< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

36/12/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : بقيّة الكلام في الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة

2 واعلم أنّ الأحكام الوضعيّة هي أحكام شرعيّة ، مجعولة بنحو الإستقلال ، كالأحكام التكليفية تماماً ، فكما يمكن جعْلُ المولى تعالى الصلاةَ واجبة ، يمكن له أن يجعل أحكاماً شرعيّة مثل ( مَن حاز مَلَكَ) و (البيّنة حجّة) و (سوق المسلمين أمارة شرعيّة على التذكية والطهارة) .. وإنما جعَلَ اللهُ تعالى هذه الأحكامَ الوضعيّة لتنظيم حياة الإنسان ، كما في جعْلِ الزوجيّةِ والملكيّة والحريّة والرقيّة . ومن البديهي بطلانُ القولِ بعدم كون الأحكام الوضعيّة شرعيّة.

نعم ، ليست الأحكام المنتزعة من المركّبات هي أحكام شرعية أصلاً ، كالجزئيّة والسببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة والعِلّيّة ، وذلك لأنّ الباري عزّ وجلّ يتصوّر المركّبات أوّلاً بكلّ مقدّماتها الخارجيّة والداخلية ثم يُنْشِئُ الحكْمَ بلحاظها ، فأنْ يشرّع تشريعاً ثانياً كجزئيّة الركوع والسجود ، وسببيّة الزوال ـ فإنه لا مصلحة للأمر بالصلاة إلاّ بدخول وقت الصلاة ، ولذلك صحّ إطلاق السبب على الزوال ، ولذلك سمّوها مقدّمات الوجوب ـ وسببيّة الإفطار العمدي للكفّارة ، وشرطّية الطهارة والإستقبال في الصلاة ـ ولذلك سمّوها مقدّمات الواجب ـ ومانعيّة الحدث والخبث في الصلاة ورافعيّة الرقص لهيأة الصلاة ، أنْ ينشئَ الجزئيّةَ والشرطية والسببية والمانعيّةَ مرّةً ثانية فهذا محض لغو ، لا يصدر من ساحة الحكمة المتعالية . فحينما شرّع المولى تعالى وجوب الصلاة فهو جلّ وعلا تصوّرَ الصلاةَ بتمام مقدّمات وجوبها ومقدّمات فِعْلِها وأجزائها وموانعها ، ثم شرّع وجوبها . وبعد هذا لا معنى لتشريع الجزئيّة مرّةً ثانية ، وتشريع الشرطيّة مرّة ثانية ... لأنّ التشريع الثاني سوف يكون لغواً محضاً.

ولذلك أيضاً ليست الأحكام المنتزعة من الأحكام التكليفية هي أحكام شرعية أصلاً ، فقولُ الباري تعالى ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى [1] كاشف عن جعْلِ اللهِ له حاكماً وقاضياً بين الناس ، وكأنه قال "فإنّي جعلته عليكم حاكماً" ، فجعْلُ الحكومةِ للأنبياء والأوصياء أحكام وضعيّة مجعولةٌ بنحو الإستقلال ، وليست منتزَعةً مِنَ الأمْرِ بالحكم ( بين الناس بالحقّ ).

 

3 واعلم أنّ الخطابات الشرعية مثل ﴿ اَقِيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاةَ[2] ليست أحكاماً شرعيّة ، وإنما هي خطابات شرعيّة ، كاشفةٌ عن الأحكام الشرعيّة ، ذلك لأنّ الأحكام الشرعية في عالم الجعل هي بنحو الجمل الخبريّة ، لا بنحو الجمل الإنشائيّة ، وذلك لأننا لا نطّلع عليها ـ وهي في عالم الجعل ـ فلا معنى للخطاب فيها.

 

4 وأمّا الصحّة والبطلان فَهُما حكمان عقليّان ، لا شرعيّين ، مَثَلُهما كمَثَلِ الأحكام الفعليّة والتنجيزيّة ، فإذا زالت الشمس وكان الإنسان عاقلاً وبالغاً فقد صار وجوبُ الصلاةِ عليه فعليّاً ، وإذا عَلِمَ بالحكم الشرعي وبتحقّق شرائط وجوبه فقد صار الحكمُ عليه منجّزاً ، ولكنْ هذان الحكمان ـ أي الفعلي والتنجيزي ـ ليسا أحكاماً شرعيّة ، وإنما الحكم الشرعي هو فقط (الصلاة بالشروط الفلانية واجبة).

 

5 بعدما عرفت الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة لا بأس أن نَذْكُرَ بعض أمثلة الأحكام الوضعيّة فنقول : (الكلب والخنزير نجسان)[3] حُكْمٌ وضعيّ ، وهكذا قولُنا : (يُشترَطُ في تطهير الآنية من ولوغ الكلب تعفيرُه بالتراب) و (النوم ناقضٌ للوضوء)[4] و (كلام الآدميين عمداً في الصلاة يبطل الصلاة) و (عقد الوكالة يسبّب التوكيل) و (إتلاف مال الغيرِ سبب للضمان)[5] و (عقد الزواج يُنْتِجُ الزوجيّةَ) و (تَرْجِعُ المعتدّةُ بالعدّة الرجعيّة بمجرّد الوطء) و (يشترط في الطلاق أن تكون الزوجة المدخول بها في طهر لم يواقعها فيه) و (الأمارات الفلانيّة حجّة) ... كلّها أحكامٌ وضعيّة.

فإذا عرفتَ هذا فاعلم أننا إن شككنا في حصول سبب الحكم الشرعي الوضعي فالأصل هو عدم حصوله ، فإذا شككنا في حصول النوم أو في عقد الزواج أو في حصول الوطء أو في صدور كلام الآدميين في الصلاة عمداً فالأصل عدمه.

وكذلك الأمر إن شككنا في حصول السبب أو الشرط لترتّب الحكم التكليفي ، فالأصل عدم حصوله ، كما لو شككنا في حصول دلوك الشمس ليترتّب وجوبُ الصلاة ، فالأصلُ عدم دخول الدلوك ، وكما لو فحصنا في مالنا فشككنا بعد الفحص في حصول شرط الحجّ وهو الإستطاعة ، فالأصلُ عدم حصولها ، وكما لو حصل الشكّ في طروء الحيض فالأصلُ عدمه ...

ممّا ذكرنا تعرفُ أننا لم نستصحب نفسَ القضايا الشرعيّة ـ وضعيّة كانت أو تكليفية ـ إنما استصحبنا عدمَ الأسباب والشرائط والموانع ، في الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة . والسببُ في عدم جريان الإستصحاب في القضايا الشرعيّة ـ وضعيّةً كانت أو تكليفيّة ـ ما عرفتَه قبل قليل ـ في جريان الإستصحاب في الشبهات الحكميّة ـ من عدم جريان الإستصحاب في عالم الجعل ، لأنه بيد الله جلّ وعلا ، وليس بأيدينا ، أو قل : نحن لا نستصحب عدم السببيّة ـ في مرحلة الجعل ـ أو عدم الشرطيّة أو عدم المانعية.

وليس لنا إلاّ أن نُجري عدمَ حصول النوم وعدمَ حصول النجاسة ، أي نستصحب عدم حصول السبب ـ في الخارج ـ أو الشرط أو المانع ، لا أكثر ، وذلك لأنّ الإستصحاب هو أصل عمليّ ظاهري يتعبّدنا بالبناء على عدم حصول موضوع الحكم الوضعي أو التكليفي ، ولا يفيدنا استصحابَ الأحكام الشرعية في عالم الجعل ، لأنّ الأصل هو عدم الجعل الزائد.

 

6 واعلم أنّ كلّ الأحكام الشرعيّة ـ إلهيّة كانت أو إنسانيّة ـ هي اعتبارات قانونيّة ، لا وجود خارجيّ لها ، فالملكيّة والزوجيّة والحريّة والرقيّة والضمان والولاية والقضاوة والطهارة والنجاسة كلّها اُمور غير موجودة في الخارج ، ولكنها اعتبارات قانونيّة موجودة في علم الباري تعالى وفي الذهن البشري فقط ، ومن هذا القبيل وضع إشارات السير ، فقد اعتبر المقنّنون اللونَ الأحمر للزوم الوقوف على الإشارة ، واللون الأصفر للتأهّب ، والأخضر للسير ، هذا المنع وهذا الجواز هي اعتبارات قانونية ، جعلها العقلاء لتنظيم السير ، وهي اعتبارات تأسيسيّة ، أي إبتدائيّة ، غير مسبوقة الوجود ولو في ارتكاز الناس ، وذلك بخلاف البيع ، فإنه ليس تأسيسيّاً ، وإنما هو موجود في ارتكاز البشر منذ وجودهم ، وإنما حقّقوه منذ أن اضطرّوا إلى البيع والشراء.

 

فرعٌ في جريان الإستصحاب عند الشكّ التقديري

ومثالُه ما لو عَلم بالطهارة سابقاً ، وصلّى وهو غافل عن الشكّ وعن استعمال قاعدة استصحاب الطهارة ، لكنه لو التفت لاستصحب الطهارة بلا شكّ.

قال بعضهم[6] بأنّ الأحكام الظاهريّة إنما تجعل لكي ينجَّز بها أو يعذَّر ، وهذا الأثر لا يحصل في حال غفلة المكلّف ، بل لا يمكن حصول التنجيز والتعذير في حال الغفلة ، وذلك لأنه لا يمكن أن يقال للغافل إستصحبِ الطهارة ، وهذا وجه ثبوتي ، والوجهُ الإثباتي هو أنّ صريح الأدلّة ـ كصحيحة زرارة ـ هو أخذ الشكّ في موضوع الأدلّة الظاهريّة ، وظاهرُ أخذ شيء في موضوع الحكم هو وجوده الفعلي ، لا التقديري ، فلو قال لك المولى "أكرمِ العالِمَ" فظاهرُه إرادةُ العالِمِ الفعلي ، لا العالِم التقديري الذي تعلم أنه سيصير عالماً بعد عشرين سنة مثلاً.

أقول : أمّا ثبوتاً فصحيح أنه لا يمكن أن يقال للغافل "إستصحبِ الحالة السابقة" ، ولكن ليس المراد من الإستصحاب ذلك ، وإنما المراد منه هو البناء على الحالة السابقة لا غير ، والغافلُ لو التفت لكان اللازم عليه أن يبني على الحالة السابقة ، ولا مانع عقلائيّاً من البناء ـ بعد الإلتفات ـ على بقاء الحالة السابقة.

وأمّا إثباتاً فأوّلاً : إنّ المناط في الإستصحاب ـ بحسب فَهْمِ ارتكازيّة الإستصحاب من الروايات ـ هو مطلق الشكّ في طروء عارض غيّر الحالةَ السابقة والبناءُ على بقاء الحالة السابقة ، وثانياً : لم يؤخذ الشكّ في أركان الإستصحاب في الروايات إلاّ بمعنى مطلق الشكّ أي الجامع بين الفعلي والتقديري ـ لا خصوص الشكّ الفعلي ـ بمعنى أنه لو التفت إلى الشكّ لاستصحب أو لأجرى قاعدة الطهارة ، ويُفهم من بعض الروايات ـ كصحيحة عبد الله بن سنان ـ أنّ المناط في الإستصحاب ليس هو الشكّ الفعلي أصلاً ، ولذلك لم يُذكَرِ الشكّ في صحيحة ابن سنان ، وإنما يفهم منها أنّ المناط هو مطلق الشكّ . لا ، بل ترى الإمام يقول حتى في صحيحة زرارة أيضاً وغيرها ( وإنما تـَنقضه بـيقين آخر )[7] وذلك حينما قال (عليه السلام) ( لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيئ من ذلك أمرٌ بَيِّنٌ ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا تنقضِ اليقينَ أبداً بالشك ، وإنما تـنقضه بيقين آخر )[8] وهو يعني أنّ المهم في الإستصحاب هو أنْ لا يَنقض اليقينَ إلاّ بـيقين ، وهذا هو كل المناط في قاعدة الإستصحاب.

* * * * *

3 وأمّا الركن الثالث فهو (وجود أثر شرعي) لاستصحاب موضوع الحكم ، وإنما قلنا "لاستصحاب موضوع الحكم" لما قلنا سابقاً مِن أنّ مِنَ الخطأ إجراءَ الإستصحاب في نفسِ الحكم مع غضّ النظر عن سببه وموضوعه ، والمرادُ بـ "الأثر الشرعي" هو إثبات الحكم الشرعي الوضعي التنجيزي ـ وليس التكليفي ـ ، والمقصود بـ "الحكم الشرعي الوضعي" هو الموضوع الشرعي للحكم الشرعي ـ كطهارة الماء فإنها موضوع شرعي لجواز شرب هذا الماء ـ أو شرط متعلّق الحكم الشرعي ـ كطهارة ثوب الصلاة ـ ونحو ذلك ، فنحن حينما نُجري استصحابَ عدمِ قلّةِ مقدار الماء مثلاً ، فنحن قد أثبتنا بقاء الماء على مقدار الكريّة ، (إثباتُ بقاء الماء على الكرّيّة) ليس أثراً عقلياً أو تكوينياً كي تتعذّرَ عن هذه الواسطة بأنها واسطة خفية ـ ونحن لا نُـثْـبـِتُ الواسطةَ الخفية التكوينية أو العقلية ـ وإنما (بقاءُ الماء على مقدار الكريّة) هو موضوع شرعي[9] ، أي هو موضوع لكون الماء معتصماً ، وعصمةُ الماء موضوع شرعي لموضوع شرعي ، كطهارة الماء المتنجّس الغير متّصف بأوصاف النجاسة بمجرّد ملاقاته بالماء المعتصم ، وطهارة هذا الماء موضوع لجواز شربه ، ويترتّب عليها أيضاً طهارة الثوب ـ إن غسلناه به ـ وطهارة الثوب يحقّق شرطاً لجواز الصلاة به ، والصلاة متعلّق الحكم الشرعي ، والأثر الأخير هو صحّة الصلاة بهذا الثوب . ولذلك نقول : المهم هو أنه يجب أن يُنتهَى في الإستصحاب إلى التنجيز والتعذير ، وإلاّ لكان إجراء الإستصحاب لَغْويّاً.

وقلنا "تنجيزي" لأنّ مورد جريان الاُصول العمليّة هو دائماً الشكّ ، وأنت تعلم أنّ الإستصحاب لا يجري في الشبهات الحكميّة ، وإنما يجري في خصوص الشبهات الموضوعيّة فقط ، ففي كلّ موارد الشكّ في الشبهات الموضوعيّة يجب أن يكون مورد جريان الاُصول العمليّة هو الشكّ الفعلي المنجّز ، ولذلك الأثرُ الشرعي لجريان الإستصحاب ـ كطهارة الثوب الخارجي ـ يجب أن يكون حكماً شرعيّاً منجّزاً ، بل يجب أن يكون هذا أمراً واضحاً عند عوامّ المتشرّعة فضلاً عن علمائهم.


[6] راجع كلام المحقّق الخراساني في الكفاية، ج2، ص308، طبعة تعليقة المشكيني، وحاشية المحقّق الخراساني على فوائد الاُصول ص174 و 175، طبعة مكتبة بصيرتي، وفوائد الاُصول، للمحقّق الإصفهاني، ج4، ص317 و318، طبعة جماعة المدرّسين، وأجود التقريرات، ج2، ص350 و 351، ونهاية الدراية، ج5، ص127، طبعة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام).
[9] لكنك قد تتصوّر (كون ما في الحوض كرّاً) ليس شرعيّاً، وإنما تريده وتطلب التعرّف على مقداره بنحو العلم الوجداني الصفتي، وذلك كما لو أردت أن تضع دواءً معقّماً في الحوض فوجب أن تضعه بقياس دقيق كي لا يتضرّر الإنسانُ من استعمال الماء، فقاعدةُ الإستصحاب لا تنفع في هكذا حالة، ولا تُثبِتُ هذا الأثرَ الصفتي الوجداني، ونحن لم نذكر هذا الفرض في المتن لكونه خارجاً عن محلّ بحثنا ولبديهيّته.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo