< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/06/27

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : لزوم الفحـص قبل إجراء الاُصول العمليّة

الأمر الثالث : لزوم الفحـص في الأمارات قبل إجراء الاُصول العمليّة
والكلام هنا يقع في نقطتين :
الاُولى في الفحص في الشبهات الحكميّة
والثانية في الفحص في الشبهات الموضوعيّة

النقطة الاُولى : لا شكّ عند المسلمين، بل عند العقلاء أجمعين، في لزوم الفحص في الأدلّة الشرعيّة المحرِزة قبل الإقدام على إجراء الاُصول العمليّة ـ كالبراءة العقليّة والشرعيّة ـ وقبل الإفتاء على أساس الاُصول العمليّة، وذلك لِعِلْمِنا القطعي بوجود أحكام شرعيّة إلزاميّة، ولعلمنا بأنّ الشارع المقدّس لم يذكر كلّ المقيّدات في رواية واحدة، وإنما كان يذكرها منفصلةً في بعض الحالات، لمصالح متعدّدة، ولذلك ترى فقهاءنا قد عرفوا هذا الأمر قديماً واعتادوا عليه فهم يفحصون في الروايات قبل الإفتاء، ثم إننا نعلم عقلاً بوجوب أن نطيع اللهَ في أحكامه الواقعيّة الإلزاميّة، بحسب الأصل، فيجب أن نستعلم عنها أوّلاً ونحاول التعرّف عليها، ولذلك لا يقبل واحدٌ من المتشرّعة إغماضَ العين عن كتاب وسائل الشيعة مثلاً والتهرّبَ من التعرّف على أحكام الله، ثم إجراء البراءة في التكاليف المحتملة الإلزام !! وإنما يوجب العقلُ الإحتياطَ قبل الفحص، أو قُلْ لا يجوّزُ العقلُ إجراءَ البراءةِ عن وجوب الإحتياط . هذا على صعيد حكم العقل والعقلاء والمتشرّعة . وإنما قلنا (على صعيد العقل والعقلاء) لأنّ الأمر في القوانين الوضعيّة أيضاً كذلك تماماً، فإذا نشرت الحكومةُ القوانينَ في الجريدة الرسميّة فقد صارت سارية المفعول ويحاسب على أساسها المواطنون حتى ولو ادّعوا أنهم لا يعرفونها، فللقاضي أن يحتجّ عليهم بأنّهم كان يمكن لهم مراجعة القوانين أو أهل الإختصاص في ذلك .
وأيضاً على صعيد الآيات الكريمة الأمْرُ كذلك، فإنك تفهم من قوله تعالى﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً[1] أنه إذا بَعَث اللهُ تعالى رسولاً فله أنْ يُعَذّب على المخالفة، ولذلك يجب أن نبحث حتى نعرف هل أنّ الله تعالى بعث في هذا الأمر الفلاني رسولاً وبياناً أم لا . ومثلُها تماماً قولُه تعالى﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون[2] وقوله عَزّ مِن قائل﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[3]، وقال اللهُ تعالى ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)﴾[4]حيث ورد عدّة روايات تقول نحن أهل الذكر، فتجب عليكم مسألتنا[5]... فهذه الآيات المباركة تأمرنا بالتفقّه في دين الله بأن نسأل أئمّتنا (عليهم السلام)الذين هم اليوم عبارة عن أقوالهم المباركة، وأيضاً لك الإستدلال بقوله سبحانه ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ، فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) ﴾[6] وذلك ببيان أنّ وجود كتب روائيّة وفقهيّة في متناول الناس لَهِيَ حجّةٌ بالغة على الناس، لا تجوّز لهم إجراءَ الاُصولِ المؤمّنة قبل الفحص التامّ . إذن علينا أن لا نُبقي أنفسَنا في جهالة وأن لا نُغْمِضَ أعينَنا عن الدين ونجري البراءة .
وكذلك الأمرُ في الروايات، كحديث الرفع، فهو إنما يُفيدنا رفْعَ التنجيزِ إن لم نكن نعلمُ بالتكليف الإلزامي، ولا بوجود أمارة معتبرة، ولكنْ إنْ أمكننا الفحصُ واحتملنا معرفةَ الأحكام الشرعية، ولو من خلال الأمارات المعتبرة، فحديثُ الرفع لا يفيدنا جواز إجراء البراءة في هكذا حالة، أي حتى مع احتمال وجود أمارات معتبرة تعرّفنا على أحكام الله جلّ وعلا . وأيضاً روايات وجوب التعلّم[7] من قبيل (طلب العلم فريضة على كلّ مسلم) و (تفقّهوا في الدين)[8] فهي تفيدنا وجوبَ التعلّم والتعرّف على أحكام دين الله، وعدمَ جواز تجهيل النفس وإغماضِ العَين عن الروايات وإجراء البراءة .
ولوضوح هذا الأمرِ جداً تَنصرِفُ أذهان المتشرّعة في قضيّة جريان الاُصول المؤمّنة إلى ما بعد الفحص التامّ في الأدلّة، وهذا أمر مفروغ منه ولا شكّ فيه ولا خلاف .
إذن يبقى أنّ الاُصول المؤمّنة إنما تجري بعد الفحص لا قبله .
أمّا مقدار الفحص فلعلّ المشهور هو لزوم الفحص بمقدار حصول اليأس , وهو حصول الإطمئنان بعدم وجود أمارة أو قرينة أو قيد لما نحن بصدده، فبعدئذ لنا أن نجري البراءة، بهذا يحكم العقل، بل إنّ الناس يفهمون ـ بإرتكازهم ـ من أدلّة الاُصول العمليّة عدمَ جواز وعدم صحّة جريانها إلاّ بعد الفحص التامّ عن تمام الروايات، وبعد النظر فيها سنداً ودلالةً، وإلاّ لوقعنا في محذور مخالفة الكثير من أحكام الإسلام .

النقطة الثانية : لا شكّ ولا خلاف في عدم وجوب الفحص في بعض الشبهات الموضوعيّة، كما في موارد الشكّ في طروء النجاسة، وهذا أمْرٌ وَرَدَ في الشرع .
ولكن الكلام في بعض الشبهات الموضوعيّة كما فيما لو شكّ الشخصُ في حصول استطاعته على الحجّ، وكما في شكّ الشخصِ في حصول نصاب الزكاة عنده، وكما في لزوم الفحص عن الأعلم بين المجتهدين .. وهكذا، فهل يجب فيها الفحص عقلاً أوّلاً، وشرعاً ثانياً أو لا ؟
الجواب : لا شكّ أنّ العقلاء يشكّكون كثيراً في جريان أصالة البراءة في هكذا موارد، لا بل لا يبعد أنهم يرون لزوم التحقّق من حصول الإستطاعة ونصاب الزكاة وأنهم يعتبرون أنّ إغماض العين عن التحقيق هو نوع تقصير مع الله وتهرّب من التكليف الإلهي، لا بل إنّ الإرتكاز العقلائي الفطري يقتضي لزومَ الفحص في الشبهات الموضوعيّة للوصول إلى الحقيقة، ولذلك إن عَرِفَ بك العقلاءُ أنك لا تفحص مقدارَ مالك فإنهم سيستهجنون منك قطعاً، بل قد يعتبرونك فاسقاً ومتهرّباً من تنفيذ أحكام الله سبحانه وتعالى، وأقل ما سيقولونه لك : كيف يمكن إذَنْ أن تعرف نفسَك أنك مستطيع إنْ لم تفحص وتدقّق في حساباتك ؟! هذا كلّه على مستوى البراءة العقليّة .
وأمّا على مستوى البراءة الشرعيّة فهل الجواب هو نفس الجواب على البراءة العقليّة وأنه يجب الفحصُ أم لا ؟ أي هل تجري قاعدة البراءة الشرعيّة هنا أم لا ؟
قد تستدلّ بقول الله تعالى﴿ لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ ما آتاها[9] [10] على عدم وجوب التحقيق، وعلى جواز إغماض العَين عن مقدار المال .
فأقول : لكنّ اللهَ تعالى قد آتاك المال وأقدرك على معرفة مقداره، وهذا يكفي عرفاً في صِدْقِ الإيتاء، لكنْ أنت أغمضْتَ عينيك وأردتَ أن تتهرّب من الحجّ أو مِن دفْعِ الزكاة، فيجب أن تكون مكلّفاً . أو قُل : هذا أشبه شيء بإعطائك كتاباً لتدرس فيه، ولكن أنت لم تمدّ يدَك لتأخذه . بل إنّ اهتمام الشارع المقدّس في بعض الأحكام الشرعيّة أمارةٌ على وجوب التحقيق في مقدار المال، فمثلاً : كم ورد في الشرع اهتمام الشرع بالحجّ كثيراً جداً، وأنّ من استطاع على أن يحجّ ولم يحجّ فليمت إن شاء نصرانيّاً أو يهوديّاً أو مجوسيّاً، وأنه كافر وو .. وكم ورد من روايات أنّ الله تعالى حسب عدد الفقراء في كلّ زمان ومكان فجعل لهم من مال الأغنياء ما يكفيهم .. كلّ هذا الإهتمام يَخلُقُ عند الفقيه الظنَّ القويّ في لزوم الفحص عن احتمال حصول الإستطاعة وحصول النصاب .
ونتيجةُ كلامِنا هذا هو أنّ على المكلّف أن يفحص بالمقدار العقلائي المتعارف، فيسأل مثلاً من مجتهدَين اثنَين عن الأعلم بين المجتهدين، ومع التعارض يزيد قليلاً حتى يطمئنّ بالمقدار المتعارف أيضاً، ولا يوقع نفسَه في الحرج، ويفحص في ماله بالمقدار المتعارف، وهكذا .


[9] قال الله تعالى ( لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ، وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ، لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا، سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً .(7)) سورة الطلاق

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo