< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/08/02

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : نهاية الكلام في تعريف الأحكام الوضعيّة
تعريف الأحكام الشرعيّة الوضعيّة :
الحكم الوضعيّ هو الحكم الكلّي بالطهارة ـ مثلاً ـ على الشيء الفلاني الكلّي، والحكم الكلّي بالنجاسة على الشيء الفلاني الكلّي، وليست الأحكام الشرعية الوضعية هي كالطهارة والنجاسة والبلوغ، فالطهارة والنجاسة ليستا أحكاماً أصلاً، وإنما هي أسماء فقط، وليست أحكاماً أو قضايا . نعم، لا شكّ أنّ الله تعالى تدخّل في بعض الإصطلاحات التي هي دخيلة في الأحكام الشرعيّة، موضوعاً أو محمولاً، فاعتبَرَ مَن بَلَغَ الثلاثَ عشر سنةً أو احتلم قبل ذلك أنه (بالغ)، ووضع ألفاظ (ركوع) و (سجود) و (تشهّد) و (الصلاة) و (الغِيبة)، ووضَعَ كلمةَ (الوجوب) و (الحرمة) وو لِيُعَبّر عن الأحكام التي يريدها، وقد تكون بعض الألفاظ الشرعيّة أساسُها وضْعُ العقلاء، لكنّ المولى جلّ وعلا شذّبها، وجعل لها شروطاً، مثل ألفاظ (الطلاق) و (الخلع) و (الرجعة) و (العِدّة) و (الدخول) .. هكذا تعبيرات كثيرة لا مانع مِنْ أن يضعَها المولى جلّ وعلا أو يشذّب بعض معانيها تمهيداً لجعْلِ الأحكامِ الشرعيّة، أي ليقول مثلاً (من بلغ فقد وجبت عليه الصلاة، وحرمت عليه الغِيبة)، فاستعمل ألفاظاً شرعيّة، قد يكون أصْلُ وجودِها وضْعَ الناس، لكنّ الشارعَ المقدّس شَذّبَ معانيها قليلاً ـ كما في القنوت والركوع والسجود ـ أو كثيراً ـ كما في الصلاة والصيام والحجّ والخمس والزكاة ـ .
ما اُريد أن أقوله هو أنّ هذه الألفاظ ليست أحكاماً شرعيّة، وإنما هي موضوعات أو محمولات للأحكام الشرعية .
إذَنْ إصطلاحاتُ الوجوب والإستحباب والحرمة والكراهة والإباحة ليست أحكاماً تكليفيّة، وأمّا الأحكام التكليفية فهي ـ كالأحكام الوضعية ـ قضايا كاملة المعاني مثل : (إذا زالت الشمسُ فالصلاة واجبة) و (إذا سافر الإنسانُ فالتقصير واجب ) و (يحرم شرب الخمر) وهكذا ...
وقد يعبّر العلماء بـ الطهارة والنجاسة والملكيّة والزوجيّة عن الأحكام الوضعيّة، لكنهم يقصدون بذلك : الحكم بالطهارة على الشيء الفلاني الكلّي، والحكم بالملكيّة على العلاقة الفلانيّة الكليّة في حال حصول العقد الفلاني أو الأمر الفلاني، والحكم بالزوجيّة بين الرجل والمرأة الكليّين في حال حصول العقد الفلاني .. لكنهم تساهلاً وللسرعة في التعبير يقولون كالطهارة والنجاسة وو ..
واعلم أنّ الأحكام الوضعيّة هي أحكام شرعيّة، مجعولة بنحو الإستقلال، كالأحكام التكليفية تماماً، فكما يمكن جعْلُ المولى تعالى الصلاةَ واجبة، يمكن له أن يجعل أحكاماً شرعيّة مثل ( مَن حاز مَلَكَ) و (البيّنة حجّة) و (سوق المسلمين أمارة شرعيّة على التذكية والطهارة) .. وإنما جعَلَ اللهُ تعالى هذه الأحكامَ الوضعيّة لتنظيم حياة الإنسان، كما في جعْلِ الزوجيّةِ والملكيّة والحريّة والرقيّة . ومن البديهي بطلانُ القولِ بعدم كون الأحكام الوضعيّة شرعيّة .
ولذلك فليست الأحكام المنتزعة من المركّبات هي أحكام شرعية أصلاً، كالجزئيّة والسببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة والعِلّيّة، وذلك لأنّ الباري عزّ وجلّ يتصوّر المركّبات أوّلاً بكلّ مقدّماتها الخارجيّة والداخلية ثم يُنْشِئُ الحكْمَ بلحاظها، فأنْ يشرّع تشريعاً ثانياً كجزئيّة الركوع والسجود، وسببيّة الزوال ـ فإنه لا مصلحة للأمر بالصلاة إلاّ بدخول وقت الصلاة، ولذلك صحّ إطلاق السبب على الزوال، ولذلك سمّوها مقدّمات الوجوب ـ وسببيّة الإفطار العمدي للكفّارة، وشرطّية الطهارة والإستقبال في الصلاة ـ ولذلك سمّوها مقدّمات الواجب ـ ومانعيّة الحدث والخبث في الصلاة ورافعيّة الرقص لهيأة الصلاة، أنْ ينشئَ الجزئيّةَ والشرطية والسببية والمانعيّةَ مرّةً ثانية فهذا محض لغو، لا يصدر من ساحة الحكمة المتعالية . فحينما شرّع المولى تعالى وجوب الصلاة فهو جلّ وعلا تصوّر الصلاة بتمام مقدّمات وجوبها ومقدّمات الصلاة وأجزائها وموانعها، ثم شرّع وجوبها . وبعد هذا لا معنى لتشريع الجزئيّة مرّةً ثانية، وتشريع الشرطيّة مرّة ثانية ... لأنّ التشريع الثاني سوف يكون لغواً محضاً .
ولذلك أيضاً ليست الأحكام المنتزعة من الأحكام التكليفية هي أحكام شرعية أصلاً، فقولُ الباري تعالى ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى[1] كاشف عن جعْلِ اللهِ له حاكماً وقاضياً بين الناس، وكأنه قال ( فإنّي جعلته عليكم حاكماً )، فجعْلُ الحكومةِ للأنبياء والأوصياء أحكام وضعيّة مجعولةٌ بنحو الإستقلال، وليست منتزَعةً مِنَ الأمْرِ بالحكم (بين الناس بالحقّ) .
واعلم أنّ كلّ الأحكام الشرعيّة ـ إلهيّة كانت أو إنسانيّة ـ هي اعتبارات قانونيّة، لا وجود خارجيّ لها، فالملكيّة والزوجيّة والحريّة والرقيّة والضمان والولاية والقضاوة والطهارة والنجاسة كلّها اُمور غير موجودة في الخارج، ولكنها اعتبارات قانونيّة موجودة في الذهن فقط، ومن هذا القبيل وضع إشارات السير، فقد اعتبروا اللون الأحمر للزوم الوقوف على الإشارة، واللون الأصفر للتأهّب، والأخضر للسير، هذا المنع وهذا الجواز هي اعتبارات قانونية، جعلها العقلاء لتنظيم السير، وهي اعتبارات تأسيسيّة، أي إبتدائيّة، غير مسبوقة الوجود ولو في ارتكاز الناس، وذلك بخلاف البيع، فإنه ليس تأسيسيّاً، وإنما هو موجود في ارتكاز البشر منذ وجودهم، وإنما حقّقوه منذ أن اضطرّوا إلى البيع والشراء .

( أركان الإستصحاب )

للإستصحاب أربعة أركان : ثبوت الحالة السابقة بحجّة شرعيّة، الشكّ في البقاء، وحدة المتيقّن والمشكوك، والأثر الشرعي للإستصحاب .
1 أمّا الركن الأوّل وهو ثبوت الحالة السابقة، فدليلُه ما رأيتَ في صحيحة عبد الله بن سنان السالفة الذكر التي يقول فيها : سأل أبي أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر : إنّي اُعير الذمّيّ ثوبي، وأنا أعلم أنه يشرب الخمر، ويأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ، فأغسله قبل أن اُصلّي فيه ؟ فقال أبو عبد الله : ( صَلّ فيه، ولا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه )[2]، فإنك تلاحظ أنّ الإمام (عليه السلام) اعتبر نفس ثبوت الحالة السابقة، ولم يعتبر اليقينَ بها، ممّا يعني كفاية تحقّق موضوع الإستصحاب بأي حجّة شرعيّة ـ ولو بخبر ثقة، لقولنا بثبوت الموضوعات بخبر الثقة إلاّ ما خرج بدليل، كما في الزنا والدعاوى ـ . وبتعبير آخر : اليقين المذكور في الروايات السابقة منظور إليه كيقين طريقي آلي كاشف ع
ن إرادة ثبوت الحالة السابقة بأيّ حجّة شرعيّة، وليس لازماً أن تكون الحالة السابقة ثابتةً باليقين فقط، أي أنه ليس اليقين المذكور في الروايات المراد فيه اليقين الصفتي أصلاً .
إذن، الركن الأوّل هو في الواقع ثبوتُ الحالة السابقة بأيّ دليل شرعي، كما يقول السيد الشهيد الصدر أيضاً، وبتعبير آخر : المراد من اليقين بالحالة السابقة هي الحجّة الشرعيّة .
وحتى لو قلنا إنّ المراد من اليقين في سائر الروايات هو اليقين الصفتي، فخبر الثقة ـ كما قلنا سابقاً ـ يقوم مقام اليقين شرعاً، كما يقول المحقّق النائيني أيضاً،

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo