< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/07/19

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تتمّة الكلام في الأدلّة على الإستصحاب وهل هو أصل أم أمارة
5 ـ وروى في الفقيه قال : رُوِيَ عن إسحاق بن عمار (كان فطحيّاً إلاّ أنه ثقة وأصله معتمد) أنه قال قال لي أبو الحسن الأول (عليه السلام) : ( إذا شككت فابْنِ على اليقين )، قال قلتُ : هذا أصْلٌ ؟ قال : ( نعم )[1] . وقد تقول بأنّ سند الصدوق إلى إسحق بن عمّار صحيح، فإذن يجب أن يكون سند هذه الرواية موثّقاً . أقول : هذا صحيح فيما لو قال الشيخ الصدوق : روى إسحق بن عمّار كيت وكيت، لكنه لم ينسب الرواية إلى إسحق، وإنما قال روي عنه أنه روى عن الإمام الرواية الفلانية، فمن الراوي يا ترى ؟ لا ندري، إذن الرواية مرسلة ولا اعتبار لها .
أمّا دلالة الرواية فقد يحتمل إرادة قاعدة اليقين، وقد يحتمل إرادة لزوم تحصيل اليقين بالفراغ ـ كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري ـ وقد يحتمل إرادةُ قاعدة الإستصحاب، وبما أنّ المنصرَف إليه هو قاعدة الإستصحاب بوضوح، ولا قرينة تشير إلى إرادة قاعدة اليقين أو إلى إرادة لزوم تحصيل اليقين بالفراغ، فنبقى على ما هو مرتكز في أذهان المتشرّعة، وإلى هذا ذهب السيد الخوئي والسيد الشهيد الصدر.
وبتعبيرٍ آخر : لو كان المقصود قاعدة اليقين لقال الإمام ( إذا شككتَ في صحّة يقينك السابق فابْنِ على صحّته )، وأمّا قولُه (إذا شككتَ فابْنِ على اليقين ) فمعناه أنّ يقينك السابق لم يتزلزل عندك ـ بخلاف تزلزل اليقين في قاعدة اليقين ـ فابْنِ عليه .
ولو كان يريد إفادةَ قاعدةِ ( لزوم تحصيل اليقين بالفراغ ) لقال ( يجبُ عليك تحصيلُ العلم بفراغ ذمّتك من العمل )، وأمّا قولُه ( إذا شككت فابْنِ على اليقين ) فإنه يعني أنّه يوجد عنده يقين، بخلاف قاعدة لزوم تحصيل اليقين حيث لا يوجد عنده يقين، وإنما يوجد عنده شكّ بفراغ الذمّة .
فيبقى ما هو منصرَفٌ إليه في عرف المتشرّعة، وهي إرادة إفادة قاعدة الإستصحاب .

هل الإستصحاب أصلٌ أم أمارة ؟
لا بدّ أوّلاً أن نَذْكُرَ الفرقَ بين الأصل والأمارة فنقول :
لم ترد هتان الكلمتان في الشرع بالمعنى المصطلح عليه عند علمائنا في علم الاُصول، وإنما علماؤنا اصطلحوا في هتين الكلمتين على المعنى التالي :
قالوا بأنّ الأمارة ـ كخبر الثقة وسوق المسلمين واليد والصحّة في عمل النفس وعمل الغير ـ هي ما شرّعها الله تعالى لكاشفيّتها عادةً أو غالباً عن الواقع ولإصابتها للواقع غالباً، وذلك بخلاف الأصل ـ كأصالة عدم التذكية ـ فإنه لا كاشفيّة فيه عن الواقع، لا عادةً ولا غالباً، بمعنى أنها لا تحكي عن الواقع ولا تدّعيه، وأيضاً نحن لا نعلم إذا كان مؤدّى الأصل يصيب الواقعَ غالباً أو لا، إن هو إلاّ تيسير على الناس ـ كما في البراءة والحِلّ والطهارة ـ أو احتياط على التكاليف الواقعيّة الإلزاميّة، لا غير .
وقالوا ـ بناءً على الكلام السابق ـ بأنّ لوازمَ الأمارة حجّة، ولوازمَ الأصل غير حجّة، وذلك لأنّ المولى تعالى حينما قال لنا بأنّ خبر الثقة حجّة فهذا يعني أنّ خبره بما يتضمّن من مداليل مطابقيّة وإلتزاميّة حجّة، وذلك لأنّ الكاشفيّة في خبر الثقة بنفس القوّة في مدلوله المطابقي وفي مدلوله الإلتزامي . فإذا قالت لك البيّنةُ : قطَعوا زيداً نصفين، فالمدلول الإلتزامي لهذه الجملة هو أنه قد قُتِلَ قطعاً، فإذا كان خبر الثقة حجّة، فهذا يعني أننا يجب أن نبني على أنه قطع نصفين وأنه قد مات أيضاً . وأمّا في قاعدة الطهارة مثلاً فالمنظور إليه هو خصوص البناء على طهارة الشيء المشكوك الطهارة، وليس إلى لوازمه، فمثلاً : إذا رأينا سفرةً في بلاد الكفر، متروكةً في البريّة، فيها اللحمُ، وكان في تلك البلاد القليلُ من المسلمين، فإنّ لك أن تبني على طهارة اللحم، لأصالة الطهارة وقاعدتها، وذلك لاحتمال تذكيتها من قبل المسلمين الموجودين هناك، فلم يثبت أنّ هذا اللحم ميتة، والميتة هي موضوع النجاسة، وليس غير المذكّى، فحينما نشكّ في كون هذا اللحم ميتة فنحن بالتالي نشكّ في كونه نجساً .
ولكن ـ رغم أنك يجب أن تبني على الطهارة ـ ليس لك أن تبني على تذكية ذلك اللحم، بإدّعاء أنّ القول بالطهارة من لوازمه وجوبُ البناء على التذكية، فتأكلَ من هذا اللحم ! فهذا غير صحيح، فإنّ التعبّد بقاعدة الطهارة ناظرٌ فقط إلى طهارة اللحم . وأمّا بالنسبة إلى لوازم الطهارة من التذكية، فلا، بمعنى أننا لا يجوز لنا أن نأكل من ذلك اللحم، لأنك يجب عليك أن تبني على أصالة عدم التذكية . فإن قلتَ : بين البناء على الطهارة والبناء على عدم التذكيةِ تناقضٌ ! قلتُ : صحيح، لكن هذا التناقض هو في مقام العمل فقط، وليس على مستوى العقل أصلاً، فلا تناقض عقلياً بين أن يتعبّدنا الله تعالى بأصالة الطهارة وأصالة عدم التذكية، لأنّ لكلّ أصل مصلحته القائمة به، ولذلك يتقبّل العقلاء هكذا أصول عمليّة قد تتناقض أحياناً في مقام العمل .
نرجع إلى الإستصحاب فنقول : لا شكّ في أنّ (1) في مورد الإستصحاب قدر من الكاشفيّةٌ، قد تكون إلى حدّ الظنّ القويّ، وقد تكون ضعيفة جداً، و(2) لا نعلم إذا كان مؤدّى الإستصحاب يصيبُ الواقعَ غالباً، كما كان الحال في خبر الثقة أو سوق المسلمين أو اليد أو الصحّة، و(3) هو لا يدّعي الحكاية عن الواقع، و(4) لم يقل لنا المولى ( الإستصحاب حجّة مطلقاً ) ـ كما وردت الروايات الدالّة على حجيّة خبر الثقة ـ، إذن بناءً على هذه المقدّمات الأربع يجب أن يكون الإستصحابُ أصلاً عملياً، لأنّ المنظور إليه هو بقاء الحالة السابقة ـ وهو ما يسمّيه السيد الشهيد بأهميّة المحتمل، فهو من هذه الناحية كالبراءة والحلّ تماماً، المنظور إليه هو المحتمل، فكما تقول : إبْنِ على البراءة وعلى الحليّة وعلى الطهارة وعلى عدم التذكية، تقول هنا أيضاً إبْنِ على بقاء الحالة السابقة، مهما كانت الحالة السابقة، وافقت الواقع أم لا، وسواء كان احتمال البقاء قوياً أم ضعيفاً، إنما شرّعه الله تعالى لأنه يناسب الفطرة العقلائيّة، وأيضاً أنت تعلم أنّه ليس فيه حكاية عن الواقع، أي هو لا يدّعي الحكايةَ عن الواقع، كما كان الحال في خبر الثقة، فهو إذن أصْلٌ قطعاً، ويجب أن يكون محرزاً لأخذ احتمال البقاء في موضوعه وشرطه، ولذلك مع عدم احتمال البقاء لا يجري الإستصحاب، ويجب أن لا تكون لوازمه حجّة قطعاً، لأنّ المولى تعالى ما قال لنا في الإستصحاب بأنه مطلقاً حجّة حتى في لوازمه التكوينية ـ كنبات اللحية في المثال المعروف ـ كما قال لنا في خبر الثقة وسوق المسلمين واليد ونحوها، إنما تعبّدنا باستصحاب الحالة السابقة فقط .
والخلاصة هي أنّ العلماء يشعرون بفطرتهم أنّ الإستصحاب ليس أمارةً لا عقلاً ولا عقلائياً ولا متشرّعياً ولا عرفاً، وإنما هو أصل عملي لا أكثر .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo