< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

36/12/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الركن الثالث من أركان الإستصحاب

وأمّا الركن الثالث فهو (وجود أثر شرعي) لاستصحاب موضوع الحكم ، وإنما قلنا "لاستصحاب موضوع الحكم" لما قلناه سابقاً مِن أنّ مِنَ الخطأ إجراءَ الإستصحاب في نفسِ الحكم مع غضّ النظر عن سببه وموضوعه . والمرادُ بـ "الأثر الشرعي" هو إثبات الحكم الشرعي الوضعي التنجيزي ـ وليس التكليفي ـ ، والمقصود بـ "الحكم الشرعي الوضعي" هو الموضوع الشرعي للحكم الشرعي ـ كطهارة الماء فإنها موضوع شرعي لجواز شرب هذا الماء ـ أو شرط متعلّق الحكم الشرعي ـ كطهارة ثوب الصلاة ـ ونحو ذلك ، فنحن حينما نُجري استصحابَ عدمِ قلّةِ مقدار الماء عن الكريّة مثلاً ، فنحن قد أثبتنا بقاء الماء على مقدار الكريّة ، (إثباتُ بقاء الماء على الكرّيّة) ليس أثراً عقلياً أو تكوينياً كي تتعذّرَ عن هذه الواسطة بأنها واسطة خفية ـ ونحن لا نُـثْـبـِتُ الواسطةَ الخفية التكوينية أو العقلية ـ وإنما (بقاءُ الماء على مقدار الكريّة) هو موضوع شرعي[1] ، أي هو موضوع لكون الماء معتصماً ، وعصمةُ الماء موضوع شرعي لموضوع شرعي ، كطهارة الماء المتنجّس الغير متّصف بأوصاف النجاسة بمجرّد ملاقاته بالماء المعتصم ، وطهارة هذا الماء موضوع لجواز شربه ، ويترتّب عليها أيضاً طهارة الثوب ـ إن غسلناه به ـ وطهارة الثوب هو شرطٌ لجواز الصلاة به ، والصلاة متعلّق الحكم الشرعي ، والأثر الأخير هو صحّة الصلاة بهذا الثوب . ولذلك نقول : المهم هو أنه يجب أن يُنتهَى في الإستصحاب إلى التنجيز والتعذير ، وإلاّ لكان إجراء الإستصحاب لَغْويّاً.

وقلنا "تنجيزي" لأنّ مورد جريان الاُصول العمليّة هو دائماً الشكّ ، وأنت تعلم أنّ الإستصحاب لا يجري في الشبهات الحكميّة ، وإنما يجري في خصوص الشبهات الموضوعيّة فقط ، ففي كلّ موارد الشكّ في الشبهات الموضوعيّة يجب أن يكون مورد جريان الاُصول العمليّة هو الشكّ الفعلي المنجّز . ولذلك ، الأثرُ الشرعي لجريان الإستصحاب ـ كطهارة الثوب الخارجيـ يجب أن يكون حكماً شرعيّاً منجّزاً ، بل يجب أن يكون هذا أمراً واضحاً عند عوامّ المتشرّعة فضلاً عن علمائهم.

فمثلاً : إذا استصحبنا عدم طروء النجاسة ، أو استصحبنا عدم نزول الماء عن مقدار الكريّة ، أو عدم بلوغ الصبيّ ، أو عدم دخول وقت الفريضة ، فالآثار الشرعيّة المترتّبة هي الطهارة ظاهراً ، ووجوب البناء على بقاء الكريّة ظاهراً الذي يترتّب عليه عصمة الماء ، وبالتالي عدمُ انفعالِه بمجرّد ملاقاة النجاسة ، وعدم تنجيز التكاليف على الصبيّ ، ظاهراً ، وعدم تنجيز وجوب الفريضة عليه ، ظاهراً .. فطهارةُ الثوب مثلاً ـ التي هي الأثر الشرعي ـ ليست محرّكة ولا معذّرةً مباشرةً ، ولكنها شرط في صحّة الصلاة به ، وطهارة الماء موضوع لجواز شربه . ففي كلتا الحالتين ، طهارةُ الثوب ليست حكماً شرعياً تكليفياً ، وإنما هي شرط في صحّة متعلّق الوجوب ـ وهو الصلاة ـ ، فأثَرُ استصحابِ عدم طروء النجاسة يؤدّي إلى البناء على طهارة الثوب ، وطهارة الثوب شرط في صحّة الصلاة ، فيجوز لنا أن نصلّي الفريضة الواجبة بذلك الثوب ، وهذا هو الأثر الشرعي ، وطهارةُ الماء موضوعٌ لجواز شربه ، وجواز شرب هذا الماء هو أيضاً أثر شرعي.

هذا الركنُ الثالث دليلُه وجهان[2] :

الأوّل ثبوتي : وهو حكم العقل بلزوم أن يترتّب على الإستصحاب أثر شرعي ، وإلاّ إذا لم يترتّب أثرٌ شرعي ـ كأنْ يترتّبَ أثرٌ غيرُ شرعي ـ فلا يمكن جريانُ الإستصحاب ثبوتاً وعقلاً.

وبتعبير آخر : يجري الإستصحاب إذا كان يترتّب على الإستصحابِ أثرٌ شرعي ـ أي حكم شرعي وضعي أو تكليفي ـ وإلاّ لكان التعبّد بإجراء الإستصحاب لغوياً ، كأنْ يتعبّدَنا الشارعُ المقدّس بكون الحائطِ تفّاحاً أو برتقالاً أو ببقاء حياة زيد الذي ضاع صغيراً ليرتّب على ذلك أنّ لحيته قد نبتت وأنه زاد طولاً وعرْضاً وخَشُنَ صوتُه !!! فنبات اللحية ليس حكماً شرعيّاً ، فكما لم يكن للمولى جلّ وعلا أنْ يتعبّدَنا بكون الحائطِ تفّاحاً أو برتقالاً فليس له سبحانه أن يتعبّدنا بما ليس له أثر شرعي ، ولذلك لا يجري الإستصحاب فيما لو كان الأثر له هو نبات اللحية ونحو ذلك ، ذلك لأنّ نبات اللحية ليس أثراً شرعياً ، حتى ولو كان يترتّب على نبات اللحيةِ وجوبُ ذبح شاة ـ كما في المثال المعروف ـ .

ويترتّب على ما قلناه عدمُ جريان الإستصحاب في موارد ترتّب آثار غير شرعيّة ، حتى فيما لو كانت الواسطةُ خفيّةً ، لأنّ المشكلةَ عقليّةٌ لا لفظيّة.

 

والوجه الثاني إثباتي ، وهو أنّ أدلّة الإستصحاب ـ مثل "لا تنقضِ اليقينَ بالشكّ"[3] ـ منصرِفةٌ متشرّعيّاً إلى ما له أثرٌ شرعي . ومثالها ما لو استصحبنا طهارةَ الثوب فالأثر الشرعي هو صحّةُ الصلاة بالثوب ، وكذا لو استصحبنا طهارة الماء فإنّ الأثر الشرعي هو جوازُ شربِ الماء ، وهكذا يفهم المتشرّعة من التعبّد بالإستصحاب.

 

إذن ، بعدما رأيـتـَنا نبحث في هذا الركن الثالث في مثبَتات الإستصحاب وغيرها صار من الواجب علينا أن نبحث في النقطتين التاليتين :

 

1 ـ مثبتات الأمارات والأصول

لا شكّ أنك تعلم أنّ مثبتات الأمارات حجّة ، بخلاف مثبتات الاُصول العمليّة التي كنّا نتكلّم فيها حتى الآن ، أمّا وجه حجيّة اللوازم في الأمارات فقد أفاد المحقّق النائيني أنّ المولى تعالى حين تعبّدنا باعتبار الأمارة عِلْماً فإنّ هذا يعني أنه تعبّدنا بحجيّة الأمارة بكلا مدلوليها المطابقي والإلتزامي ، وذلك لكون كلا مدلولي العلم حجّة ، فكذا كلا مدلولي الأمارة حجّة. وهذا الكلام لا بأس به ، بناءً على مسلكه الذي تبنّيناه وهو مسلك الطريقيّة ، وقد أوضحنا دليلنا على هذا المسلك ص 180 واستدللنا على ذلك بآية النبأ وغيرها من الروايات.


[1] لكنك قد تتصوّر (كون ما في الحوض كرّاً) ليس شرعيّاً، وإنما تريده وتطلب التعرّف على مقداره بنحو العلم الوجداني الصفتي، وذلك كما لو أردت أن تضع دواءً معقّماً في الحوض فوجب أن تضعه بقياس دقيق كي لا يتضرّر الإنسانُ من استعمال الماء، فقاعدةُ الإستصحاب لا تنفع في هكذا حالة، ولا تُثبِتُ هذا الأثرَ الصفتي الوجداني، ونحن لم نذكر هذا الفرض في المتن لكونه خارجاً عن محلّ بحثنا ولبديهيّته.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo