< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/03/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : آخر بحث الأصل المثبت وبداية بحث استصحاب الشرائع السابقة

المثال السابع : إذا وضع شخصٌ يدَه على مال الغَير وشككنا في أخذ الإذن مِن صاحب المال ، فمن الطبيعي أننا نستصحب عدمَ حصولِ الإستئذان وعدمَ حصول الإذن ، فبناءً على هذا كيف حكموا بالضمان مع أنّ موضوع الضمان هو كون اليد متعديّة ، والإستصحابُ لا يُثْبِتُ (كونَ اليدِ متعدّيةً) لأنّ هذا العنوان هو لازم عقلي لـ (عدم الإذن)، فكيف حكموا بالضمان ؟!!

الجواب : إنه ليس موضوع الضمان عنوانَ (كونِ اليد متعدّيةً) بل موضوعُ الضمان هو (كون اليد غير مأذونة) ، فالموضوع مركب من جزءين : أحدهما اُحرِزَ بالوجدان وهو كون اليد على مال الغَير ، والثاني هو عدم كونها مأذونة وهذا اُحرِزَ بالأصل .

المثال الثامن : تمسك العلماءُ في عقد الفضولي لتأثير إجازة المالك ـ في مورد الشكّ في وقوع الردِّ والرفضِ مِن قِبَلِ المالك قبل الإجازة ـ بأصالة (عدم صدور الردّ) لإثبات (عدم كون الإجازة مسبوقةً بالرّدّ) ! مع أنه من الأصل المثبت ، لأنّ (عدم كون الإجازة مسبوقةً بالرّدّ) ـ الذي هو موضوع تأثير العقد المجاز ـ هو من اللوازم العقلية لـ (عدم صدور الردّ) ، فكيف يستصحبون ويقولون بصحّة المعاملة مع الشكّ في حصول الردّ السابق على الإجازة ؟!

الجواب : إنه يمكن أن يكون موضوع التأثير مرَكَّباً مِنَ (الإجازة) و(عدمِ صدورِ رَدٍّ قبل الإجازة) فاُحرِزَ أحدُ جزئَيه بالوجدان ـ وهي الإجازة ـ والجزءُ الآخَرُ ـ وهو عدم صدور الرد ـ بالأصل ، ولا يَحتاج الحكمُ إلى إثبات عنوانٍ بسيط هو (عدم المسبوقية بالرَّدّ) حتى يكون من الأصل المثبت . على أنّنا نقول بصحّةِ البيع الفضولي حتى مع الردّ قبل الإجازة ، وذلك لما رواه في التهذيبين بإسناده عن علي بن الحسن بن فضال(فقيه ثقة فطحي) عن سندي بن محمد وعبد الرحمن بن أبي نجران(ثقة فقيه) عن عاصم بن حميد(ثقة فقيه) عن محمد بن قيس(البجلي ثقة فقيه مات 151 هـ ق) عن أبي جعفر ×قال : ( قَضَى أميرُ المؤمنين ×في وليدةٍ باعها ابنُ سيِّدِها وأبوه غائب ، فاشتراها رجُلٌ فوَلَدَتْ منه غلاماً ، ثم قَدِمَ سيِّدُها الأوّلُ فخاصم سيِّدَها الأخيرَ فقال : هذه وليدتي ! باعها اِبني بِغَير إذني ! فقال× : ( خُذْ وليدتَك وابنَها ) ، فناشده المشتري فقال× : ( خُذْ ابنَه ـ يعني الذي باع الوليدةَ ـ حتى يُنْفِذَ لك ما باعك ) ، فلما أخذ المشتري الإبنَ قال أبوه : أرسِلْ اِبني ! فقال : لا أُرْسِلُ ابنَك حتى تُرْسِلَ ابني ! فلما رأى ذلك سيِّدُ الوليدةِ الأولُ أجاز بيعَ ابنِه)[1] ، ورواها الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي نجران نحوه ، ورواها الصدوق في الفقيه بإسناده عن محمد بن قيس ، موثّـقة السند . قال الشيخ الطوسي : إنما أمَرَه أن يتعلق بولده البايعِ لأنه يَلزَمُه الدَّرْكُ ، ويجب أن يُغَرَّمَ الولدُ للمشتري ثَمَنَ الولدِ ليَفُكّ نفسَه منه ، فلما أجاز الوالدُ بيعَ الولدِ صار الأولادُ أحراراً . أقول : هي واضحة في الردّ قبل الإجازة ، ولا معارِض لهذه الرواية . وبهذا ينـتهي بحثُ (الأصل المثبت) ، والحمدُ للهِ ربّ العالمين .

8 ـ إستصحاب بقاء الشرائع السابقة وعدمُ نسْخِها

موضوع البحث هنا هو في أن المنسوخ من الشرائع السابقة هل هو جميع أحكام الشرائع السابقة أو بعضُها ؟ فنقول : لا مشكلة في القول بصحّة استصحاب بعض أحكام الشرائع السابقة مع عدم العِلْم بنسخها بالشريعة الإسلاميّة ، لكنْ يجب الفحص أوّلاً عن وجود تغيير في الحكم ، وذلك لوجود علم بنسخ بعض أحكام الشرائع السابقة ، فما لم يثبت فلا مشكلة في إجراء استصحاب بقاء أحكام الشرائع السابقة . فإن احتملت دخالةَ الزمان السابق في الحكم السابق ، فنقول : شأن الاستصحاب إلغاءُ هذا الإحتمال ، وبهذا قال بعض العلماء والفقهاء كالشيخ الأعظم الأنصاري وصاحب الكفاية[2] .

وخالف فيه جمع كالمحقق في الشرائع وصاحبي القوانين والفصول على ما حكي عنهما ، وكذلك أنكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي حفظه الله صحّةَ جريان استصحاب الشرائع السابقة فقال : (في جريان استصحاب الشرائع السابقة نقاش ، من ناحية عدم صحّة جريان (لا تنقض اليقينَ بالشكّ ، وإنما انقضه بيقين آخر) ، فالشريعة عندما تُنسخ فإنّ جميع قوانينها وأحكامها سوف تنسخ ! لا أنّ أصل الشريعة يقع في دائرة النسخ باستثناء بعض أحكامها ! ولذا كان المسلمون ـ في الصدر الأوّل للإسلام ـ ينتظرون الوحيَ الإلهي في كلّ مسألة من المسائل ، ولم يتمسكوا بأحكام الشرائع الماضية)(إنتهى)[3] .

أقول : لم يأتِ سماحةُ الشيخ بدليلٍ على ما يقول إلاّ أنهم كانوا ينتظرون نزول الوحي ! وهذا أمر فطري ، لكن بعد وفاة رسول الله الأعظم|وعدمِ عِلْمِنا بوجود حكم في شريعتنا الغرّاء في المورد الفلاني فما المانعُ من الرجوع إلى ما نعرفه من أحكام في الشرائع السابقة ، كقضيّة القرعة التي طبّقها أنبياء الله كزكريّا ويونس ‘، قال الله تعالى﴿ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [4] وقال ﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [5] وكحرمة الربا ، فعلى فرض عدم ورود حرمة الربا في الشريعة الإسلاميّة ما هو المانع من التمسّك بقوله تعالى﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الله كَثِيراً وأَخْذِهِمُ الرِّبَا وقَدْ نُهُوا عَنْهُ ، وأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً[6] ، وكجواز جهالة مقدار الجعل ، استشهاداً بقوله تعالى ـ في حكاية قصة مؤذن يوسف على نبينا وآله وعليه السلام ـ ﴿ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ المَلِكِ ، وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)﴾ [7] .

لا ، بل لا يجوز إنكارُ شرائع الله السابقة إلاّ بدليل على النسخ ، بل المقتضي لجريان الإستصحاب في الشرائع السابقة عدّة اُمور : (1) الإطلاق الأزماني لتلك الأحكام بعد عدم وجود مقيّد بتلك الأزمان والأشخاص ، و (2) ظهور ثبوت الأحكام في الشرائع السابقة بنحو القضية الحقيقية لعامّة المكلفين لا لخصوص تلك الملة ، و (3) إطلاق أدلّة الإستصحاب ووجود أركانها ، والمانع مفقود . وقدّمنا الإطلاقَ على الإستصحاب لكونه وارداً عليه .

فإنْ قلتَ : لكنْ يوجدُ علمٌ إجمالي بارتفاع بعضها !

قلتُ : هذا العلم الإجمالي منحلّ بالأحكام الكثيرة المعلومة لدينا ، فلا يبقى عندنا علم بمغايرة بعض أحكامهم التي نحن بصدد الإستفادة منها عن أحكام الإسلام الحنيف .

وإن قلتَ : هذا استصحاب في الشبهات الحكميّة ، وأنت لا تقول به !!

قلتُ : نحن هنا إنما نستصحب عدمَ طروء النسخ على الأحكام المرادِ استصحابُها لا أكثر ، وبالتالي نبني على بقائها ، وهذا لا إشكال فيه أصلاً ، وليس هذا من قبيل نقاء الحائض التي تغيّرت حالتها المحتملُ دخالتُها في موضوع الحكم . ونحن إنما ننكر جريان الإستصحاب في مثل مسألة الحائض التي نـَقَت، لا في حالة احتمال بقاء الحكم الشرعي ونسخه، ولذلك نحن نستصحب بقاء الأحكام الواردة في شريعتنا التي نشكّ في نسخها بلا أي إشكال في ذلك .

وإن قلتَ : الثابتُ في أحكام الشرائع السابقة هو أنها نزلت لأُولئك الأناس الذين كانوا موجودين في تلك المرحلة الزمنيّة السابقة ، ولم يُعلم بنزولها لنا نحن أيضاً ، أي لم يعلم بشمولها لنا أيضاً ، فكيف تستصحبها وأنت لا تعلم بأصل ثبوتها بلحاظ اُمتنا هذه ؟! أي كيف تستصحب والركن الأوّل للإستصحاب غير موجود ؟!

قلتُ : نحن لا ندّعي العلم الوجداني بشمول تلك الأحكام لهذه الاُمّة وإلاّ لانتفى أصل البحث ، ولكننا نـتمسّك بظهور إطلاق وشمول تلك الأحكام لكلّ زمان ومكان ، وهو ما يطلق عليه بـ الإطلاق الأزماني ، إذ يفهم الناس مِن ذِكْرِ القرعةِ في القرآن ـ والذي نزل لهداية البشر ـ وأنها فَعَلَها الأنبياءُ ^ يفهمون من هذه القرائن أنها مشروعة لكلّ زمان ومكان ، ويفهمون من جواز جهالة الجعل ـ كما في قصّة يوسف × ـ أنها مطلقة حتى لزماننا ، لأنّ ذكر الله تعالى لها يشير إلى ذلك ، وكذا لو ورد بعض الأحكام الشرعيّة من الشرائع السابقة على ألسنة أئمّتنا المعصومين ^، فالمتبادر عند المتشرّعة جوازُ أو وجوب اقتدائنا بالأنبياء السابقين ^ بدليل أنّ دين الله واحد ، وأنّ الأصل هو أنها حقّ كلّها ، على ما هي عليه ، لكلّ زمان ومكان ، وأنّ الأصل هو عدم المقتضي لتغيير الأحكام الإلهيّة إلاّ أن يثبت ذلك .

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo