< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/01/19

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : القِسمُ الثاني من استصحاب الكلّي
القِسمُ الثاني من استصحاب الكلّي : الشكّ في بقاء الكلّي الناشئُ من الشك في أصل حدوث فرده الوحيد، ومثالُه أن يَنذر شخصٌ أن يسبّح الله تعالى طالما في المسجد إنسان، ثم يَعلمُ بدخول إنسان في المسجد، مردّدٍ بين زَيد وعَمْرو، ثم يَعلم بوجود زيد في الخارج، فنشكّ في كونه هو الداخل إلى المسجد ثم بخروجه، أو بعدم دخوله أصلاً، بمعنى أنه إن كان هو الداخلَ فلا إنسان الآن في المسجد، وإن كان الداخل هو عَمْرو، فلا فرق بين أن نعلم أنه باقٍ الآن أو نشكّ في خروجه، لأنه في حال الشكّ في خروجه يصحّ استصحاب بقائه، المهم هو أنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبَّب عن الشكّ في أصل دخول عمرو، فقد ذهب الإمام الخميني والسيد الشهيد الصدر إلى القول بصحّة جريان استصحاب بقاء الإنسان بنظر العرف .
إذن القِسمُ الثاني هو أن يكون الشك في أصل حدوث فرد مسبِّب للشكّ في بقاء الكُلّي، فإنّ الشكّ في دخول عمرو مقرون بالعلم الإجمالي بدخول أحدهما . وقد قيل بصحّة جريان الإستصحاب في هذه الحالة إذا كان للجامع أثرٌ شرعي، ويسمَّى في كلماتهم بالقسم الثاني من استصحاب الكُلّي .
والتحقيق هو أنْ يفَصَّلَ بين ما لو كان نظرُ الشخصِ إلى الجامع من حيث هو جامع وبين ما لو كان نظره إلى الطبيعي من حيث هو موجود في الخارج، كما في مثال الإنسان السالف الذكر، فإنّ نظر الناذر إنما هو إلى الخارج لا إلى المفهوم الكلّي ممّا يَصْعُبُ معه القولُ بصحّة استصحاب الكلّي في هكذا حالة، كما ذهب إلى ذلك جازِماً الشهيد السيد مصطفى الخميني، وذلك لأنّ نظر الناذرِ إنما هو إلى الخارج، وليس في الخارج احتمالاتٌ إلاّ زيداً أو عَمْراً، لا غير، فحينما نظر ووجد زيداً في الخارج، وهو يشكّ في أصل دخول عمرو، فهو قطعاً يصعب عليه استصحابُ بقاء الإنسان، فأيّ إنسان يستصحب بقاءه ؟! بعد وجود زيد في الخارج، وعدمِ علمِه بأصل دخول عمرو !! بتعبير آخر : هل يجري استصحاب كلّيّ الإنسان بناءً على احتمال كون الداخل هو عمرو ؟! كلّ هذا يبعّدُ شمولَ أدلّةِ الإستصحاب لجامع الإنسان في هكذا حالة، ففي هكذا حالة ـ أي في حالة الشكّ في جريان الإستصحاب ـ يجب أن تجري البراءةُ عن وجوب التسبيح عليه، بعد عدم علمنا بجريان الإستصحاب في هكذا حالة، والأصل عدم حجيّة الإستصحاب في مواضع الشكّ، بَعْدَ بُعْدِ وجود إطلاق في البَين لهكذا حالة .
على أنّ مسألتنا هذه هي شبهة حكميّة، وذلك لأنك تشكّ في البقاء، وهذا الشكّ مسبَّبٌ عن الشك في حدوث الفرد الطويل الباقي، فهل في هكذا حالة يجري الإستصحاب أم لا، فهي إذن شبهة حكميّة واضحة، لأنّ الشكّ في مرحلة الجعل .

مثال آخر : لو علم شخصٌ أنه أحدث بحدث مردّد بين الأصغر والأكبر، فتوضّأ فقط، ولم يغتسل، فمن الخطأ أن يستصحب بقاءه على الحدث ـ كما قلنا ـ نعم يجب عليه أن يغتسل، لكن من باب أصالة الإشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وبتعبير آخر : يجب عليه أن يغتسل من باب عِلْمِه الإجمالي بطروء أحد الحدثين عليه، فيجب عليه رفع كلا الحدثين . أمّا أن يستصحب بقاءه على الحدث، فيغتسل، فهذا يصعب القول به جدّاً، وذلك لعدم عِلْمِه بأصل جنابته .
مثال ثالث : لو كان أحد الفردين داخلاً في الآخر من حيث الآثار ـ بخلاف المثال السابق، كما لو عَلِم شخصٌ بطروء نجاسة في الإناء، إمّا الدم وإمّا ولوغ الكلب، فإنه يجب عليه التعفير حتماً، لأنّ التعفيرَ يشمُلُ رفْعَ نجاسةِ الدم، ولا يُكتفَى بصبّ الماء القليل عليه مرّة واحدة، وذلك من باب أصالة الإشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وذلك لوجود علم إجمالي في البَين، لا من باب استصحاب كلّيّ النجاسة ـ وذلك لأنّ المنجِّس (بالكَسْر) ليس هو الجامع، وإنما هو الشيء الخارجي، والشيء الخارجي مردّد بنحو العلم الإجمالي بين شيئين متغايرين، فيجب أن نرفع آثارهما، لكن صادف أنّ آثارهما متداخلة في إناء واحد، وليستا في إناءين، فيكفي أن نغسل الإناء بالتعفير فقط، لأنّ التعفيرَ يشتمل على غسله بالماء أيضاً .
أمّا لو فرَضْنا مثالاً آخرَ يكون فيه النظرُ إلى الجامع من حيث هو جامع كان ما ذكرناه من صحّة جريان استصحاب الكلّي في هذا القسم الثاني ـ صحيحاً بلا شكّ، كما فيما لو نذر شخصٌ أن يبقى يسبّح الله طالما لا يوجد إنسان في المسجد، فإنه يبقى يستصحب عدم الإنسان، فهذا استصحاب للكلّي، وأمّا استصحاب عدم زيد فاستصحاب للجزئيّ كما هو واضح .

القِسمُ الثالث من استصحاب الكلّي : أن يكون الشك في حدوث فرد مسبِّبٍ للشك في بقاء الكُلّي شكاً بدْوِيّاً، ومثالُه اَن يَعلم الشخصُ بوجود الكُلّي ضِمن فرد، ثم يَعلم بارتفاعه بعد مدّة، ثم يَحتمِلُ أن يحدث فرد آخر حينَ زوال الفرد الأوّل أو قبل زوال الفرد الأوّل، بحيث يبقى الكلّي موجوداً، لكن ضمن فرد آخر . ويسمَّى هذا في كلماتهم بالقِسم الثالث من استصحاب الكُلّي . فلو علمنا بدخول زيد في المسجد، ثم عَلِمْنا بخروجه بعد ساعة، لكننا احتملنا دخول شخص آخر عند خروج زيد أو قبل خروجه بحيث لم يَخْلُ المسجدُ من إنسان، فهل لنا أن نستصحب بقاء وجود إنسان في المسجد أم لا يمكن ذلك ؟
قد يُتخيَّلُ جريانُ الإستصحاب على أساس تواجد أركانه في العنوان الكُلّي وإن لم تكن متواجدة في الأفراد، لكنه اشتباه واضح، فإنّ الجامع الثاني مغاير تماماً للجامع الأوّل، لأنه وجود آخر، وليس نفسَ وجود الأوّل .
وما أشْبَهَ مسألتَنا هذه بمسألة إعادة المعدوم يوم القيامة، إذ نقول هناك أيضاً بأنه لا يمكن إعادة المعدوم عقلاً، لأنه وجود آخر، مهما كان التشابه بينهما، ولذلك نقول بأنّ الإنسان لا يعدم تماماً، وإنما تبقى روحه موجودة، ليتعذّب هو نفسُه .
على أنّ هذا الإستصحاب هو أيضاً إستصحاب في الشبهة الحكميّة، وذلك لأنّنا على الأقلّ نشكّ في صحّة هكذا استصحاب، والأصلُ عدمُ التعبّد به، أي عدم حجيّته، حتى يثبت، طالما نستبعد وجود إطلاق في أدلّة الإستصحاب لهكذا حالة .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo