل والشرب من سوق المسلمين رغم عِلْمِنا بوجود بعض الناس لا يزكّون الأنعامَ، وقد يكون في السوق بعضُ الجبن مثلاً ـ كما في بعض الروايات ـ قد تنجّست بإنفحة الميتة ؟! فهنا كلمات :
الاُولى : يجب أن يكون سوق المسلمين كبيراً إلى حدّ يَضْعُفُ فيه احتمالُ إصابة النجس الواقعي .
الثانية : من المعلوم أنه لا يمكن أن يرخّصنا المولى تعالى بما هو قبيح بنظر العقلاء، فإذا كانت بعض الموارد ليس الترخيص فيها قبيحاً ـ كما هو الحال في سوق المسلمين ـ فلا بأس بالترخيص الشرعي في كلّ الأطراف بالتوضيح الآتي .
الثالثة : لا شكّ في أنه ليس السببُ في إعطاء هذا الإذن هو عدم القدرة على المخالفة القطعيّة، وذلك لأننا نقول بتنجيز العلم الإجمالي بنجاسة أحد إناءين إذا أخذوا أحدهما إلى مكانٍ لا نذهب إليه عادةً ـ كالصين مثلاً ـ وذلك لبقاء العلم الإجمالي منجّزاً عقلاً في هكذا حالة . وكما لو اضطُررنا إلى شرب أحد الإناءين لكون دوائنا مثلاً فيه، فهنا أيضاً لا يجوز أن نشرب الإناء الثاني عقلاً .
الرابعة : إذَنْ يبقى عندنا أن يكون السبب في عدم تنجيز العلم الإجمالي في مورد سوق المسلمين هو ضعفُ احتمال إصابة ما نأكله من السوق لخصوص النجس الواقعي أو التسهيل على المسلمين أو كلا السببين معاً . تلاحظ كلا هذين السببين في الروايتين التاليتين :
1 أمّا احتمال ضعف احتمال إصابة ما نشتريه للنجس الواقعي فقد ورد فيما رواه أحمد بن محمد بن خالد البرقي عن أبيه عن محمد بن سنان عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام)عن الجُبن ؟ وقلت له : أخبَرَني مَن رأى أنه يُجعل فيه المَيتةُ فقال : ( أمِنْ أجْلِ مكانٍ واحدٍ يُجعل فيه المَيتةُ حُرِّمَ في جميع الأرضين ؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكلْ، وإن لم تعلم فاشترِ وبِعْ وكُلْ، واللهِ إني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجُبن، واللهِ ما أظن كلهم يُسَمُّون،هذه البربر وهذه السودان )[4] ضعيفة السند بأبي الجارود، على أنّ قول الإمام (عليه السلام) ( واللهِ ما أظن كلهم يُسَمُّون، هذه البربر وهذه السودان ) هو تكبيرٌ للإشكال، وهو أنّ احتمال كون بعض اللحوم ميتةً هو احتمال كبير لا إحتمالاً ضعيفاً، وذلك لكثرة البربر والسودان الجديدي العهد بالإسلام .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo