< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/05/22

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : أركان منجّزيّة العِلم الإجمالي

تكملة الكلام في البحث الثاني : أركان منجّزيّة العِلم الإجمالي
بعدما عرفتَ العلمَ الإجمالي بكثير من تفاصيله وَجَبَ أن نركّز الآن على أركانه، لنعرف متى يكون هذا العلمُ منجِّزاً، ومتى لا يكون منجّزاً، ولا شكّ أنك تعلم أنه يجب أن يتواجد في العلم الإجمالي عدّةُ شروط وأركان ليكون منجّزاً، وهذه هي الأركان المطلوبة ليكون منجّزاً، وهي ثلاثة :
الركن الأوّل : وجود علم بتكليف بين أكثر من طرف، كأنْ يَعْلَمَ الشخصُ بنجاسة أحد الإناءين، إذ لولا هذا العلمُ لكانت الشبهةُ بدويّةً، ولجَرَتْ في الإناءِ الاُصولُ المؤمّنة، كالطهارة والحِليّة .
ويكفي خبرُ الثقةِ إذا قلنا بحجيّته في الموضوعات ـ كما هو الحقّ ـ في حصول العِلْم الإجمالي وفي انحلاله، وهذا معنى حجيّته، فحينما نقول : خبرُ الثقة حجّةٌ في الموضوعات ـ كالبيّنة ـ فهذا معناه أننا إذا أخبرَنا ثقةٌ بنجاسة أحد هذين الإناءين، فإنك ترى كلّ المقتنعين بحجيّة قول الثقة يقولون بلزوم الإجتناب عن كلا الإناءين، ذلك لأنّ معنى حجيّته في الموضوعات هو أنه يُثْبِتُ الموضوعَ شرعاً، وبالتالي يجب الإجتنابُ عن كلا الإناءين تحاشياً عن المتنجّس الواقعي الذي ثَبَتَ شرعاً وتعبّداً .
وكذلك إذا جاءنا ثقةٌ آخر وقال لنا بأنّ النجاسة التي أخبركم بها فلانٌ الثقةُ قد وقعت في هذا الإناء الفلاني، فإنّ معنى حجيّة قول الثقة الثاني هو أن نأخذ بقول هذا الثقة الثاني أيضاً ـ كما أخذنا بقول الثقة الأوّل ـ فينحلّ العلمُ الإجمالي تعبّداً .
إذن لسنا بحاجةٍ ـ لإثبات حصول العلم الإجمالي أو لإثبات انحلاله ـ إلى القول بمسلك الطريقيّة([1]) .
بل ينوب الإستصحابُ أيضاً منابَ العِلْمِ، كأنْ كانَت إحدى الآنية الغير معيّنه متنجّسةً سابقاً، لكننا ظننّا أنهم طهّروا كلا الإناءين أو أحدهما على الأقلّ، فإنك يجب عليك أن تستصحبَ النجاسةَ، فتتركهما عقلاً، وذلك لعدم حجيّة الظنّ، فيجب أن تستصحب النجاسة فيهما أو في أحدهما الغير معيّن .
الركن الثاني: عدمُ سراية العلم الإجمالي إلى بعض أطرافه، إذ لو صار الفرد الواقعي معلوماً في ضمن فرد معين لصار عِلْماً تفصيلياً ـ لا إجمالياً ـ ولما كان منجّزاً اِلاّ بالنسبة إلى ذلك الفرد بالخصوص، وسريان العلم إلى الفرد يسمى بانحلال العلم الإجمالي إنحلالاً حقيقياً . وأمّا إذا سَرَى العِلمُ الإجماليّ إلى بعض الأطراف بالعلم التعبّدي ـ كخبر الثقة ـ فالإنحلالُ تعبّديّ، وذلك كما لو أخبرنا ثقةٌ بنجاسة أحد الإناءين، ثم أخبرنا ثقةٌ آخر بكون النجس هو الإناء الفلاني، فهنا يحصل انحلال تعبّدي .
وكذلك يختلُّ هذا الركنُ الثاني ويحصل انحلال فيما لو أخبرنا الثقة أوّلاً بنجاسة أحد إناءين، ثم أخبرنا ثقة آخر بنجاسة هذا الإناء الفلاني، فمع احتمال التطابق بين النجاستين يحصل انحلالٌ قهري، فتجري الاُصول المؤمّنة في الطرف الآخر المشكوك النجاسة، لأنه يصير بمثابة الشكّ البدويّ .
وقد عرفت في الحاشية السابقة صحّة مسلك الطريقية، ولك أن تراجع بعض البحوث السابقة في ذلك [2].
الركن الثالث : اَن يكون جريانُ الاُصول الترخيصيّة مستهجَناً عرفاً، فلو لم يكن مستهجَناً ـ كما في جريان الاُصول الترخيصيّة في كلّ محلّ محلّ من سوق المسلمين ـ لمَا كان العِلْمُ الإجماليّ منجّزاً، ولجرت الاُصولُ الترخيصيّةُ في كلّ الأطراف .
* * * * *
نرجع إلى بحثنا السابق وهو تنبيهات العلم الإجمالي، وقد ذكرنا التنبيهات التسعة سابقاً ووصلنا إلى التنبيه العاشر فنقول :
التنبيه العاشر : العلم الإجمالي بالتدريجيّات [3]
إذا ضاعت على المرأةِ أيامُ عادتها، وكانت تريد أن تدخل إلى المسجد لبعض أسباب ـ كأنْ كانت مثلاً خادمةَ المسجدِ وأرادت أن تنظّفه ـ وهي تعلمُ بأنها تكون حائضاً في بعض أيام الشهر، فمتى تدخل إلى المسجد ؟ وهي تعلم بأنها إمّا الآن حائض وإمّا غداً وإمّا بعده وهكذا إلى آخر الشهر، فماذا تفعل ؟
الجواب : لا شكّ في حرمة دخولها المسجدَ في كلّ أيام الشهر، وذلك لعِلْمِها بحرمة الدخول في بعض أيام الشهر، وهذا التنجيز للعلم الإجمالي ثابتٌ وقطعيٌّ عند كلّ العقلاء، ممّا يمنع من إجراء الاُصولِ الترخيصيّة ولو في بعض الشهر، ذلك لأنّ آيات وروايات الترخيص وردت للناس، فما يفهمه العرف هو الحجّة، وما لا يفهمه منها لا يكون حجّة .
حتى لو أردنا أن ننظر إلى مرحلة الملاك فإننا نقول بأننا إذا أجرينا الاُصولَ الترخيصيّةَ في بعض الشهر فقط، لكان هذا ترجيحاً بغير مرجّح، ولكان هذا الترخيص قبيحاً، وذلك لاحتمال أن تكون حائضاً، فكيف تدخل إلى بيت الله وكيف تمسّ كتاب الله ؟!
على كلّ حال فقد ذهب إلى منجّزيّة العلم الإجمالي وحرمةِ دخولها المساجدَ مطلقاً المحقّقُ النائيني والسيد الخوئي والسيد الشهيد الصدر رحمهم الله .
ورغم بداهة هذا الكلام قال صاحب الكفاية بأنّ الركن الأوّل مختلّ [4]، فيجوز أن تدخل إلى المسجد كلّ أيام الشهر !! ذلك لأنّ المرأة في بداية الشهر لا عِلْمَ اِجمالي لها بالتكليف الفعلي، لأنها إمّا حائض فعلاً فالتكليف فعلي، واِمّا ستكون حائضاً في منتصف الشهر مثلاً فلا تكليف فعلاً، فلا عِلْمَ بالتكليف فعلاً على كل تقدير، وبذلك يختل الركنُ الأول، فيجوز لها الرجوع إلى الأصل في كلّ الشهر .
والجواب هو أنه لا دَخْلَ لفعليّة الحكم فيما نحن فيه، والعبرةُ الآن بعِلْمِها بأنها إمّا الآن هي حائض وإمّا بعد يوم أو يومين إلى آخر الشهر ... هذا العلمُ يكفي في تنجيز العلم الإجمالي عقلاً .
ولك أن تقول : إنّ الناس ينظرون إلى أيام الشهر بنظرة دهريّة، وإنّ النساء سيقولون لهذه المرأة المحتارة بأنك تعلمين بأنك إمّا الآن حائض أو سوف تحيضين بعد يوم أو يومين أو أكثر إلى آخر الشهر، هذا العِلْمُ الإجمالي ينجّز عليكِ التكليفَ عقلاً، فيحرم عليك دخولُ المسجد ومسُّ كتاب الله الكريم .


[1] لا بأس بالتذكير ببعض أدلّتنا على صحّة مسلك الطريقيّة :
إننا نعتقد أنّ الشارع المقدّس قد أقام مؤدّى خبر الثقة مقامَ الواقع، كما ونزّل احتمالَ الإصابة فيه منزلةَ العلم الوجداني، ولذلك نقول بصحّة مسلك الطريقيّة، وهذه بعضُ الأدلّة على ذلك :
لاحِظْ مثلاً آيةَ النبأ وغيرَها ترى أنّ الشارع المقدّس يعتبر الأماراتِ بمنزلة الواقع، ويعتبرُ العِلمَ بها بمثابة العلم بالواقع، كما أوضحنا ذلك سابقاً من خلال أدلّة كثيرة كقوله تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) فهي تعتبر خبر العادل بيّناً أو قُلْ بَياناً وعِلْماً، لأنه لا يحتاج إلى تبيّن وتأكّد، بخلاف خبر الفاسق، ومن خلال صحيحة أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن (الهادي) (عليه السلام) قال : سألته وقلت من أعامل ؟ وعمّن آخذ ؟ وقول من أقبل ؟ فقال له : ( العَمْرِيّ ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعَنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطِعْ، فإنّه الثّقة المأمون )، وأخبرني أبو علي أنّه سأل أبا محمّد (عليه السلام) عن مثل ذلك فقال له : ( العَمْري وابنُه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنهما الثّقتان المأمونان )، ومن خلال مصحّحة إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمد بن عثمان العَمْري أن يوْصِلَ لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علَيّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عج) : ( .. وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، وأما محمد بن عثمان العَمْري رَضِيَ اللهُ عنه وعن أبيه مِن قَبْلُ فإنه ثقتي وكتابُه كتابي ) وغيرها من أدلّة .
[2] راجع هذا الكتاب ص63.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo